قبل أيام قلائل، كانت المعاهد البحثية الأمريكية تمتدح جون كيري، واصفةً إياه بوزير خارجية الأمر الواقع، وتشيد بنظريته حول دبلوماسية النفوذ، وتتداول أخبار شرائه لـ"جرو" جديد، منوهة لحكمة قراراته في قضايا مختلفة متعلقة بعدة قضايا، واليوم تذهب هذه الصحف في اتجاه آخر يتعلق بمصداقة جون كيري، وبخاصة حيال الأزمة المصرية، وطفا إلى السطح الخلاف بينه وبين مستشارة الأمن القومي سوزان رايس.
كانت رايس قد أشارت على كيري، إلى أن يطلق تصريحات قوية فيما يتعلق بمحاكمة الرئيس مرسي، سواء في الغرف المغلقة أو على الملأ، لكن كيري تجاهل نصيحتها، وذكر أن "الوضع في مصر في طريقه نحو الديمقراطية"، ولم تمض أيام على زيارته الخاطفة للقاهرة حتى أطلق تصريحًا آخر أكثر نارية يتهم فيه الإخوان بـ"سرقة الانتخابات". وهو ما يفتح الباب لتقييم أداء الخارجية المصرية في الشرق الأوسط أمام الصحافة الأمريكية.
أخطاء سياسية
خلال الأيام الماضية، أقدمت السلطات المصرية المدعومة عسكريًا باقتراف عدد من الجرائم، سواء بنفسها، أو من خلال وكلاء قانونيين لها في بنية الهيكل العام للسلطة في مصر فيما يتعلق بالحريات وقمعها الوحشي المفضي إلى الموت، مرورًا بإصدار قانون لمنع التظاهر يجعل الشرطة المصرية المرجعية النهائية في قبول طلب التظاهر من عدمه، فضلاً عن تمكين هذا القانون للشرطة من تحصيل معلومات عن المتظاهرين تمكنها من اعتقالهم قبل موعد المظاهرة.
ولقد "اتسع الخرق على الراتق"؛ أو كما يقال "اتسع نطاق العنف ضد التظاهر السلمي، لدرجة ما عاد بالإمكان التغطية عليها سياسيًا، وبخاصة؛ بعد أن اتسعت رقعة المعارضة للحكومة المدعومة عسكريًا، لتطال التيارات الثورية الشبابية قاطبة؛ بدءًا من حركة شباب 6 أبريل، وحركة الاشتراكيين الثوريين.
بل إن حركة تمرد بمحافظة الإسكندرية قامت بحل نفسها احتجاجًا على حكم قد صدر عبر محكمة جزئية (درجة أولية من درجات التقاضي) بسجن عدد كبير من الفتيات مدة 11 عامًا بتهم ملفقة كـ"البلطجة" و"حمل السلاح" عقابًا لهن على تخصيصهن فترة نصف ساعة قبل الذهاب للمدرسة، لتنظيم وقفة احتجاجية أو سلسلة بشرية احتجاجية ضد حكومة الببلاوي المدعومة من قيادات القوات المسلحة.
وباتساع نطاق المعارضة، أقدمت الحكومة المدعومة عسكريًا على اعتقال رموز أساسية من شباب الثورة. ومن خلال تحليل خطاب القوى الشبابية، يمكن التأكيد على أن هذه القوى كانت تعترض فقط على قانون التظاهر، لكنها كانت تدعم "خارطة المستقبل" التي أعلنها قائد الانقلاب العسكري الفريق أول عبد الفتاح السيسي. لكن مع اعتقال علاء عبد الفتاح الناشط الذي يعد من أيقونات الثورة، والاعتداء على زوجته أثناء اعتقاله، بدأ الخطاب يختلف.
القوى الثورية الشبابية كانت ترى في الحكومة المدعومة عسكريًا خصمًا عتيدًا لا يمكن التساهل معه، لكنها كانت تتريث لحين اكتمال محطات "خارطة المستقبل"، لكي تتمكن من الحكم على التجربة بعد اكتمال أركانها. كما كانت ترى في الإسلاميين خصمًا آخر؛ استنادًا لما ارتكبوه من أخطاء قاتلة في حق شركاء الثورة أثناء تجربتهم في بؤرة السلطة. وكانت القوى الشبابية ترى في صدام "التحالف الوطني لدعم الشرعية" مع الحكومة المدعومة عسكريًا وسيلة لإضعاف كليهما؛ مما يحول دون تفكير قيادة الانقلاب في تطويره.
غير أن السلوك السياسي غير الرشيد للحكومة المدعومة عسكريًا، والمدفوع بآمال وأحلام أجهزة الأمن المصرية أكثر من كونه مبنيًا على معلومات حقيقية عن مدى ومعدلات اتساع نطاق رفض الشارع لإجراءات الانقلاب وحكومته، كل هذا أدى لتحولات في الخطاب وفي أرضية التواصل. فنجد أحمد ماهر يجري لقاء حصريًا مع "الجزيرة مباشر مصر" (المعروفة بكوادرها المصرية الثورية)، ونجد خطاب والد علاء عبد الفتاح يصعد خطاب المواجهة القانونية مع الحكومة المدعومة عسكريًا، ويأتي هذا في توقيت قبلت فيه المحكمة الجنائية الدولية قبول أوراق الدعوى الجنائية ضد قيادات الانقلاب وشخوص حكومته.
الولايات المتحدة تدفع ثمن خطأ كيري
معروف بشكل عام أن الحزب الديمقراطي أقل حساسية حيال قضية تطبيق الديمقراطية، وفي هذا السياق، قام ما تسميه معاهد البحوث الأمريكية بوزير خارجية الأمر الواقع، بالاتفاق على مشهد تمثيلي مخابراتي قوامه أن تقوم مصر بعملية خداع سياسية بتصوير مستقبل الشرق الأوسط على أنه الجبهة الإستراتيجية المرتحلة نحو القطب الدولي الأضعف "روسيا"؛ لكي يبرر تأييده للانقلاب؛ مستثمرًا تخوفات الخليج من الربيع العربي لدفعهم للمشاركة في هذا المشهد.
وقبل يوم من محاكمة الرئيس السابق محمد مرسي، زار وزير الخارجية الأمريكي مصر، ليصرح منها بأنه يشهد تقدم "خارطة المستقبل" فيها نحو الديمقراطية. ولم تلبث أيام حتى أقدمت الحكومة المدعومة عسكريًا على مسالك سياسية وحشية وغير حكيمة قادت إلى مواجهات مرشحة لمزيد من الاشتعال. وهو ما دفع قطاع من الصحافة الأمريكية إلى ترك الحديث عن جون كيري المحنك، ودبلوماسية النفوذLeverage Diplomacy، وأخبار شرائه لـ"جرو" جديد، وتفاصيل موقفه من إحدى قضايا زواج الشواذ جنسيًا، لتطرح سؤالاً عن تصريحات جون كيري عن الديمقراطية في مصر. وبات طموحه في خلافة أوباما في البيت الأبيض مهددًا. والمشكل الذي يزيد طين كيري بلة، أن أداء أوباما محط نقد عام، في الوقت الذي يعالج فيه بيوت الفكر الأمريكية Think Tanks، الأمر، في إطار أن الحكومة المدعومة عسكريا في مصر وسائر دول منطقة الشرق الأوسط كانت تتلقى رؤى مضطربة من الإدارة الأمريكية انقسمت ما بين البيت الأبيض من ناحية (ذات نزوع مؤيد للديمقراطية) وبين البنتاجون ووزارة الخارجية تدفع الحكومة الانقلابية نحو التشدد.
وتحدثت الصحف الأمريكية عن عدة أمور تتعلق بمصر، منها التوتر في العلاقة بين جون كيري ومستشارته للأمن القومي سوزان رايس. وكان الكونجرس قد أعرب عن تقييم ضعيف لأداء رايس من قبل، وهو ما يدفع البعض؛ بمساعدة من الجمهوريين، لمناقشة التوتر بما يرجح كفة أداء رايس في نصيحتها لوزير الخارجية الأمريكي. يبدو الضغط على كيري موجهًا لسياسته بصورة أكبر من توجهه لإدارة أوباما الذي آثر توجيه اهتمامه الأساسي لقضية العلاقات مع دول العشرين التي اتهمت أمريكا بالتجسس عليهم.
هل تؤدي الضغوط لتعديل كيري لتوجهاته حيال المسألة المصرية؟ وهل تؤدي لتعديل جدول زياراته للمنطقة في الشهر القادم، ليضم مصر إلى جانب زيارته المقررة للأراضي الفلسطينية المحتلة؟ هذا ما ستكشف عنه أجندة المراجعات الأمريكية خلال الفترة القصيرة القادمة. وحتى ذلك الحين، فإن تطورات المشهد المصري تعد محددًا أساسيًا لمسار هذه المراجعات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى