نشر فى : الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 10:47 م | آخر تحديث : الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 11:18 م
كلمتى أمام مؤتمر مدريد كانت إعلانا لعودة مصر لدورها القيادى بين العرب
نجحت فى احتواء السودان بعد محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا بالتعاون مع عثمان إسماعيل
«الشك المفرط» هو المسيطر على ذهنية القيادة السورية سواء فى الرئاسة أو الخارجية
سر نكتة «جامبو على جانبو» بين مبارك وحمد بن خليفة وحمد بن جاسم
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001 والصادر عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبوبكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (الحاقة ــ 19) ــ يكشف موسى عن تفاصيل علاقته بالعالم العربى وقادته خلال الحقبة التى تولى فيها وزارة الخارجية (1991ــ 2001).
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وبقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.
طبيعى أن يكون أكثر ما يسيطر على تفكيرى فور تعيينى وزيرا للخارجية فى 20 مايو 1991م، هو إعادة مصر لمكانها الطبيعى فى قلب العالم العربى، وهو مكان لا يستطيع أحد أن يملأه غيرها. كانت سنوات تعليق عضوية مصر فى الجامعة العربية (1979 ــ 1989م) بسبب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل تلقى بظلالها على طبيعة الحضور المصرى فى العمل العربى المشترك وآثاره الإقليمية خلال تلك الفترة؛ فبرغم عودة الجامعة إلى القاهرة، وانتهاء مقاطعة مصر، كنت أشعر أن عودتها لم تكتمل بعد، وأنه ينقصها اتخاذ موقف قوى يجتمع العرب حوله، وخطة يجرى تنفيذها باسمهم. رأيت أن دعم ومساندة الحقوق الفلسطينية خلال هذه الفترة لم يكن على المستوى المطلوب من الجميع؛ وأنه يجب إحداث حركة فى هذا الملف قبل سواه.
من أولى المناسبات التى رأيت أنه يتحتم على استغلالها فى إحداث مزيد من الدفء للعلاقات المصرية ــ العربية، مناسبة انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، الذى بدأ أعماله فى 30 أكتوبر 1991م. قررت أن أجعل من كلمة مصر أمام هذا المؤتمر الكبير مناسبة لاعطاء الإشارة للقاصى والدانى أن مصر عادت للعب دورها القيادى فى العالم العربى، وفى الشرق الأوسط على اتساعه.
كانت لمخاطبتى للمؤتمر بعبارة «نحن العرب» وقعا إيجابيا فى العالم العربى كله، فها هى مصر (الشقيقة الكبرى) عادت للتحدث باسم العرب، لا باسمها فقط كما جرت العادة منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وهو ما أغضب الإسرائيليين والأمريكيين؛ ذلك أنهم فهموا عبارة «نحن العرب» رسالة مختلفة من مصر. علقت إحدى الصحفيات الأمريكيات على هذه العبارة بقولها «تانى!!»، فى إشارة إلى عودة مصر الرسمية للحديث باسم العالم العربى كما كان الأمر فى الحقبة السابقة على توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. الواقع أنه كان لهذه العبارة مفعولها الأكيد فى جعل العالم العربى يشعر بأن خطابا مصريا مختلفا قد جاء مع وزير الخارجية المصرى الجديد.
هرطقات القذافى
فور تعيينى وزيرا للخارجية، سرى همس قاده الرئيس الليبى الراحل، معمر القذافى، مؤداه أن عمرو موسى القادم من نيويورك لترؤس الدبلوماسية المصرية ما هو «إلا مبعوث أمريكانى لمصر»، معتقدا ربما أن نيويورك هى عاصمة الولايات المتحدة لا مقرا للأمم المتحدة التى كنت أمثل بلادى فيها! كان هذا الكلام مفاجئا لى، ولكل من يعرفنى من الدبلوماسيين العرب.
بعد تعيينى بفترة قصيرة جاء القذافى فى زيارة إلى القاهرة. نصب خيمته الشهيرة فى قصر القبة الرئاسى؛ ولأنه كان يتشكك فى شخصى وفى نواياى أرسل هدايا تذكارية (ساعة يد) لكبار المسئولين المصريين، أعضاء الوفد الرسمى الذى خاض مباحثات مع الوفد المرافق له إلا وزير الخارجية. كان قد وصلنى ما يردده بشأنى، لكننى لم أحاول أن أنفيه إطلاقا. تجاهلت الأمر تماما عندما التقيته فى مصر ومن قبل ومن بعد عندما التقيته فى طرابلس أو فى غيرها، ربما عكس ما توقعه هو أو أراده.
لقائى الأول بالقذافى كان غاية فى الطرافة. جاء الدور على ليبيا فى سلسلة الزيارات الخارجية التى قمت بها فور تعيينى وزيرا للخارجية. توجهت إلى طرابلس. أوصلونى إلى خيمته. جلست أمامه، لكننى فوجئت به ينظر إلى السماء، ويتجنب النظر إلى؛ لأننى كنت وقتها فى نظره «أمريكانيا» أو ربما عميلا. بالطبع مثل هذه الحركات لم يكن واردا أن آخذها بجدية أو أن اهتم بما تعنيه. كان قرارى ألا أفتح معه موضوع اتهاماته لى. رأيت أنه لا يجب ولا يليق أبدا أن أضع نفسى فى موضع الدفاع أو موضع التبرير.
ظل القذافى طيلة الجلسة ينظر يمينا ويسارا إلى السماء. ينطق بكلمتين ثم يسكت. كان من السهل جدا على أن أجذب انتباهه. حدثته عن كتاب جديد كان صادرا للتو يتحدث عن البحر المتوسط وحلف شمال الأطلنطى (ناتو) والقوة الأوروبية، فاهتم جدا بمعرفة التفاصيل الموجودة فى الكتاب، الذى لم يكن قد سمع بصدوره من قبل. أخيرا بدأ ينظر فى اتجاهى. وقد داعبته بأن بدأت أتكلم وأنا أنظر إلى السقف، ولا أرى إن كان قد فهم الرسالة أم لا. ولكن الأمور تحسنت منذئذ.
بعد أن ظهرت توجهاتى ومواقفى فى الأطر العديدة للدبلوماسية العربية والدولية قال القذافى: «كنت متحفظا إزاء عمرو موسى؛ لاعتقادى أنه أمريكانى، لكننى أدركت كم كنا مخطئين؛ لأن التجربة أثبتت أن موسى رجل وطنى صميم». بعد نحو سنة وجدته يرسل لى بدون مناسبة «ساعة» وكانت هى «ساعة اليد»، التى احتفظ بها ولم يهدها إلى فى زيارته للقاهرة، باعتبار أنه اكتشف أننى عربى لا «أمريكى»!.
العلاقة مع السودان
منذ بدايات عملى كوزير للخارجية المصرية وجهت عينى صوب الجنوب فى اتجاه السودان، ذلك البلد الذى تربطه بمصر علاقات تاريخية، بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والاجتماعية، وبحكم أنه بوابة مصر إلى إفريقيا، وبحكم أننا شركاء فى وادى النيل، ذلك النهر العظيم الذى يفرض دوما على البلدين تنسيقا على أعلى مستوى لتأمين مصالحهما من إيراداته المائية. كل هذه الأمور تجعل من السودان العمق الإستراتيجى الجنوبى لمصر، فما يحدث فى أى بقعة من بقاع السودان تكون له ارتداداته على مصر، وما يحدث فى القاهرة يسمع صداه فى كل مناطق السودان.
كانت العلاقات المصرية ــ السودانية فى أسوأ حالاتها وقت تعيينى وزيرا للخارجية سنة 1991، بعد الانقلاب الذى قاده الترابى/ البشير فى 30 يونيو 1989م، الذى اطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة، والتى كان يترأس مجلس وزرائها الصادق المهدى. لم ترحب مصر كثيرا بالنظام الجديد فى السودان، خصوصا بعد اتضاح طبيعته الدينية وارتباط قادته فكريا بالإخوان المسلمين، فضلا عن أن نظام الترابى / البشير راح يمارس شحنا إعلاميا غير مسبوق ضد مصر، باعتبارها عدوا خارجيا، يهدد مصالح السودان، ومن هنا راح ينفخ فى شرارة «حلايب»، إلى أن وصل الأمر إلى التورط فى محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا سنة 1995، التى سأروى شهادتى بشأنها كاملة فى الفصل الخاص بالعلاقات المصرية ــ الإفريقية.
والحقيقة مع كل هذه العقبات التى كانت قائمة فى موضوع العلاقات المصرية ــ السودانية وطبيعة الحكم الدينى للبشير، إلا أننى استطعت أن أحدث اختراقا كبيرا على صعيد الانفتاح على السودان ومحاولة احتوائه، ساعد فيه الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، الذى كان أحد الساسة السودانيين الذين لعبوا دورا كبيرا فى إحداث التقارب بين القاهرة والخرطوم، وإزاحة العقبات، والذى تولى وزارة الخارجية السودانية، وقت أن كنت وزيرا للخارجية المصرية، وحققنا سويا تقدما كبيرا فى العلاقات بين البلدين الجارين.
أحيانا الصدفة تلعب دورا كبيرا فى عالم السياسة. بعد أن أدليت بتصريحى الشهير فى أعقاب تراشق إعلامى عنيف بين مصر والسودان بشأن حلايب قلت فيه: «حدود مصر تنتهى عند جوبا.. وحدود السودان تنتهى عند الإسكندرية» كنت مسافرا بصحبة وفد دبلوماسى واقتصادى مصرى إلى ألمانيا. علمنا أن الطائرة التى سنسافر عليها ستقلع من الخرطوم، ثم تتوقف فى مصر وتواصل إلى ألمانيا. على الكرسى المجاور لى وجدت شخصا نائما ويغطى وجهه بالبطانية. بعد مضى نحو الساعتين استيقظ الرجل ونظر إلىَ وقال: الله.. عمرو موسى؟ أنا اسمى مصطفى عثمان إسماعيل من معاونى الرئيس عمر البشير.
ظللنا نتحدث عن مصر والسودان، ووجدته مقدرا لأهمية الانفتاح على مصر، ومن يومها وإلى الآن صارت بينى وبين هذا الرجل صداقة قوية. قلت له يومها: ما دمت قريبا من الرئيس البشير عليك أن تدفع فى سياسة واضحة عنوانها التقارب بين السودان ومصر، وأنا أتعهد لك بنفس هذا العنوان من جانبنا. أنا أعلم أن الرئيس مبارك مهتم جدا بالعلاقات المصرية ــ السودانية. علينا أن نضع العقبات على الهامش.. نتحدث فيها ونناقشها، لكن لابد من إحداث هذا التقارب.
لم يمض وقت طويل حتى ظهرت جهود إسماعيل فيما اتفقنا عليه. حيث حدثت بالفعل تغييرات فى بنية النظام السودانى، بإبعاد الدكتور حسن الترابى، المتشدد، مع وضع بعض اللمسات المدنية على حكم مرجعيته دينية فى الأساس. وأنا هنا لا أقول إن مصطفى عثمان أو الخارجية المصرية كانا من ضمن العوامل التى أدت إلى إبعاد الترابى، ولكن أذكر أن هذا حدث والعلاقات المصرية السودانية فى صعود، وفى ضوء تأكد السودانيين من أن التقارب مع مصر لن يتم أبدا فى ظل حكم يرأسه الترابى.
ولعله من المناسب هنا أن نسمع صوت مصطفى عثمان إسماعيل، ليدلى بشهادته عن العلاقات المصرية ــ السودانية، وجهودنا معا لإذابة الجليد بين البلدين، وفى هذا السياق يقول إسماعيل: «عمرو موسى كان محبا للعلاقات المصرية ــ السودانية. كان مدركا أن هذه العلاقات على شفا حرب، عقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا سنة 1995م على يد الجماعة الإسلامية المصرية، والتى اتهم السودان بتقديم الدعم لهذه الجماعة كى تنال من الرئيس المصرى.
أقول كانت العلاقات على شفا حرب؛ لأنه حدث أننى التقيت الرئيس مبارك بعد ذلك، وقال لى فى سياق الحديث عن محاولة اغتياله ما يلى بالنص: «تصور يا مصطفى بعد عودتى للقاهرة من أديس أبابا جاءتنى قيادة القوات الجوية. أدوا لى التحية العسكرية، وقالوا لى: احنا جاهزين لكى نضرب الخرطوم ردا على تورطها فى محاولة اغتيالك. كان القادة يشعرون بالمرارة الشديدة باعتبار أن رئيسهم أهين. كان ردى عليهم حاسما: يا خبر.. أنتم عارفين بتقولوا إيه؟ أنا طبعا شاكر لكم مشاعركم النبيلة تجاهى، لكن إذا ضربتم الخرطوم كأنكم ضربتم القاهرة، هذا موضوع سياسى ولا يعالج بهذه الطريقة».
انتعشت العلاقات المصرية ــ السودانية التى كانت على شفا الحرب بفضل وجود عمرو موسى على رأس الخارجية المصرية، وطرحت فى ظل ولايته اتفاقية «الحريات الأربع» (حرية التملك والتنقل والاقامة والعمل، بين البلدين) مع مصر والسودان، والتى تحمس لها وتم توقيعها سنة 2004م بعد رحيله من الوزارة» (النص الكامل لشهادة مصطفى عثمان إسماعيل موجودة بالكتاب).
مصر وسوريا
علاقة مصر بسوريا فيها الكثير من الخصوصية، فأى حاكم مصرى يفهم جيدا أبعاد الأمن القومى المصرى، على الفور يمتد بصره إلى حيث موقع سوريا الاستراتيجى بالنسبة لمصر، هذه قاعدة ثابتة منذ الملك الفرعونى رمسيس الثانى مرورا بمحمد على وجمال عبدالناصر، الذى أقام وحدة سياسية مع سوريا سنة 1958م، لم تستمر طويلا لاعتبارات وأسباب ليس هذا مجال استعراضها.
المعطيات السابقة جعلتنى شديد الحرص فور أن توليت منصبى كوزير للخارجية على الانفتاح على سوريا، خاصة وأننى أعلم الحساسية المفرطة والشك الشديد، الذى يسيطر على الساسة فى هذا البلد العربى الشقيق، خاصة من هم فى قمة هرم السلطة، سواء فى رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية.
كنت دوما أقول لزملائى فى وزارة الخارجية: إن سوريا جزء مهم وأساسى فى السياسة الخارجية المصرية، ومن المهم أن نحافظ على علاقة تفاهم معها. علينا تسخير كل ما هو ممكن لتجنب الحساسيات السورية؛ لأن رغبة مصر أكيدة فى ألا نفقد سوريا فى السياسة العربية، وفى نفس الوقت يجب ألا نخضع لايديولوجياتهم، بمعنى أنه يمكن أن نتقبل بعضا من آرائهم إنما عليهم أيضا أن يتقبلوا بعضا من آرائنا، وذلك لن يتأتى إلا بالحوار المستمر معهم.
فاروق الشرع وزير خارجية سوريا وقت أن كنت وزيرا للخارجية، كان رجلا مثقفا ومهذبا وهادئا. كان وزير خارجية محترما لا شك فى ذلك، لكنه من تلاميذ المدرسة السورية فى الشك. لمعرفتى بطبيعتهم الشكاكة تلك كنت أداعبهم بأن أقول جملة فى موضوع ما ولا أكملها، فيعتبرون أن هذه «سقطة لسان»، ويبدأون دراستها واحتمالاتها، إلى أن أوضح لهم حقيقة هذه الجملة فى زيارة تالية أو فى التليفون. كنت أحكى للرئيس مبارك هذه المواقف فكان يضحك؛ لأنه يعرف تماما مرض الشك الذى يسيطر على المسئولين السوريين.
العلاقة مع دول الخليج
استقرار ومتانة العلاقات بين مصر ودول الخليج العربى، تعتبر ثابتا من ثوابت السياسة الخارجية المصرية منذ تولى الرئيس السادات حكم مصر، وهى علاقات أثبتت الاختبارات المختلفة قوتها ومتانتها، وخير دليل على صحة هذا الطرح وقوف دول الخليج وراء مصر فى حرب أكتوبر 1973م، ووقوف مصر بجانب الكويت بعد الغزو العراقى لها سنة 1990م، ووقوف معظم أشقائنا فى الخليج بجوار مصر فى السنوات التى أعقبت ثورة 30 يونيو 2013م.
زرت بعد فترة من تعيينى وزيرا للخارجية سنة 1991، خادم الحرمين، الملك فهد بن عبدالعزيز، ملك السعودية حينذاك، وكان لقاء حميميا بين العاهل السعودى ووزير خارجية مصر التى اشتركت قواتها جنبا إلى جنب فى حفر الباطن مع القوات السعودية فى حرب تحرير الكويت سنة 1991م. كان اللقاء بحق لقاء الأشقاء الحلفاء. وقد اعتقدت دائما ــ وإلى هذه اللحظة التى أكتب فيها مذكراتى التى تصف آرائى ــ أن مصلحة المنطقة ومصلحة العرب ومصلحة الاستقرار الإقليمى تتطلب أن تكون مصر والسعودية «إيد واحدة».. بقدر الإمكان. فى هذا اللقاء أكد الملك فهد أن وصية والده الملك عبدالعزيز لأولاده أن لا تفرطوا فى مصر، وأن تقفوا بجانبها على الدوام. كرر ذلك على مسامعى بعد ذلك الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله.
الرئيس مبارك كان شديد الحرص على العلاقات المصرية ــ الخليجية. ربطته صداقات وثيقة بحكام هذه الدول، فكانت له علاقة استراتيجية بالمملكة العربية السعودية، وكذلك الإمارات العربية المتحدة، ويحمل للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تقديرا كبيرا، وحدث ولا حرج عن متانة العلاقة المصرية ــ الكويتية واهتمام مبارك بها. كما كان يحب البحرين ويزور حكامها. وكان يزور أيضا قطر، ويلتقى بأميرها الشيخ خليفة آل ثانى، وولى عهده الشيخ حمد بن خليفة، قبل أن يصبح أميرا سنة 1995م. وجمعته صداقة خاصة بالسلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان. وطبعا توج ذلك كله بموقف مصر من غزو الكويت ومن تحريرها؛ الأمر الذى خلق علاقة استراتيجية وطيدة بين الخليج ومصر.
نتيجة للعلاقات الطيبة والقوية والقائمة على مصالح استراتيجية بين مصر ودول الخليج، لم تتوان هذه الدول الشقيقة عن مساعدة مصر بالأموال أو المنتجات البترولية، أو تمويل شراء بعض الاحتياجات المصرية. وكذلك باستقبال العمالة المصرية الكثيفة، لكننى أؤكد على أنه طوال فترة عملى وزيرا للخارجية ابتعدت بالوزارة عن الموضوعات الخاصة بالمساعدات والبترول الخليجيين.
أذكر أننا كنا فى إحدى زياراتنا للإمارات حيث جرى توقيع العديد من الاتفاقيات، وبعد أن ودع الشيخ زايد بن سلطان ــ رحمه الله ــ الرئيس مبارك الذى ركب سيارته بعد العشاء، التفت إلى الشيخ زايد، وشد على يدى، وقال: «نحن نؤيد سياستك العربية، ومعجبون جدا بها». وهنا يجب أن أقول: إن جزءا من احترام رؤساء هذه الدول الشقيقة لوزير الخارجية المصرية ربما يعود لأنه يتعامل مع الشق السياسى فقط، ومن منطلق يريحهم ويتمشى مع ما يتوقعونه كموقف مصرى واضح وقائد، وفى الوقت نفسه يقدرون ابتعادى عن المسائل ذات الحساسية فى العلاقات مثل المجالات المالية وغيرها. الخلاصة: عندما تكون صريحا وواضحا وقويا وعند كلمتك مع العرب.. يقدرونك بأعلى درجات التقدير، ويتعاملون معك بأمان وأريحية.. أما لو شعروا أنك بلسانين وقلبين لن يأمنوا لك جانبا وسينصرفون عنك أو يعاملوك بالمثل. إيمانى عميق جدا بأن للعالم العربى جناحين بنفس الثقل، المشرق والمغرب ومصر فى القلب منهما.. وعلى الرغم من انشغال الجناحين فى الكثير من المشكلات ــ كما نعلم ــ إلا أن استقرار مصر ونموها ومواقفها يعزز التناغم والترابط بينهما.
سر قطر
اتسمت العلاقات المصرية ــ القطرية بالشد والجذب منذ منتصف التسعينيات، وخصوصا بعد انقلاب الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى على أبيه الشيخ خليفة آل ثانى سنة 1995م، فبعد ذلك بنحو عام قام الشيخ خليفة بمحاولة فاشلة للعودة إلى الحكم؛ فاتهمت قطر كلا من السعودية ومصر بالوقوف وراء هذه المحاولة، وهو ما أدى إلى توتر شديد فى العلاقات المصرية ــ القطرية، ودخلنا فى سجالات مع حمد بن جاسم بن جبر آل ثانى، وزير الخارجية القطرى آنذاك.
تدخلت سلطنة عمان عبر وزير خارجيتها يوسف بن علوى بالوساطة بينى وبين حمد بن جاسم، قلت لبن علوى: لا يليق أن توجه قطر مثل هذه الاتهامات لدولة مثل مصر، التى هى دولة كبيرة ولها مكانتها فى الإقليم وفى العالم؛ وبالتالى التعامل معها يجب أن يكون فيه نوع من الحذر والكثير من اللياقة. وفى الأخير استطعنا أن نتغلب على هذه المشكلة ونطوى صفحتها. بعد ذلك قام تعاون كبير بينى وبين حمد بن جاسم؛ والواقع أنه يجمعنا ود متبادل فأنا أقدره شخصيا، وأقدر كفاءته ونشاطه وانفتاحه. وأداعبه دوما بقولى: «كفاك جمعا للثروة». فيقول لى: «أريد أن أصبح أغنى رجل فى العالم العربى». سألت الأمير السابق حمد بن خليفة ذات مرة مداعبا: هل أكمل حمد بن جاسم المليار أم لا؟. فضحك الرجل وقال: لن يرتاح له بال ابن الـ... إلا إذا أصبح أغنى ثرى عربى. علاقة الرئيس مبارك وحمد بن خليفة كانت طيبة للغاية، رغم بعض المشكلات التى كانت تظهر على فترات. من ضمن «القفشات» التى كان الأمير يرددها على لسان مبارك ويضحك جدا عليها حكاية طائرة حمد بن جاسم التى أمر أمير قطر بمنحها للرئيس اليمنى على عبدالله صالح؛ فبعد أن شاهد صالح هذه الطائرة خلال توديعه رسميا فى مطار الدوحة أبدى اعجابه بها، فمنحها له الأمير، وكان بن جاسم واقفا إلى جانبها لا يتوقع ذلك، وحزن وظل يشير إلى هذا المقلب آسفا، بينما ظل الأمير يشير إلى هذا الحدث ضاحكا، وكان كلما التقى مبارك مع بن جاسم يقول له: كيف تترك طائرتك لعبدالله صالح؟
فيرد بن جاسم فى أسى: «كانت جامبو يا سيادة الرئيس».
فيرد عليه مبارك على الطريقة المصرية «جامبو على جانبو».. كان الأمير حمد بن خليفة يسمع «إيفيه» «جامبو على جانبو» ويدخل كل مرة فى نوبة من الضحك.
ما أود التأكيد عليه هو أن قطر نجحت فى أن يكون لها قوة دبلوماسية وسياسية واتصالات واسعة بصرف النظر عن حجمها؛ لأن لديها وسائل أخرى للقوة. أذكر أن الأمير السابق، حمد بن خليفة سألنى فى إحدى المرات قائلا: برأيك.. ما هى عناصر القوة التى لدينا فى قطر؟ فأجبته قائلا: عناصر القوة الناعمة (المال، الغاز، وقناة الجزيرة)، وأنت يا سمو الأمير وكذلك حمد بن جاسم.. لا يشق لكما غبار، فانتشى وقال: صدقت.
لقد تمكنت قطر من تجميع عناصر قوة ناعمة ساعدتها على الحركة السهلة، منها استخدامها أموالها الهائلة فى البنوك فى استثمارات على مستوى العالم، وعلى مستوى الدول التى تريد التأثير فيها؛ فلها استثمارات ضخمة فى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها. هذه الاستثمارات الضخمة جعلت رؤساء الدول العظمى يستقبلون أمير قطر أو وزير خارجيته بشكل ــ ربما ــ أفضل من استقبالهم لرؤساء دول أهم وأكبر حجما.
أصبح للقطريين أبواب مفتوحة فى معظم عواصم العالم، إن لم يكن كلها، بالبناء على هذه الثروة الطائلة والقدرة الاستثنائية على الاستثمار، وحسن استخدام الأموال عموما وتأثيرها مع الدول والمجتمعات والأسواق والأفراد، وقد تبع ذلك بالطبع تصاعد قوة التأثير القطرية وقوة وسرعة الاتصالات على أعلى المستويات التى ترغب فيها قطر؛ فأصبحت الدوحة من ضمن العواصم ذات النفوذ، خاصة أنها خلقت لنفسها «لوبى» خاصا بها فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى كان يدير الاستثمارات القطرية فيها أحد الشخصيات اليهودية المعروفة، وهو رجل سهل الحركة سريع التواصل منفتح على كثير من الأوساط المتنفذة أمريكيا وعربيا. وكان يتباهى بذلك، ولكنه كان قادرا على الوصول إلى أعلى السلطات الأمريكية لتأمين الطلبات القطرية، بما فيها اللقاءات الخاصة برئيس الجمهورية وغيره من المسئولين.
لقد أصبحت قطر أحد منفذى السياسة الأمريكية التى يعتقد الكثير من الباحثين أنها استقرت على ضرورة تولى «الإسلام المعتدل» الحكم فى عدد من البلاد العربية المهمة وعلى رأسها مصر، وأن أى تغيير فى حكم أى من هذه الدول يجب أن يؤدى إلى تسلم «الإسلام المعتدل» للحكم. كانت مصر هى الهدف الأساسى فى ذلك، ومن هنا جاء موقف قطر ضد النظام المصرى السابق (نظام مبارك) والنظام المصرى الحالى (نظام السيسى) وتماهيها الواضح مع النظام الإسلامى (نظام مرسى).
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف