لقي مسلحو داعش ترحيبا من العرب السنة في مدينة الموصل
سواء نجحت الحكومة المركزية العراقية في بغداد في صد التقدم الأخير، الذي حققه مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، أم لا، فإن تلك الحكومة تواجه تحديا خطيرا.
استيلاء تنظيم داعش، المرتبط بالقاعدة، على معظم ما يسمى بالمثلث السني، بالإضافة إلى مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق، التي يقطنها ما يقرب من مليوني نسمة، يدق مسمارا قاتلا في نعش مشروع بناء الدولة في مرحلة ما بعد الرئيس الراحل صدام حسين.
وتعيش المؤسسات العراقية الهشة الآن حالة يرثى لها.
ومن غير المؤكد أن تستطيع حكومة بغداد بعد الآن أن تحتكر استخدام القوة في البلاد، أو أن تمارس سلطة مركزية على تمرد العرب السنة، أو على إقليم كردستان الذي يتمتع بالحكم الذاتي.
ويمثل السيناريو الأفضل للعراق تراجع سلطة الحكومة المركزية لصالح سلطات لا مركزية للشيعة والعرب السنة والأكراد.
أما السيناريو الأسوأ فهو تفكك الدولة العراقية إلى ثلاثة كيانات منفصلة.
نزح مئات الآلاف من الموصل عقب سيطرة داعش عليها
وكشف التقدم السريع الذي حققه مسلحو داعش ضعف بنية ومؤسسات الدولة العراقية، إلى جانب حالة الشقاق الإيديولوجي والطائفي العميق التي يعانيها المجتمع.
وبعد ثماني سنوات من احتكار السلطة، لم يستطع رئيس الوزراء نوري المالكي تحقيق الأمن أو المصالحة أو الرخاء.
وانهارت قوات الجيش العراقي، الذي يبلغ قوامه مئات الآلاف من الجنود، تقريبا أمام الهجوم الكاسح الذي شنه بضعة آلاف من مقاتلي داعش المسلحين بأسلحة خفيفة.
وبعد أكثر من عقد على إزاحة القوات الأمريكية لنظام صدام حسين وتفكيك جيشه، لا يزال الجيش العراقي الجديد يفتقر إلى الهوية الموحدة والحرفية ويسوده بالفساد.
على سبيل المثال، استولى مسلحو داعش على الموصل بدون عناء يذكر وكأنهم في نزهة، لأن كبار وصغار الضباط في الجيش العراقي فروا من مواقع خدمتهم، وتركوا أسلحتهم وأمروا الجنود بالفرار إلى منازلهم.
واختفت قوات الجيش العراقي في الموصل التي يبلغ قوامها عشرات الآلاف.
وفي سبيل إنقاذ السفينة الغارقة، قال ممثل المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني إن "الدفاع عن العراق وشعبه والأماكن المقدسة واجب على كل مواطن يستطيع أن يحمل السلاح ويقاتل الإرهابيين".
وانضم جيش مواز يقدر عدده بنحو 100 ألف من المتطوعين معظمهم من الشيعة للمعركة، الأمر الذي يزيد من مخاطر الحرب الطائفية.
تطوع الشباب الشيعة للقتال ضد داعش وحماية الأماكن الشيعية المقدسة
ولتجنب سوء تفسير دعوته لحمل السلاح، عدل مكتب السيستاني بيانه في وقت لاحق، محذرا مؤيديه من "أي تصرف يحمل طابعا طائفيا أو عرقيا قد يضر بوحدة الشعب العراقي".
نظام منهار
من التضليل أن نبالغ في القدرات العسكرية لداعش كما تفعل الكثير من التقارير في وسائل الإعلام الغربية.
إن قوة داعش لم تأت فقط من ضعف الدولة العراقية، لكن أيضا من الانشقاقات المجتمعية والشعبية التي تمزق المجتمع العراقي. إنها علامة على تمرد أكبر من رجال العشائر العرب السنة ضد ما يرونه استبدادا طائفيا من جانب المالكي.
وفي قلب المعركة المحتدمة في العراق، يوجد نظام سياسي منهار، يعتمد على المحاصصة أو توزيع مغانم السلطة على أسس طائفية وعرقية وقبلية. وأسس هذا النظام بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وشعر العرب السنة، خصوصا خلال السنوات الأربع الماضية، بأنهم قد تم إقصاؤهم وتهميشهم بسبب ما يرونه سياسسات طائفية يتبناها المالكي.
وحينما غادرت القوات الأمريكية العراق عام 2011 كان فكر تنظيم القاعدة في العراق في تراجع ولا يتمتع بشعبية بين السنة.
لكن بعد مرور ثلاث سنوات، نهض تنظيم داعش من جديد حيث وجد حضانة شعبية وسط العرب السنة الغاضبين والمهمشين.
السلطة اللامركزية
استغل أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش الفرصة التي أتاحتها الانتفاضة المسلحة ضد الرئيس السوري بشار الأسد، ووسع من أنشطة التنظيم إلى سوريا المجاورة، وأسس قاعدة قوية أتاحت له تجنيد المزيد من الأشخاص وكذلك أصول ثمينة على مستوى المال والعمليات.
وتحالف تنظيم داعش مع جماعات سنية متمردة مثل الضباط السابقين في جيش صدام حسين، وضم مئات من هؤلاء الضباط المدربين إلى صفوفه.
وكانت هذه الخطوة نقطة فارقة في قدرة التنظيم على تخطيط وتنفيذ عمليات عسكرية معقدة في كل من العراق وسوريا.
ورحب السنة في مدن الفلوجة والموصل وتكريت وبلدات أخرى بمسلحي داعش واعتبروهم مخلصين، وانضم مزيد من الرجال المسلحين إلى صفوف التنظيم.
الأمر الأكثر إزعاجا، أن الضباط السنة في جيش المالكي الذين غادروا مواقعهم العسكرية، تردد عنهم قولهم إنهم لن يقاتلوا في صفوف حكومة المالكي، وهو تطور يعكس خطورة التصدع الطائفي والسياسي الذي يعانيه العراق اليوم.
ويساعد هذا الأمر على تفسير السقوط المدوي للقوات النظامية العراقية.
لقد قررت القبائل السنية والضباط السابقين في جيش صدام مصير المثلث السني.
وتعد داعش مجرد قاطرة قوية لتظلمات العرب السنة، لكن هذه القاطرة قد تسحق في نهاية الأمر تطلعات السنة والدولة العراقية على حد سواء، وهو الأمر الذي بدأت علاماته بالفعل في الظهور.
في الموصل، بدأت داعش في فرض قوانينها المتشددة، وهو ما سبب انزعاجا وسط حلفائها القوميين الدينيين والقبليين، الذين نصحوها بالحذر والتشاور معهم قبل فرض أي قوانين.
وحتى إذا استطاعت الدولة العراقية استعادة المدن التي سيطرت عليها داعش، فإنها لن تكون قادرة على استرضاء سكانها بدون منحهم لا مركزية في اتخاذ القرارات، ونقل السلطة من بغداد إلى المستويات المحلية.
موت النظام القديم
بعد تقدم داعش، سيطرت قوات البشمرجة الكردية على مدينة كركوك الغنية بالنفط
يجب أن تمنح العديد من الجماعات سلطات لحكم نفسها بنفسها، وأن تشعر بأنها شريك في المشروع الوطني، وهي مهمة رئيسية لإنقاذ الدولة العراقية الهشة، وتخليص البلاد من داعش وغيرها من الجماعات المتمردة.
لقد مات النظام القديم، وهناك حاجة ملحة الآن لإعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي على أسس جديدة وهي المواطنة وحكم القانون.
ولن تتحق المصالحة أو بناء المؤسسات دون عقد اجتماعي جديد يقوم على لا مركزية السلطة والمشاركة العادلة في الموارد.
لكن لا يوجد أي ضمان للنجاح في ذلك، بالأخذ في الاعتبار تزايد عوامل الانشقاق وفقدان الثقة بين العراقيين.
أما الأكراد الذين بدوا الرابح الأكبر مما يجري في العراق، فربما يترددون كثيرا في التنازل عن المكاسب التي حققوها مؤخرا بسيطرتهم على مدينة كركوك الاستراتيجية والغنية بالنفط، وتعزيز حدود إقليم كردستان العراق.
وفي سياق مشابه، فإن قيادة العرب السنة لم تتقبل بعد الحقائق الجديدة لعراق ما بعد صدام حسين، ولا تزال تراودها أوهام بإمكانية حكم البلاد، ولعب شيوخ العشائر دور المشجعين لتنظيم داعش، وبدوا سعداء بالنصر الكاسح.
احتكار الشيعة للسلطة
ناشدت الدول الغربية المالكي مد يده للسنة لإعادة بناء الوحدة الوطنية
ويتحمل المالكي، إلى جانب القيادة الشيعية، المسؤولية الكبرى عن فشل العراق.
فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق وإزاحة صدام، عاملت القيادة الشيعية للبلاد العرب السنة كمواطنين من الدرجة الثانية، واعتبرت الأغلبية العددية للشيعة مسوغا لاحتكار السلطة.
ويعتمد مستقبل العراق على مدى إرادة الطبقات الاجتماعية المسيطرة لأن تكون على مستوى التحدي التاريخي، وتقديم المصالح الوطنية على مصالحها الضيقة.
وإذا نظرنا إلى التاريخ، فربما تخذل النخبة الحاكمة الشعب العراقي مرة أخرى، ما قد يؤدي لعواقب كارثية على البلد الذي مزقته الحرب وعلى النظام الإقليمي والدولي أيضا.
فواز جرجس يشغل مقعد الإمارات في مركز دراسات الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وألف العديد من الكتب منها، "الشرق الأوسط الجديد: الاحتجاجات المجتمعية والثورات في العالم العربي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى