فى مكتبه برئاسة الجمهورية، جلس محمد أنور السادات، نائب الرئيس، يستعيد مجريات الأحداث فى مصر، منذ العدوان الثلاثى 1956، وحتى صدور دستور 1964. وفيما تبدو أنها محاولة لتنظيم أفكاره المضطربة، قرر «السادات» تحويلها إلى نقاط مكتوبة. ثلاث محطات رئيسة توقف أمامها «السادات»، أثناء تلك الفترة، فدوّنها مصحوبة بخواطره على ورقة تحمل شعار «رئاسة الجمهورية العربية المتحدة»: «الإنذار الثلاثى 1956». «الشعب فى 9 و10 يونيو»، يقصد المظاهرات الشعبية الرافضة لتنحى جمال عبدالناصر. وأخيراً «صيف 1964 وتسليم المسؤولية». تنتهى المساحة الصالحة للكتابة فى الورقة، فيسحب نائب الرئيس ورقة أخرى.
يحرص على ترقيم الصفحات بما يوحى بأهمية التسلسل، وأن ما سيكتبه فى الورقة الثانية مبنىّ على ما جاء فى الأولى. لكنه، وبطريقة كاشفة لطبيعة شخصيته غير الاعتيادية، يغير أسلوبه فى التفكير، ويستحضر من الذاكرة اقتباسات أدبية بدلا من الأحداث السياسية. تذهب ذاكرة «السادات» إلى فرنسا، إحدى دول العدوان الثلاثى، ليقتبس من الروائى الفرنسى أونوريه دى بلزاك، مؤسس مدرسة الواقعية فى الأدب الأوروبى، جملة «القوة لا تلغى الحق.. ولكن الحق لا يبقى بغير القوة». وتطير الذاكرة بعد ذلك إلى الدولة الثانية فى العدوان، إنجلترا، ولكنه يبتعد عن ضيق صدر «الواقعية» إلى سعة خيال المسرح، ويقتبس من جورج برنارد شو قوله: «التقدم مستحيل بلا تغيير، والذين لا يغيرون أفكارهم لا يستطيعون تغيير أى شىء آخر». يتأمل نائب الرئيس الجملتين، ثم يتساءل: «القلق.. لماذا؟ والخوف.. لماذا؟». مرور نحو 9 سنوات على هذا التساؤل الفلسفى كان كفيلا بتغيير شكل الورق الذى يستخدمه «السادات»، والمحتوى المكتوب فيه، تغييرا جوهريا. على مستوى الشكل حلت كلمة «الرئيس» محل «رئاسة الجمهورية العربية المتحدة»، وختم الجمهورية المستخدم فى عهد الرئيس الأول محمد نجيب، بدلا من نسر الجمهورية العربية. أما المحتوى فتحول من محاولة لفهم أحداث سياسية وأفكار مرتبطة بها، إلى ملامح خطة حرب حقيقية، لكن على طريقته الخاصة.
بحنكة سياسية يدوّن الرئيس محمد أنور السادات أفكاره العسكرية باختصار، فيعجز عن تفسيرها سواه، ويُصاب المطلع عليها بالارتباك، فعلى سبيل المثال يعنون «السادات» إحدى أوراقه بـ«المحاور الرئيسية»، ويعدد تلك المحاور: «إنزال بحرى وبارشوت فى المنطقة قبل وفى نفس الوقت الغواصات»، و«دوريات لأهداف رئيسية محدودة (مزدوج)»، و«دوريات لمهمات مواقع المدفعية البعيدة والصواريخ فى العمق»، و«المحور الجنوبى بخلاف القوات الخاصة».
عشرات الصفحات يدون عليها «السادات» ملامح خطته العسكرية، والتزاما بطريقته «غير الاعتيادية» فى التفكير، يستحضر من الذاكرة اقتباسات تاريخية تخدم أفكاره. تتجه الذاكرة غربا أيضا هذه المرة، لكنها لا تعود بجمل أدبية، وإنما برأى للقائد البريطانى، برنارد مونتجمرى، قائد قوات الحلفاء الذى هزم قوات المحور فى شمال أفريقيا: «النزول على أوسع مواجهة ممكنة، لإمكان التحرك بحرية للمعارك الأرضية وتجنب الزحام (قرار مونتجمرى قبل الغزو)». من التداعى الحر للأفكار المتناثرة إلى الكتابة المنظمة، تكشف لنا أوراق قائد نصر أكتوبر أن تحليل أسباب النكسة والتفكير فى مقومات النصر تصدر قائمة أولوياته، لدرجة أنه قرر أن يكتب مذكراته «عن الفترة من 8 يوليو 1967 إلى 27 يوليو 1970» لتكون «عبرة لنا وللأجيال من بعدنا»، كما برر فى مقدمة تلك المذكرات. ويقترح «السادات» فى مذكراته خطتين لإعادة بناء الجيش، الأولى قصيرة من عنصر واحد وهى «إعادة الروح المعنوية للقوات»، والثانية طويلة تعتمد على الأخذ بالأسلوب الروسى، «أى أن تبدأ الدراسة العسكرية فى سن مبكرة جدا، حيث تتكون أحلام الفتى، وتكون احترافا، فالعدو سواء أمريكا أو إنجلترا أو إسرائيل باق أمامنا فى المستقبل، فلابد أن يكون الجيش على أعلى درجة من الوعى الذى يغرس فى سن مبكرة سواء كان عسكريا أو سياسيا لنوجد المقاتل المحترف الشرس».
يرى «السادات» أن تطبيق تلك الخطة يتطلب «الارتباط مع الاتحاد السوفيتى بالتدريج أو حسبما تقتضيه الظروف الدولية» ولكنه يصر على وضع أسس صريحة وواضحة لهذا الارتباط «حتى لو وصل الأمر إلى إعطاء قواعد له، ولكننى أفضل اندماجا من غير قواعد بين قواتنا وقواته بمعنى أنه فى حالة حدوث معارك لابد أن نكون فى الوضع الذى يكون فيه ضمن قواتنا المسلحة المدرعة والطيران بالذات أفراد سوفيتيون». ويشدد على ضرورة وضع خطط مشتركة مع الجانب السوفيتى «حتى نستفيد من التقدم التكنولوجى الذى يجعلنا فى الصورة الحقيقية، فالمؤكد أن إسرائيل تحصل على كافة ما تريد من معلومات عن طريق أمريكا وطائراتها للتجسس ووسائلها التكنولوجية الحديثة كلها». ينتقل «السادات» فى مذكراته من خطط التعامل مع الجيش إلى التعامل مع الشعب، وهنا يظهر تاريخ 9 يونيو مرة أخرى؛ حيث يقترح «أن تُستغل التعبئة الشعبية التى لم نصل إلى مثلها فى يوم من الأيام حتى فى أوج انتصاراتنا والتى بلغت القمة فى السبع عشرة ساعة التى انقضت بين إعلان الرئيس تنحيه ثم عودته».
ويستنتج «السادات» من أحداث السبع عشرة ساعة «أن الثلاثة أجهزة الرئيسية منعزلة عن الشعب ولا تعرف حقيقته، لأن الصورة التى كانت موجودة هى أن العمال متذمرون والفلاحين متذمرون والموظفين، وكل الشعب فى الوقت الذى خرج فيه العمال والفلاحون وصغار الموظفين- وكل الشعب فى صلابة رهيبة- يتحدى العدوان ويتحدى التسليم، ويطالب بكل إيمان وإصرار بالتضحية أيا كانت وراء الرئيس فى الوقت الذى كنا فيه فى أحلك ساعات الهزيمة». ويخرج من هذا الاستنتاج بأنه «لابد من إعادة التنظيم فوراً وقبل أن يفتر حماس الشعب أو تبدأ التساؤلات والإشاعات». ومن أجل إعادة التنظيم يقترح السادات فى مذكراته روشتة عمل تقوم على «تحديد عدو الشعب لكى تظل الجماهير معبأة، وفى كل العالم لا تعبّأ الشعوب إلا ضد عدو خارجى حتى فى أمريكا التى تفعل حكومتها ما تريد تحت اسم مقاومة الشيوعية، عدونا بصراحة محدد أمريكا وبريطانيا وعميلتهما إسرائيل». وبعد عرض سريع للأحداث منذ 8 يوليو 1967، أظهر تطبيق عناصر كثيرة من روشتة للإصلاح يكتب «السادات»: «اليوم وفى يوليو 1970 تحسّ إسرائيل بما كنا نحسّ به فى 1967 مع فارق طبعا ولكن فى بساطة هم يخافون ونحن نزداد كل يوم أملا وثقة وتصميما وهم فى طريق مسدود».. ويختتم مذكراته بـ«الحمد لله».
المصرى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى