آخر المواضيع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات مذكرات عمرو موسى. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مذكرات عمرو موسى. إظهار كافة الرسائل

18‏/09‏/2017

سبتمبر 18, 2017

اخر جزء فى ..الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى ... كواليس علاقتى بـ مبارك

 Media preview

خالد أبو بكر 
نشر فى : الأحد 17 سبتمبر 2017 - 11:22 م | آخر تحديث : الأحد 17 سبتمبر 2017 - 11:22 م

- مبارك لم يطمح للزعامة.. وقضيته كانت التنمية المتوقفة والاقتصاد المعطل
- العمل بينى وبين الرئيس كان سهلا من الجانبين لحرصى على إشعاره بأننى لا أتجاوزه
- كنت شريكا لمبارك فى صناعة السياسة الخارجية مثل الوزير محمد صلاح الدين مع النحاس باشا
- الرئيس أرسل سكرتيره طالبًا إلغاء حفل الوزارة لوداعى وأمر عاطف عبيد بتكريمى بمجلس الوزراء
- أغنية «شعبولا» أعطت الوشاة ذخيرة كبيرة للتصويب على وزير الخارجية الذى وصلت شعبيته الآفاق
- صفوت الشريف أشار إلى مبنى «الخارجية« وقال لمبارك: فى هذا المبنى الضخم توجد إمبراطورية عمرو موسى

16‏/09‏/2017

سبتمبر 16, 2017

«6» مذكرات عمرو موسى …القذافى اعتقد أن نيويورك هى عاصمة الولايات المتحدة

Media preview

نشر فى : الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 10:47 م | آخر تحديث : الجمعة 15 سبتمبر 2017 - 11:18 م

كلمتى أمام مؤتمر مدريد كانت إعلانا لعودة مصر لدورها القيادى بين العرب
نجحت فى احتواء السودان بعد محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا بالتعاون مع عثمان إسماعيل
«الشك المفرط» هو المسيطر على ذهنية القيادة السورية سواء فى الرئاسة أو الخارجية
سر نكتة «جامبو على جانبو» بين مبارك وحمد بن خليفة وحمد بن جاسم


تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001 والصادر عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبوبكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (الحاقة ــ 19) ــ يكشف موسى عن تفاصيل علاقته بالعالم العربى وقادته خلال الحقبة التى تولى فيها وزارة الخارجية (1991ــ 2001).
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وبقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.

طبيعى أن يكون أكثر ما يسيطر على تفكيرى فور تعيينى وزيرا للخارجية فى 20 مايو 1991م، هو إعادة مصر لمكانها الطبيعى فى قلب العالم العربى، وهو مكان لا يستطيع أحد أن يملأه غيرها. كانت سنوات تعليق عضوية مصر فى الجامعة العربية (1979 ــ 1989م) بسبب توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل تلقى بظلالها على طبيعة الحضور المصرى فى العمل العربى المشترك وآثاره الإقليمية خلال تلك الفترة؛ فبرغم عودة الجامعة إلى القاهرة، وانتهاء مقاطعة مصر، كنت أشعر أن عودتها لم تكتمل بعد، وأنه ينقصها اتخاذ موقف قوى يجتمع العرب حوله، وخطة يجرى تنفيذها باسمهم. رأيت أن دعم ومساندة الحقوق الفلسطينية خلال هذه الفترة لم يكن على المستوى المطلوب من الجميع؛ وأنه يجب إحداث حركة فى هذا الملف قبل سواه.
من أولى المناسبات التى رأيت أنه يتحتم على استغلالها فى إحداث مزيد من الدفء للعلاقات المصرية ــ العربية، مناسبة انعقاد مؤتمر مدريد للسلام، الذى بدأ أعماله فى 30 أكتوبر 1991م. قررت أن أجعل من كلمة مصر أمام هذا المؤتمر الكبير مناسبة لاعطاء الإشارة للقاصى والدانى أن مصر عادت للعب دورها القيادى فى العالم العربى، وفى الشرق الأوسط على اتساعه.
كانت لمخاطبتى للمؤتمر بعبارة «نحن العرب» وقعا إيجابيا فى العالم العربى كله، فها هى مصر (الشقيقة الكبرى) عادت للتحدث باسم العرب، لا باسمها فقط كما جرت العادة منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وهو ما أغضب الإسرائيليين والأمريكيين؛ ذلك أنهم فهموا عبارة «نحن العرب» رسالة مختلفة من مصر. علقت إحدى الصحفيات الأمريكيات على هذه العبارة بقولها «تانى!!»، فى إشارة إلى عودة مصر الرسمية للحديث باسم العالم العربى كما كان الأمر فى الحقبة السابقة على توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. الواقع أنه كان لهذه العبارة مفعولها الأكيد فى جعل العالم العربى يشعر بأن خطابا مصريا مختلفا قد جاء مع وزير الخارجية المصرى الجديد.

هرطقات القذافى
فور تعيينى وزيرا للخارجية، سرى همس قاده الرئيس الليبى الراحل، معمر القذافى، مؤداه أن عمرو موسى القادم من نيويورك لترؤس الدبلوماسية المصرية ما هو «إلا مبعوث أمريكانى لمصر»، معتقدا ربما أن نيويورك هى عاصمة الولايات المتحدة لا مقرا للأمم المتحدة التى كنت أمثل بلادى فيها! كان هذا الكلام مفاجئا لى، ولكل من يعرفنى من الدبلوماسيين العرب.
بعد تعيينى بفترة قصيرة جاء القذافى فى زيارة إلى القاهرة. نصب خيمته الشهيرة فى قصر القبة الرئاسى؛ ولأنه كان يتشكك فى شخصى وفى نواياى أرسل هدايا تذكارية (ساعة يد) لكبار المسئولين المصريين، أعضاء الوفد الرسمى الذى خاض مباحثات مع الوفد المرافق له إلا وزير الخارجية. كان قد وصلنى ما يردده بشأنى، لكننى لم أحاول أن أنفيه إطلاقا. تجاهلت الأمر تماما عندما التقيته فى مصر ومن قبل ومن بعد عندما التقيته فى طرابلس أو فى غيرها، ربما عكس ما توقعه هو أو أراده.
لقائى الأول بالقذافى كان غاية فى الطرافة. جاء الدور على ليبيا فى سلسلة الزيارات الخارجية التى قمت بها فور تعيينى وزيرا للخارجية. توجهت إلى طرابلس. أوصلونى إلى خيمته. جلست أمامه، لكننى فوجئت به ينظر إلى السماء، ويتجنب النظر إلى؛ لأننى كنت وقتها فى نظره «أمريكانيا» أو ربما عميلا. بالطبع مثل هذه الحركات لم يكن واردا أن آخذها بجدية أو أن اهتم بما تعنيه. كان قرارى ألا أفتح معه موضوع اتهاماته لى. رأيت أنه لا يجب ولا يليق أبدا أن أضع نفسى فى موضع الدفاع أو موضع التبرير.
ظل القذافى طيلة الجلسة ينظر يمينا ويسارا إلى السماء. ينطق بكلمتين ثم يسكت. كان من السهل جدا على أن أجذب انتباهه. حدثته عن كتاب جديد كان صادرا للتو يتحدث عن البحر المتوسط وحلف شمال الأطلنطى (ناتو) والقوة الأوروبية، فاهتم جدا بمعرفة التفاصيل الموجودة فى الكتاب، الذى لم يكن قد سمع بصدوره من قبل. أخيرا بدأ ينظر فى اتجاهى. وقد داعبته بأن بدأت أتكلم وأنا أنظر إلى السقف، ولا أرى إن كان قد فهم الرسالة أم لا. ولكن الأمور تحسنت منذئذ.
بعد أن ظهرت توجهاتى ومواقفى فى الأطر العديدة للدبلوماسية العربية والدولية قال القذافى: «كنت متحفظا إزاء عمرو موسى؛ لاعتقادى أنه أمريكانى، لكننى أدركت كم كنا مخطئين؛ لأن التجربة أثبتت أن موسى رجل وطنى صميم». بعد نحو سنة وجدته يرسل لى بدون مناسبة «ساعة» وكانت هى «ساعة اليد»، التى احتفظ بها ولم يهدها إلى فى زيارته للقاهرة، باعتبار أنه اكتشف أننى عربى لا «أمريكى»!.

العلاقة مع السودان
منذ بدايات عملى كوزير للخارجية المصرية وجهت عينى صوب الجنوب فى اتجاه السودان، ذلك البلد الذى تربطه بمصر علاقات تاريخية، بحكم الجغرافيا والتاريخ والروابط الثقافية والاجتماعية، وبحكم أنه بوابة مصر إلى إفريقيا، وبحكم أننا شركاء فى وادى النيل، ذلك النهر العظيم الذى يفرض دوما على البلدين تنسيقا على أعلى مستوى لتأمين مصالحهما من إيراداته المائية. كل هذه الأمور تجعل من السودان العمق الإستراتيجى الجنوبى لمصر، فما يحدث فى أى بقعة من بقاع السودان تكون له ارتداداته على مصر، وما يحدث فى القاهرة يسمع صداه فى كل مناطق السودان.
كانت العلاقات المصرية ــ السودانية فى أسوأ حالاتها وقت تعيينى وزيرا للخارجية سنة 1991، بعد الانقلاب الذى قاده الترابى/ البشير فى 30 يونيو 1989م، الذى اطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة، والتى كان يترأس مجلس وزرائها الصادق المهدى. لم ترحب مصر كثيرا بالنظام الجديد فى السودان، خصوصا بعد اتضاح طبيعته الدينية وارتباط قادته فكريا بالإخوان المسلمين، فضلا عن أن نظام الترابى / البشير راح يمارس شحنا إعلاميا غير مسبوق ضد مصر، باعتبارها عدوا خارجيا، يهدد مصالح السودان، ومن هنا راح ينفخ فى شرارة «حلايب»، إلى أن وصل الأمر إلى التورط فى محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا سنة 1995، التى سأروى شهادتى بشأنها كاملة فى الفصل الخاص بالعلاقات المصرية ــ الإفريقية.
والحقيقة مع كل هذه العقبات التى كانت قائمة فى موضوع العلاقات المصرية ــ السودانية وطبيعة الحكم الدينى للبشير، إلا أننى استطعت أن أحدث اختراقا كبيرا على صعيد الانفتاح على السودان ومحاولة احتوائه، ساعد فيه الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، الذى كان أحد الساسة السودانيين الذين لعبوا دورا كبيرا فى إحداث التقارب بين القاهرة والخرطوم، وإزاحة العقبات، والذى تولى وزارة الخارجية السودانية، وقت أن كنت وزيرا للخارجية المصرية، وحققنا سويا تقدما كبيرا فى العلاقات بين البلدين الجارين.
أحيانا الصدفة تلعب دورا كبيرا فى عالم السياسة. بعد أن أدليت بتصريحى الشهير فى أعقاب تراشق إعلامى عنيف بين مصر والسودان بشأن حلايب قلت فيه: «حدود مصر تنتهى عند جوبا.. وحدود السودان تنتهى عند الإسكندرية» كنت مسافرا بصحبة وفد دبلوماسى واقتصادى مصرى إلى ألمانيا. علمنا أن الطائرة التى سنسافر عليها ستقلع من الخرطوم، ثم تتوقف فى مصر وتواصل إلى ألمانيا. على الكرسى المجاور لى وجدت شخصا نائما ويغطى وجهه بالبطانية. بعد مضى نحو الساعتين استيقظ الرجل ونظر إلىَ وقال: الله.. عمرو موسى؟ أنا اسمى مصطفى عثمان إسماعيل من معاونى الرئيس عمر البشير.
ظللنا نتحدث عن مصر والسودان، ووجدته مقدرا لأهمية الانفتاح على مصر، ومن يومها وإلى الآن صارت بينى وبين هذا الرجل صداقة قوية. قلت له يومها: ما دمت قريبا من الرئيس البشير عليك أن تدفع فى سياسة واضحة عنوانها التقارب بين السودان ومصر، وأنا أتعهد لك بنفس هذا العنوان من جانبنا. أنا أعلم أن الرئيس مبارك مهتم جدا بالعلاقات المصرية ــ السودانية. علينا أن نضع العقبات على الهامش.. نتحدث فيها ونناقشها، لكن لابد من إحداث هذا التقارب.
لم يمض وقت طويل حتى ظهرت جهود إسماعيل فيما اتفقنا عليه. حيث حدثت بالفعل تغييرات فى بنية النظام السودانى، بإبعاد الدكتور حسن الترابى، المتشدد، مع وضع بعض اللمسات المدنية على حكم مرجعيته دينية فى الأساس. وأنا هنا لا أقول إن مصطفى عثمان أو الخارجية المصرية كانا من ضمن العوامل التى أدت إلى إبعاد الترابى، ولكن أذكر أن هذا حدث والعلاقات المصرية السودانية فى صعود، وفى ضوء تأكد السودانيين من أن التقارب مع مصر لن يتم أبدا فى ظل حكم يرأسه الترابى.
ولعله من المناسب هنا أن نسمع صوت مصطفى عثمان إسماعيل، ليدلى بشهادته عن العلاقات المصرية ــ السودانية، وجهودنا معا لإذابة الجليد بين البلدين، وفى هذا السياق يقول إسماعيل: «عمرو موسى كان محبا للعلاقات المصرية ــ السودانية. كان مدركا أن هذه العلاقات على شفا حرب، عقب محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى أديس أبابا سنة 1995م على يد الجماعة الإسلامية المصرية، والتى اتهم السودان بتقديم الدعم لهذه الجماعة كى تنال من الرئيس المصرى.
أقول كانت العلاقات على شفا حرب؛ لأنه حدث أننى التقيت الرئيس مبارك بعد ذلك، وقال لى فى سياق الحديث عن محاولة اغتياله ما يلى بالنص: «تصور يا مصطفى بعد عودتى للقاهرة من أديس أبابا جاءتنى قيادة القوات الجوية. أدوا لى التحية العسكرية، وقالوا لى: احنا جاهزين لكى نضرب الخرطوم ردا على تورطها فى محاولة اغتيالك. كان القادة يشعرون بالمرارة الشديدة باعتبار أن رئيسهم أهين. كان ردى عليهم حاسما: يا خبر.. أنتم عارفين بتقولوا إيه؟ أنا طبعا شاكر لكم مشاعركم النبيلة تجاهى، لكن إذا ضربتم الخرطوم كأنكم ضربتم القاهرة، هذا موضوع سياسى ولا يعالج بهذه الطريقة».
انتعشت العلاقات المصرية ــ السودانية التى كانت على شفا الحرب بفضل وجود عمرو موسى على رأس الخارجية المصرية، وطرحت فى ظل ولايته اتفاقية «الحريات الأربع» (حرية التملك والتنقل والاقامة والعمل، بين البلدين) مع مصر والسودان، والتى تحمس لها وتم توقيعها سنة 2004م بعد رحيله من الوزارة» (النص الكامل لشهادة مصطفى عثمان إسماعيل موجودة بالكتاب).

مصر وسوريا
علاقة مصر بسوريا فيها الكثير من الخصوصية، فأى حاكم مصرى يفهم جيدا أبعاد الأمن القومى المصرى، على الفور يمتد بصره إلى حيث موقع سوريا الاستراتيجى بالنسبة لمصر، هذه قاعدة ثابتة منذ الملك الفرعونى رمسيس الثانى مرورا بمحمد على وجمال عبدالناصر، الذى أقام وحدة سياسية مع سوريا سنة 1958م، لم تستمر طويلا لاعتبارات وأسباب ليس هذا مجال استعراضها.
المعطيات السابقة جعلتنى شديد الحرص فور أن توليت منصبى كوزير للخارجية على الانفتاح على سوريا، خاصة وأننى أعلم الحساسية المفرطة والشك الشديد، الذى يسيطر على الساسة فى هذا البلد العربى الشقيق، خاصة من هم فى قمة هرم السلطة، سواء فى رئاسة الجمهورية أو وزارة الخارجية.
كنت دوما أقول لزملائى فى وزارة الخارجية: إن سوريا جزء مهم وأساسى فى السياسة الخارجية المصرية، ومن المهم أن نحافظ على علاقة تفاهم معها. علينا تسخير كل ما هو ممكن لتجنب الحساسيات السورية؛ لأن رغبة مصر أكيدة فى ألا نفقد سوريا فى السياسة العربية، وفى نفس الوقت يجب ألا نخضع لايديولوجياتهم، بمعنى أنه يمكن أن نتقبل بعضا من آرائهم إنما عليهم أيضا أن يتقبلوا بعضا من آرائنا، وذلك لن يتأتى إلا بالحوار المستمر معهم.
فاروق الشرع وزير خارجية سوريا وقت أن كنت وزيرا للخارجية، كان رجلا مثقفا ومهذبا وهادئا. كان وزير خارجية محترما لا شك فى ذلك، لكنه من تلاميذ المدرسة السورية فى الشك. لمعرفتى بطبيعتهم الشكاكة تلك كنت أداعبهم بأن أقول جملة فى موضوع ما ولا أكملها، فيعتبرون أن هذه «سقطة لسان»، ويبدأون دراستها واحتمالاتها، إلى أن أوضح لهم حقيقة هذه الجملة فى زيارة تالية أو فى التليفون. كنت أحكى للرئيس مبارك هذه المواقف فكان يضحك؛ لأنه يعرف تماما مرض الشك الذى يسيطر على المسئولين السوريين.

العلاقة مع دول الخليج
استقرار ومتانة العلاقات بين مصر ودول الخليج العربى، تعتبر ثابتا من ثوابت السياسة الخارجية المصرية منذ تولى الرئيس السادات حكم مصر، وهى علاقات أثبتت الاختبارات المختلفة قوتها ومتانتها، وخير دليل على صحة هذا الطرح وقوف دول الخليج وراء مصر فى حرب أكتوبر 1973م، ووقوف مصر بجانب الكويت بعد الغزو العراقى لها سنة 1990م، ووقوف معظم أشقائنا فى الخليج بجوار مصر فى السنوات التى أعقبت ثورة 30 يونيو 2013م.
زرت بعد فترة من تعيينى وزيرا للخارجية سنة 1991، خادم الحرمين، الملك فهد بن عبدالعزيز، ملك السعودية حينذاك، وكان لقاء حميميا بين العاهل السعودى ووزير خارجية مصر التى اشتركت قواتها جنبا إلى جنب فى حفر الباطن مع القوات السعودية فى حرب تحرير الكويت سنة 1991م. كان اللقاء بحق لقاء الأشقاء الحلفاء. وقد اعتقدت دائما ــ وإلى هذه اللحظة التى أكتب فيها مذكراتى التى تصف آرائى ــ أن مصلحة المنطقة ومصلحة العرب ومصلحة الاستقرار الإقليمى تتطلب أن تكون مصر والسعودية «إيد واحدة».. بقدر الإمكان. فى هذا اللقاء أكد الملك فهد أن وصية والده الملك عبدالعزيز لأولاده أن لا تفرطوا فى مصر، وأن تقفوا بجانبها على الدوام. كرر ذلك على مسامعى بعد ذلك الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله.
الرئيس مبارك كان شديد الحرص على العلاقات المصرية ــ الخليجية. ربطته صداقات وثيقة بحكام هذه الدول، فكانت له علاقة استراتيجية بالمملكة العربية السعودية، وكذلك الإمارات العربية المتحدة، ويحمل للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تقديرا كبيرا، وحدث ولا حرج عن متانة العلاقة المصرية ــ الكويتية واهتمام مبارك بها. كما كان يحب البحرين ويزور حكامها. وكان يزور أيضا قطر، ويلتقى بأميرها الشيخ خليفة آل ثانى، وولى عهده الشيخ حمد بن خليفة، قبل أن يصبح أميرا سنة 1995م. وجمعته صداقة خاصة بالسلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان. وطبعا توج ذلك كله بموقف مصر من غزو الكويت ومن تحريرها؛ الأمر الذى خلق علاقة استراتيجية وطيدة بين الخليج ومصر.

نتيجة للعلاقات الطيبة والقوية والقائمة على مصالح استراتيجية بين مصر ودول الخليج، لم تتوان هذه الدول الشقيقة عن مساعدة مصر بالأموال أو المنتجات البترولية، أو تمويل شراء بعض الاحتياجات المصرية. وكذلك باستقبال العمالة المصرية الكثيفة، لكننى أؤكد على أنه طوال فترة عملى وزيرا للخارجية ابتعدت بالوزارة عن الموضوعات الخاصة بالمساعدات والبترول الخليجيين.
أذكر أننا كنا فى إحدى زياراتنا للإمارات حيث جرى توقيع العديد من الاتفاقيات، وبعد أن ودع الشيخ زايد بن سلطان ــ رحمه الله ــ الرئيس مبارك الذى ركب سيارته بعد العشاء، التفت إلى الشيخ زايد، وشد على يدى، وقال: «نحن نؤيد سياستك العربية، ومعجبون جدا بها». وهنا يجب أن أقول: إن جزءا من احترام رؤساء هذه الدول الشقيقة لوزير الخارجية المصرية ربما يعود لأنه يتعامل مع الشق السياسى فقط، ومن منطلق يريحهم ويتمشى مع ما يتوقعونه كموقف مصرى واضح وقائد، وفى الوقت نفسه يقدرون ابتعادى عن المسائل ذات الحساسية فى العلاقات مثل المجالات المالية وغيرها. الخلاصة: عندما تكون صريحا وواضحا وقويا وعند كلمتك مع العرب.. يقدرونك بأعلى درجات التقدير، ويتعاملون معك بأمان وأريحية.. أما لو شعروا أنك بلسانين وقلبين لن يأمنوا لك جانبا وسينصرفون عنك أو يعاملوك بالمثل. إيمانى عميق جدا بأن للعالم العربى جناحين بنفس الثقل، المشرق والمغرب ومصر فى القلب منهما.. وعلى الرغم من انشغال الجناحين فى الكثير من المشكلات ــ كما نعلم ــ إلا أن استقرار مصر ونموها ومواقفها يعزز التناغم والترابط بينهما.


سر قطر
اتسمت العلاقات المصرية ــ القطرية بالشد والجذب منذ منتصف التسعينيات، وخصوصا بعد انقلاب الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثانى على أبيه الشيخ خليفة آل ثانى سنة 1995م، فبعد ذلك بنحو عام قام الشيخ خليفة بمحاولة فاشلة للعودة إلى الحكم؛ فاتهمت قطر كلا من السعودية ومصر بالوقوف وراء هذه المحاولة، وهو ما أدى إلى توتر شديد فى العلاقات المصرية ــ القطرية، ودخلنا فى سجالات مع حمد بن جاسم بن جبر آل ثانى، وزير الخارجية القطرى آنذاك.
تدخلت سلطنة عمان عبر وزير خارجيتها يوسف بن علوى بالوساطة بينى وبين حمد بن جاسم، قلت لبن علوى: لا يليق أن توجه قطر مثل هذه الاتهامات لدولة مثل مصر، التى هى دولة كبيرة ولها مكانتها فى الإقليم وفى العالم؛ وبالتالى التعامل معها يجب أن يكون فيه نوع من الحذر والكثير من اللياقة. وفى الأخير استطعنا أن نتغلب على هذه المشكلة ونطوى صفحتها. بعد ذلك قام تعاون كبير بينى وبين حمد بن جاسم؛ والواقع أنه يجمعنا ود متبادل فأنا أقدره شخصيا، وأقدر كفاءته ونشاطه وانفتاحه. وأداعبه دوما بقولى: «كفاك جمعا للثروة». فيقول لى: «أريد أن أصبح أغنى رجل فى العالم العربى». سألت الأمير السابق حمد بن خليفة ذات مرة مداعبا: هل أكمل حمد بن جاسم المليار أم لا؟. فضحك الرجل وقال: لن يرتاح له بال ابن الـ... إلا إذا أصبح أغنى ثرى عربى. علاقة الرئيس مبارك وحمد بن خليفة كانت طيبة للغاية، رغم بعض المشكلات التى كانت تظهر على فترات. من ضمن «القفشات» التى كان الأمير يرددها على لسان مبارك ويضحك جدا عليها حكاية طائرة حمد بن جاسم التى أمر أمير قطر بمنحها للرئيس اليمنى على عبدالله صالح؛ فبعد أن شاهد صالح هذه الطائرة خلال توديعه رسميا فى مطار الدوحة أبدى اعجابه بها، فمنحها له الأمير، وكان بن جاسم واقفا إلى جانبها لا يتوقع ذلك، وحزن وظل يشير إلى هذا المقلب آسفا، بينما ظل الأمير يشير إلى هذا الحدث ضاحكا، وكان كلما التقى مبارك مع بن جاسم يقول له: كيف تترك طائرتك لعبدالله صالح؟
فيرد بن جاسم فى أسى: «كانت جامبو يا سيادة الرئيس».
فيرد عليه مبارك على الطريقة المصرية «جامبو على جانبو».. كان الأمير حمد بن خليفة يسمع «إيفيه» «جامبو على جانبو» ويدخل كل مرة فى نوبة من الضحك.
ما أود التأكيد عليه هو أن قطر نجحت فى أن يكون لها قوة دبلوماسية وسياسية واتصالات واسعة بصرف النظر عن حجمها؛ لأن لديها وسائل أخرى للقوة. أذكر أن الأمير السابق، حمد بن خليفة سألنى فى إحدى المرات قائلا: برأيك.. ما هى عناصر القوة التى لدينا فى قطر؟ فأجبته قائلا: عناصر القوة الناعمة (المال، الغاز، وقناة الجزيرة)، وأنت يا سمو الأمير وكذلك حمد بن جاسم.. لا يشق لكما غبار، فانتشى وقال: صدقت.
لقد تمكنت قطر من تجميع عناصر قوة ناعمة ساعدتها على الحركة السهلة، منها استخدامها أموالها الهائلة فى البنوك فى استثمارات على مستوى العالم، وعلى مستوى الدول التى تريد التأثير فيها؛ فلها استثمارات ضخمة فى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها. هذه الاستثمارات الضخمة جعلت رؤساء الدول العظمى يستقبلون أمير قطر أو وزير خارجيته بشكل ــ ربما ــ أفضل من استقبالهم لرؤساء دول أهم وأكبر حجما.
أصبح للقطريين أبواب مفتوحة فى معظم عواصم العالم، إن لم يكن كلها، بالبناء على هذه الثروة الطائلة والقدرة الاستثنائية على الاستثمار، وحسن استخدام الأموال عموما وتأثيرها مع الدول والمجتمعات والأسواق والأفراد، وقد تبع ذلك بالطبع تصاعد قوة التأثير القطرية وقوة وسرعة الاتصالات على أعلى المستويات التى ترغب فيها قطر؛ فأصبحت الدوحة من ضمن العواصم ذات النفوذ، خاصة أنها خلقت لنفسها «لوبى» خاصا بها فى الولايات المتحدة الأمريكية، التى كان يدير الاستثمارات القطرية فيها أحد الشخصيات اليهودية المعروفة، وهو رجل سهل الحركة سريع التواصل منفتح على كثير من الأوساط المتنفذة أمريكيا وعربيا. وكان يتباهى بذلك، ولكنه كان قادرا على الوصول إلى أعلى السلطات الأمريكية لتأمين الطلبات القطرية، بما فيها اللقاءات الخاصة برئيس الجمهورية وغيره من المسئولين.
لقد أصبحت قطر أحد منفذى السياسة الأمريكية التى يعتقد الكثير من الباحثين أنها استقرت على ضرورة تولى «الإسلام المعتدل» الحكم فى عدد من البلاد العربية المهمة وعلى رأسها مصر، وأن أى تغيير فى حكم أى من هذه الدول يجب أن يؤدى إلى تسلم «الإسلام المعتدل» للحكم. كانت مصر هى الهدف الأساسى فى ذلك، ومن هنا جاء موقف قطر ضد النظام المصرى السابق (نظام مبارك) والنظام المصرى الحالى (نظام السيسى) وتماهيها الواضح مع النظام الإسلامى (نظام مرسى).

15‏/09‏/2017

سبتمبر 15, 2017

«5» مذكرات عمرو موسى : قصة تعيينى وزيرا للخارجية وعلاقتى ببطرس غالى

Media preview
خالد أبو بكر
نشر فى : الخميس 14 سبتمبر 2017 - 10:03 م | آخر تحديث : الخميس 14 سبتمبر 2017 - 10:03 م
- استدعانى عصمت عبدالمجيد من نيويورك ليبلغنى مبارك باختيارى وزيرًا للخارجية
- مبارك كان يعد مجموعة من الشخصيات بمنصب معين ثم يجد سعادة بالغة فى أن الإعلام لم يصل لمن وقع عليه الاختيار
- أصررت على أن يزورنى وزير خارجية الولايات المتحدة فى مكتبى لا فى الفندق الذى يقيم فيه كما جرى العرف
- أعدت هيكلة وزارة الخارجية بمنح الشباب عددا كبيرا من الوظائف القيادية

سبتمبر 15, 2017

«4» حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى

 Media preview
خالد أبو بكر: 
نشر فى : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:50 م

- سر المفاوضات السرية بين السوريين وإسرائيل فى الثمانينيات
- غرائب وطرائف أول لقاء مع إنديرا غاندى بعد تعيينى سفيرًا لمصر فى الهند
- تفاصيل مبادرتى لـ«منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط»
- لولا جرأة مبارك لنظَم أنصار الغزو العراقى للكويت أنفسهم ومنعوا صدور قرار الجامعة العربية بإدانة بغداد

سبتمبر 15, 2017

«3» مذكرات عمرو موسى: كنت رأس حربة مصر فى الحرب الدبلوماسية ضد «جبهة الرفض»

«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «3»: كنت رأس حربة مصر فى الحرب الدبلوماسية ضد «جبهة الرفض»

 Media preview

خالد أبو بكر:
نشر فى : الثلاثاء 12 سبتمبر 2017 - 10:14 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 سبتمبر 2017 - 11:35 م

- الخارجية المصرية واجهت ببسالة محاولات العراق وليبيا وسوريا طرد مصر من المنظمات الدولية بعد كامب ديفيد

- صرخت فى وجه رئيس اللجنة التحضيرية فى المؤتمر الوزارى لعدم الانحياز فأجهضت قرارًا بطرد مصر من الحركة

- تعمدت القهقهة مع مندوب فلسطين علنًا فكسرت مساعيه مع جبهة الرفض لتطويق وعزل مصر بعد اتفاقيات السلام

- نجحت فى الحصول لمصر على «نقطة نظام» من كاسترو فى افتتاح المؤتمر الخامس لعدم الانحياز للرد على الهجوم العراقى والسورى الكاسح

- السادات رجل جريء يقال له فى العامية «باجس» أى لا يهتز بسهولة لكنه كان فرعونًا مثل عبدالناصر


تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
اضغط هنا لقراءة الحلقة الأولى
اضغط هنا لقراءة الحلقة الثانية
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19) ــ يكشف موسى عن تفاصيل الحرب الدبلوماسية التى خاضتها مصر ضد محاولات «جبهة الرفض» التى تشكلت من عدد من الدول العربية؛ لعزل مصر دوليا بطردها من المنظمات الإقليمية والدولية عقابا لها على توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، والتى استعرضها فى الكتاب من وثائقها الرسمية التى لا تسمح المساحة المتاحة هنا لعرضها.
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وكذلك بقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.
بعد إعلان السادات فى 9 نوفمبر 1977م أمام مجلس الشعب استعداده للتوجه إلى زيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكينست الإسرائيلى لتحقيق السلام، شكلت ليبيا، وسوريا، والعراق، منظمة التحرير الفلسطينية وأيدتها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهو ما عرف باسم «جبهة الرفض» أو «جبهة الصمود والتصدى» بناء على دعوة الرئيس الليبى معمر القذافى. قرر أعضاء هذه الجبهة فى ديسمبر 1977م تجميد العلاقات مع مصر. واستطاع القذّافى ومعه سوريا تحويل الجبهة إلى كيان سياسى يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربى. وتمكنت من أخذ موافقة أعضاء الجامعة العربية على قرار ينص على طرد مصر من الجامعة إذ استمرت على نهجها، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
بعد ذلك انعقدت القمة العربية فى بغداد سنة 1978م وهى القمة التى أرسلت بعثة للتحدث مع السادات وعرض تقديم 5 مليارات دولار مساعدات مالية لمصر بشرط تراجعه عن السلام، فرفض مقابلتهم كما رفض العرض؛ فعملت الجبهة على طرد مصر من العديد من المنظمات الدولية؛ فوقع على عاتقى باعتبارى مديرا للهيئات الدولية بوزارة الخارجية عبء كبير فى التصدى لهذه المحاولات.
المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت فى مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامى العاشر فى فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر الذى كان مقررا افتتاحه فى 8 مايو 1979م. وعندما شرعت القاهرة، فى التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة.
كنت عضوا فى الوفد المصرى الذى تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامى، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامى يتعامل دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر فى مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان فى أثناء التحضير للقمة يعطى مواعيده دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب...»، وهو ما جعلنى أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامى، وكانت الأدبيات السياسية مليئة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة.
جاءت ساعة السفر، وبينما نحن فى صالة كبار الزوار بمطار القاهرة تلقى التهامى مكالمة هاتفية تفيد بأن «العرب لن يتركوكم وشأنكم فى المؤتمر.. وقد يتعرض أعضاء الوفد للاعتداء». بعدها بدأ التهامى يشيع بين أعضاء الوفد أن الأمور ستكون صعبة علينا، وأن مسألة طردنا من «المؤتمر الإسلامى» ماضية إلى النهاية، وبالتالى لابد من عدم السفر قبل أن نجتمع بمبعوث المنظمة الذى نصح ملك المغرب بالاستماع إليه قبل السفر. كان رد الكثير من أعضاء الوفد على التهامى بعبارة «اللى تشوفه»؛ لكننى قلت له: «يا حسن بك.. يجب أن نسافر ونحضر القمة.. ذهابنا سيمكننا من تغيير الموقف، وربما نتمكن من استصدار قرار جيد أو منع قرار سيئ، أما الغياب فسيكون ضارا بمصلحة مصر».
لكن الذى حدث أنه فى 6 مايو 1979، وصل إلى القاهرة السفير يوسف سيلا، مبعوثا من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى. بغرض إقناع الحكومة المصرية بعدم حضور المؤتمر، لتفادى حدوث مجابهة مع بعض الدول العربية، التى قطعت علاقاتها مع مصر، موضحا أن وفود بعض الدول ستنسحب من المؤتمر إذا حضر الوفد المصرى. أسفرت هذه التطورات عن غياب مصر، وانتهى المؤتمر بتعليق عضويتنا فى المنظمة.
• موقعة سريلانكا
نجاح «جبهة الرفض» فى تجميد عضوية مصر فى الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامى» ــ دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجها لوجه ــ شجعها على المضى قدما فى محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدى له بمنتهى القوة والحزم والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتبارا من الاجتماع الوزارى لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذى انعقد فى كولومبو بسريلانكا فى يونيو 1979م، وهو اجتماع تحضيرى للقمة التى كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد فى هافانا خلال شهر سبتمبر من نفس العام.
والحقيقة أن وزارة الخارجية وفى القلب منها إدارة الهيئات الدولية التى كنت أترأسها قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» فى عزل مصر بإخراجها أو تجميد عضويتها فى المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حربا دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدى لها بشجاعة وبسالة.
وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعى الجبهة لوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، انطلاقا من المعلومات التى وفرتها السفارة المصرية فى سريلانكا فى هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل فى الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلا من التخندق فى مواقع دفاعية.
كانت اللجنة التحضيرية فى هذا الاجتماع الوزارى تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات فى دول الحركة، الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شىء أبدا دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعا. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا فى الجانب الآخر، وأصبحت وحدى ضدهم فى هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع إسرائيل.
كان رئيس الجلسة سفيرا من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبى) وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالى لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزا؛ فبحثت عن نقاط الضعف التى يمكن أن أستفيد منها فى التراشق الذى أعرف أنه قادم لا محالة.
بدأت مناقشة البند الخاص بالشرق الأوسط، والذى يتضمن مشروع قرار مقدما من دول «الرفض» بوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية. كان هجوم بعض الوفود العربية، لاسيما أعضاء «الرفض» شديدا ضدنا، لكن نبرة الدول الأخرى كانت أقل فى حدتها بنسبة تصل إلى 50%؛ فالدول العربية لديها إصرار كبير على طردنا من الحركة، أما الدول الإفريقية والآسيوية فغير متحمسة، كان حديثهم فى الجلسة يصل إلى حد لوم مصر على توقيع اتفاقية السلام لوما شديدا، لكنه لا يصل إلى حد المطالبة بطردها من الحركة.
تابع رئيس الجلسة المعركة حامية الوطيس مع ممثلى «الرفض»، وقال: أرى أن هناك «consensus» (توافق آراء) على طرد مصر من الحركة، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وبالتالى سيرفع القرار إلى اللجنة الوزارية، التى سترفعه بدورها إلى القمة المقبلة فى كوبا.
وبينما يرفع رئيس الجلسة يده بالمطرقة لإعلان «توافق الآراء» صرخت فيه بأعلى صوتى: قف «stop»، فتوقف الرجل و«كش» وأنزل يده، ونظر لى، ولم يعلن اتخاذ القرار. فى هذه اللحظة دخل مندوب الهند على الخط، وقال له: سيادة الرئيس أرى أنك متعجل فى إعلان «توافق الآراء»، وطلب «نقطة نظام»؛ فأعفانى من القيام بمناورة أو مماطلة سياسية «filibuster» كنت أستعد للقيام بها، عبر إلقاء خطبة طويلة جدا لإضاعة وقت الجلسة، وهو ما جعلنى أحتفظ بهذا الإجراء لوقت لاحق.
بدأ بعض العرب الذين كانوا مائلين لصف مصر مثل سلطنة عمان والصومال فى التدخل. قالوا لرئيس الجلسة: ليس من الطبيعى أن تقول إن هناك (توافق آراء) على طرد مصر، ونحن لم نأخذ فرصتنا فى الحديث والتعبير عن مواقف بلادنا من هذا الأمر. عندها أخذ رئيس الجلسة فى اعتباره أن هناك وفودا لدول لا تتحدث بذات اللهجة المتشددة ضد مصر، وأنها لم تعبر بعد عن مواقف بلادها، وأنه من المبكر اعتبار أن هناك «توافق آراء» بشأن هذا البند الخاص بالشرق الأوسط.
جاءنى فى اليوم التالى رئيس الجلسة، وقال لى: سيد موسى سأقول فى تقريرى الذى سيرفع للوزراء: «كان هناك رأى أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفى المقابل كان هناك رأى يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافيا جدا بالنسبة لى لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم» الانحياز فى مهده باللجنة التحضيرية.
يمكننى القول: إن صرختى هذه فى رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» فى إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيدا كتوصية رسمية إلى قمة كوبا.
• تجدد الحرب فى هافانا
خلال الفترة من 3 ــ 9 سبتمبر 1979م انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز فى هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبى فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السورى حافظ الأسد، والرئيس العراقى صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية فى أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشئون الخارجية، بطرس غالى، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبدالمجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقى، ليدعمه باتصالاته الإفريقية.
كان الهجوم عنيفا على مصر فى اللجنة السياسية، التى كان يترأسها السفير عصمت كتانى وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة وهو من الأكراد العراقيين وكان شخصية جيدة جدا وعاقلة بل وراقية، وكان لى معه بالطبع سابق معرفة.
فى بداية الجلسة قلت لكتانى ــ الذى تقود بلاده «جبهة الرفض» ــ أريد التحدث فى البداية لمدة 5 دقائق، وذلك فى البند الأول الخاص بمصر ووضعها (وذلك حتى يكتمل حضور الدول الداعمة لمصر والتى تم الاتفاق معها على موقف واضح ضد طرد مصر من الحركة)، فرد على الرجل باسما بقوله: «charity begins at home»، وهو ما معناه بالمثل المصرى الدارج «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع». كان كتانى متمرسا وكان يتوقع ما سأقوم به، ومن هنا لجأت إلى تكتيك الـ«filibuster» أى «المماطلة الخطابية»، وتضييع وقت الجلسات فى المناكفات والمناقشات، وتمكنت من كسر «توافق الآراء» داخل هذه اللجنة على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، بعد أن تكتل معنا نحو 17 دولة، فى مقابل 20 دولة أخرى ضدنا. وكان تقرير اللجنة الذى قدمه رئيسها إلى القمة يماثل ما صدر عن المجلس الوزارى فى سريلانكا بأن الأغلبية تؤيد تعليق عضوية مصر فى الحركة ولكن هناك أقلية معارضة، وهذا كاف لنسف توافق الآراء.
الوفدان السورى والفلسطينى كانا فى غاية القسوة ضد مصر فى هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلى مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعا فى هذا الأمر. لكننى أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقى، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لى: «لا تؤاخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصيا.. وهى السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال فى جلسة هادئة للغاية، فنظرالكل إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذى خسر كثيرا جدا من مصداقيته بهذه اللقطة، ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى فى الجلسة! وربما يسهران معا. وانتهت المناقشات التاريخية فى اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لصالح الطرد والأقلية غير موافقة.
• موقف تاريخى لكوبا
وصلنا جلسة افتتاح القمة على مستوى رؤساء الوفود، والمذاعة على مختلف إذاعات وتلفزيونات العالم. شن حافظ الأسد وصدام حسين وعدد من العرب وبعض الدول الأخرى هجوما كاسحا ضد مصر. كان رئيس الجلسة هو الرئيس الكوبى كاسترو، وكان بطرس غالى يترأس وفد مصر وكان عصمت عبدالمجيد وأحمد صدقى وأنا وآخرون خلفه. فى أثناء الهجوم علينا سألنى غالى: متى سنتحدث؟ قلت: أمامنا وقت طويل جدا.. ودورنا ليس فى الجلسة الافتتاحية. قال: وما العمل إذن؟
قلت: دعنى أجرى محاولة لاقتناص دقائق فى هذه الجلسة الافتتاحية التى تسلط عليها الأضواء. توجهت إلى سكرتير عام المؤتمر، وهو المندوب الدائم لكوبا لدى الأمم المتحدة آنذاك «ريكاردو آلاركون»، وأصبح بعد ذلك رئيسا لمجلس النواب فى بلاده، وكانت تربطنى به علاقة طيبة..
صعدت إلى المسرح الذى يجلس عليه كاسترو وعلى يمينه وزير خارجية وعلى يساره آلاركون.. كانت القاعة صامته ورزينة فهى مليئة بالرؤساء. همست فى أذن آلاركون: أنت ترى الهجوم الكاسح على مصر.. نريد أن نتحدث فى الجلسة الافتتاحية. رد دون تفكير: «very difficult» صعب جدا.
قلت: اسمعنى.. أنتم كوبا.. ونحن مصر أقدم دولة عربية لكم علاقات معها. لا نريد منكم أكثر من حق الرد فى موعد مناسب. قال: ماذا تقصد بموعد مناسب؟ قلت: فى هذه الجلسة، وبناء على نقطة نظام إذا أردتم. قال: سأحاول.. وسأرسل لك رسالة بالرد.
عدت لمقعدى. قلت لغالى احتمالات منحنا الكلمة موجودة، ولكنها لا تزيد على 50%. جهز نفسك للرد متى يجيء، فاستعد الرجل. انتهت قائمة المقرر لهم الحديث فى الجلسة الافتتاحية، وإذا بكاسترو بصوته ذى الذبذبات الخاصة يقول: أدعو رئيس الوفد المصرى لـ«نقطة نظام»، وهنا قام غالى بالرد على من هاجمونا بلغته الفرنسية الرشيقة فأفحمهم.
فى المساء كان الوفد يجتمع على العشاء للحديث عما سنفعله فى الغد، وأذكر فى هذا الوقت أن محمد كريم العمرانى، وهو شخصية مغربية كانت مقربة من العاهل المغربى الراحل، الملك الحسن الثانى، وشغل منصب رئيس الوزراء وكان ضمن وفد بلاده فى القمة ــ جاء لمقابلة بطرس غالى مرتديا «شورت وبرنيطة ونظارة سوداء فى المساء» حتى لا يعرفه أحد، وعمل الشقيق المغربى على تقليل التوتر فى حديثه مع بطرس، وتأكدنا منه بأنه لن يكون جزءا من أى «أوركسترا» ستعزف ضدنا.
الواقع أننا ــ فى هذا الوقت ــ كنا قد كسبنا المعركة فى اللجنة السياسية، التى انتهت دون توافق على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، كما كسبنا معركة إعلامية مهمة بالرد على الهجوم علينا فى الجلسة الافتتاحية المذاعة وسنلعب بنفس الطريقة فى القمة حتى لو تحايلوا بأى شكل من الأشكال.
فى اليوم التالى تحايلوا فعلا وطلبوا انعقاد مكتب المجلس الذى يضم العراق وسوريا وليبيا، وقالوا: لو خرجنا من الاجتماع ومصر باقية فى الحركة سنخرج منها، ولابد من صدور قرار بطردها. وقد أطلعنى «آلاركون» على ما يدفع العراق وسوريا فى اتجاهه، قلت له: استخدم أعنف لغة تريدها ضدنا ولكن بدون قرار، وأبلغت بطرس بكل ذلك فوافق عليه.
عاد «آلاركون» إلىّ ثانية وقال: اللهجة العنيفة ليست كافية. قلت له: بإمكانك تحويل الأمر حتى يهدءوا إلى مجموعة عدم الانحياز الوزارية فى الأمم المتحدة لمتابعة هذا الموقف واتخاذ توصية، وإذا كانت الأمور صعبة فحدد موعد الاجتماع بالضبط، ولكن لا قرار من هافانا أو توصية وإنما تقرير كالمعتاد يحوى القرارات ويلخص المناقشات، خاصة أن وزراء الخارجية سيكونون هناك بالفعل بعد أيام لحضور اجتماعات الجمعية العامة، وهو ما حدث بالفعل، وتحول الأمر بالفعل إلى الأمم المتحدة، وهناك تصدى لهم مندوب مصر الدائم عصمت عبدالمجيد، ولم يستطع أحد إخراج مصر من حركة عدم الانحياز.. وانتهى الأمر.
تحدث معى أحد وزراء الخارجية فى أمريكا اللاتينية فيما بعد ذلك بسنوات، بأن مندوب كوبا فى اجتماعات مجموعة عدم الانحياز من الدول اللاتينية خلال قمة هافانا ذكر لهم أن مصر لن تطرد من الحركة فى هافانا.
• اغتيال الرئيس السادات
فى سبتمبر سنة 1981م انتقلت للعمل فى نيويورك نائبا للمندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة، عصمت عبدالمجيد. وفى فجر 6 أكتوبر بتوقيت نيويورك اتصل بى صحفى أمريكى قائلا:«حدثت مذبحة فى القاهرة فى عرض عسكرى. جرح أناس كثيرون ومنهم الرئيس السادات». بعده بقليل اتصل بى صحفى آخر وكرر نفس الكلام، ثم اتصل بى صحفى مصرى وقال لى: يبدو أن الرئيس السادات قد قتل.
كنت أنا من يترأس الوفد المصرى فى الأمم المتحدة لأن عبدالمجيد كان يؤدى مناسك الحج. اتصلت بوزارة الخارجية فى السابعة صباحا بتوقيت نيويورك (نحو الثانية بعد الظهر فى القاهرة) لأسأل عما حدث فى مصر، فوجدت تحفظا فى الرد؛ فطلبت مدير مكتب الوزير، وقلت له: أنا أسأل عن مصير الرئيس السادات ولا أحد يجيبنى، وأنا عندما أسأل عن هذا الأمر، فذلك ليس مرده الفضول الشخصى من جانبى، ولكن لأنه فى حالة ما إذا كان الرئيس قد قتل فعلا، فلابد أن نرتب له حفل تأبين يليق به فى الأمم المتحدة، وإذا بدأنا فى هذه الإجراءات والترتيبات مبكرا فسوف نستطيع عقد جلسة خاصة للجمعية العامة اليوم، ندعو فيها وفود الدول لتأبين الرئيس؛ ولذلك أرجو أن أحاط علما بالأمر فى ظرف ساعة على الأكثر.
كلمت الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، فوجدته على علم بالتطورات التى وقعت فى القاهرة، لكن لا علم له بمصير الرئيس السادات. قلت له: يبدو أن الأمر خطير واحتمالات وفاة الرئيس السادات تبدو قائمة، وأطلب من الآن عقد جلسة خاصة للجمعية العامة لتأبينه، فوافق الرجل، وقال لى: سأبلغ مساعدى ليستعدوا لذلك، وسأكون على اتصال بك.
فى هذه اللحظة كلمنى أحد السفراء من القاهرة، قال لى: أنا أتحدث إليك من مكتب الوزير وأود أن أخطرك بأن الرئيس قد مات بالفعل، لكننا لا نريد إعلان ذلك الآن. قلت له: أنتم لا تريدون إعلان مقتل الرئيس الآن؟.. لكننى أود أن أبلغك بأن هذا الأمر أصبح شائعة/ معلومة تدور فى أركان العالم الأربعة.
جلست أتابع التحضيرات لجلسة الجمعية العامة فى مكتبى بمقر البعثة قرابة الساعتين، توافد خلالها كثيرون لتقديم العزاء، كان على رأسهم: السيدة جاكلين كيندى، وعمدة نيويورك، وشخصيات أمريكية رفيعة، وعدد من أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب الأمريكيين الموجودين فى نيويورك بمناسبة دورة الجمعية العامة.
فى جلسة التأبين التى انعقدت فى الثالثة عصرا كانت المفاجأة بالنسبة لى هى أن مندوب إسرائيل طلب الكلمة. لم أشعر بالارتياح. كان بإمكانى ببعض المناكفات أن أمنع ممثل إسرائيل من التحدث، لكننى أردت أن تمر المسألة فى هدوء، وأردت للجلسة أن تمضى فى جو من المهابة التى تليق بالرحيل المفاجئ لرئيس مصر. بعد أن انتهى من كلمته جاء مندوب إسرائيل مهرولا فى اتجاهى والكل ينتظر ما سيحدث، لكننى وقفت متوقعا أن يظهر عواطفه الجياشة والواضحة بعناقى. طلبت من أحد الزملاء أن يلتقى بالسفير الإسرائيلى قبل أن يصل إلىّ بمترين أو ثلاثة ويسلم عليه ويعطله ولو لثوان تتراجع خلالها حماسته، وهو بالفعل ما تم، ثم مددت يدى بصلابة وسلمت عليه بطريقة رسمية. شعر الرجل بأننى غير مستعد لأن أذهب أبعد من ذلك، فشد على يدى وتمتم ببعض عبارات العزاء وعاد إلى مكانه.
السادات كان يعتبر نفسه أكبر من الدبلوماسية المصرية كلها، ومن المواقف التى تدل على ذلك ما رواه لى بطرس غالى عندما ذهب إليه فى استراحة الرئاسة على شط قناة السويس فى الإسماعيلية بعد أن نجحنا فى دحر محاولات «جبهة الرفض» من طردنا من حركة عدم الانحياز، أو تعليق عضوية مصر فيها.
قالى لى غالى: لقد ذهبت للرئيس السادات فى استراحته بالإسماعيلية والسفن تمر من أمامه فى القناة. كان يجلس على كرسى مثل كراسى «البلاجات»، وهو ممسك بغليونه الشهير. شرحت له كيف تصدينا لجبهة الرفض فى كوبا وأنا فخور بما حققناه، وما كان منه إلا أن أمسك بحفنة من التراب وقال لى: «عارف يا بطرس كل الكلام اللى أنت قلته ده واللى قالوه ضدنا فى كوبا ميساويش حفنة التراب المصرى دى». وهو ما معناه: أن ما قمتم به أمر جيد، ولكن الأهم هو التراب الذى حررته بالحرب والسلام.
كان السادات رجلا جريئا يقال له فى العامية «باجس» أى لا يهتز بسهولة، لكنه كان فرعونا مثل عبدالناصر، ويستبد برأيه مهما حذره المحيطون منه. ويرى فى أطروحات القريبين منه «مجرد كلام يقولوه ويعيدوه».. أما رأيه فهو الأصوب.. باختصار كان عبدالناصر والسادات دكتاتورين لا يأبهان بالرأى الآخر.

سبتمبر 15, 2017

الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «2»: هزيمة يونيو أثبتت أن حكم الفرد لا يمكن أن يحقق التقدم والأمن

«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «2»: هزيمة يونيو أثبتت أن حكم الفرد لا يمكن أن يحقق التقدم والأمن

Media preview


كتب - خالد أبو بكر:
نشر فى : الإثنين 11 سبتمبر 2017 - 10:27 م | آخر تحديث : الإثنين 11 سبتمبر 2017 - 11:09 م


- التقيت عبدالناصر مرتين فى حياتى وأرى أنه قامر بمستقبل مصر فى 1967

- امتنعت عن حضور اجتماعات «التنظيم الطليعى» بعد الهزيمة ولم يسأل عنى أحد

- 5 يونيو بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير

- الأمم المتحدة تحولت لساحة احتفال عربية بعد عبور قواتنا قناة السويس سنة 1973

- حدث توارد خواطر بينى وبين السادات بشأن التفاوض المباشر مع إسرائيل ونجل المشير أحمد إسماعيل شاهد على ذلك

- اعتراف وكالات الأنباء بأن البيانات العسكرية المصرية تحظى بالمصداقية كان مدعاة للفخر

- تعرضت للتهميش فى عهد محمد إبراهيم كامل ولم أشارك فى مفاوضات كامب ديفيد

تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات الدبلوماسى والسياسى العربى المرموق عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها الكاتب الصحفى خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».


اضغط هنا لقراءة الحلقة الأولى

وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19) ــ يستعرض موسى فيها شهادته على الحقبة الناصرية، وهزيمة 1967 وانتصار العرب فى أكتوبر 1973، وتوارد أفكاره مع الرئيس أنور السادات بشأن حتمية التفاوض المباشر مع الإسرائيليين لاستكمال تحرير الأرض. ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وكذلك بقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.

التقيت عبدالناصر مرتين فى حياتى. الأولى كانت فى 21 أكتوبر 1966 فى نيودلهى، عندما ذهبت مع وفد ترأسه هو للقاء إنديرا غاندى، بعد توليها رئاسة وزراء الهند. فقد تقرر عقد قمة ثلاثية لإنديرا مع عبدالناصر والرئيس اليوغوسلافى جوزيف تيتو، قطبى عدم الانحياز دعما للزعيمة الجديدة للهند. جلست أنا وعبدالرءوف الريدى خلف الرئيس لنكتب محضر اجتماعه مع إنديرا غاندى.

المرة الثانية كانت أثناء عملى بمكتب وزير الخارجية، محمود رياض، قبل هزيمة يونيو 1967م بأيام، وهو التاريخ الذى أعتبره نهاية صولجان عبدالناصر وبداية لتدهور الأحوال المصرية. قبل بدء الحرب قرر عبدالناصر إغلاق خليج العقبة، وسحب القوات الدولية من سيناء، وأغرق البلاد بأجواء تعبوية كبيرة. أذكر أن من بين الشعارات التى تم ترديدها فى الإعلام خلال هذه الفترة «العقبة قطع رقبة»، فى إشارة لمصير أى قوة إسرائيلية تحاول المرور من خليج العقبة بالبحر الأحمر. (التفاصيل الكاملة موجودة بالكتاب).

حدث ما حدث فى 5 يونيو، فأصبت بإحباط مهول. كنت حزينا جدا، مبعث حزنى أننى كنت قد بدأت أتلمس الحقيقة بعد مضى عدة ساعات لاندلاع القتال. كنا فى مكتب الوزير نعرف أن إذاعتنا وصحافتنا تكذب بشأن حجم الطائرات التى يتم الإعلان عن أننا أسقطناها؛ لأننا نستمع إلى إذاعات أجنبية كثيرة، ونطلع بانتظام على تقارير وكالات الأنباء ذات المصداقية، وكلها أجمعت على تقدم القوات الإسرائيلية فى سيناء.

بعد يومين من القتال كانت حقائق الموقف قد تبلورت أمام وزير الخارجية محمود رياض ومدير مكتبه السفير محمد شكرى، الذى رأيته خارجا من مكتب رياض قبيل ظهر 7 يونيو وهو فى حالة بكاء هيستيرى. وقع الرجل على الأرض مغشيا عليه من هول الصدمة على الرغم من رباطة جأشه المعروفة عنه، حيث كان ضابطا سابقا بالجيش. هنا بالضبط تيقنت بأن شكوكنا بشأن حدوث كارثة كبيرة قد تأكدت.

ساعدت شكرى بدعم من بعض العاملين فى المكتب على الوقوف حتى أفاق. أمرت السعاة بالانصراف، والرجل غير قادر على التوقف عن البكاء. سألته عما جرى، فقال: «كارثة.. اليهود وصلم قناة السويس». أصابتنى صدمة كبيرة وإحساس بالمهانة والإحباط على الرغم من أن كل الشواهد كانت تشير إلى وقوع هذه المصيبة. بدأنا نقول لأنفسنا إن الذى يجعل الكارثة تصل لهذا الحجم هو أننا بالتأكيد لم نكن مستعدين، وأن القرار السياسى الذى أدى إلى الحرب كان بالقطع خاطئا، وحساباته غير دقيقة، وتوقعاته غير سليمة تكاد تصل إلى حد المقامرة. لم يكن يصح أن نعَرض بلدنا لهذا التحدى المدمّر!.

غادر الوزير إلى اجتماع ما فى الأيام الأولى بعد تلك الكارثة الوطنية، وأغلق السفير شكرى مكتبه ليستريح بعض الشىء. ودخلت بمفردى غرفة الاجتماعات الملحقة بمكتب الوزير. رصصت 4 كراسى بجوار بعضها كى أستطيع أن أستلقى عليها من فرط التعب والإرهاق. شعرت بإنهاك وإجهاد غير عادى. استلقيت على الكراسى وشبكت كلتا يدَىّ وأسندت بهما رأسى، وعيناى شاخصتان فى سقف الحجرة، ورحت أفكر بعمق.

صحيح كانت هناك انتقادات كثيرة لبعض الأوضاع، لكننى فى هذه الفترة من حياتى (31 سنة) لم أكن أنصت إليها، أو أقتنع كثيرا بها، مثل تراجع الإنتاجية الزراعية بعد تفتت الرقعة الزراعية على صغار الفلاحين فى الإصلاح الزراعى. كانت هناك شكاوى من تدخل البعض بتشويه بعض الحقب التاريخية على حساب أخرى، مثل تلك التى سبقت ثورة 23 يوليو 1952م، وكأن كل الأوضاع قبلها كانت شرا مستطيرا. كانت الأنباء تترى عن وجود صراعات بين القيادة السياسية الممثلة فى عبدالناصر، والقيادة العسكرية المتمثلة فى المشير عبدالحكيم عامر. كانت هذه من الأمور التى تبعث على قلق النخبة (على الأقل)، فضلا عما تواتر عن قمع أى بصيص للمعارضة، وما عرف عن تدجين الصحافة. كل ذلك شريط مر أمامى وأنا ملقى على كراسى غرفة الاجتماعات.

رحت أفكر.. كيف لهذه الهالة وهذه الأحلام البازغة أن تتحول إلى سراب؟!. كانت الهزيمة ثقيلة جدا، مهما حاول البعض من التخفيف منها بتسميتها «نكسة»؛ لأنها كانت هزيمة بكل معنى الكلمة، وكان من مقتضى هذه الهزيمة أن عددا كبيرا من الشباب ــ وأنا منهم ــ راح يتساءل من هول الصدمة: هل كنت مخطئا فى هذا التأييد العارم للنظام؟ هل اهتمام عبدالناصر بوضعه الخارجى على حساب الأوضاع الداخلية والبنية التحتية بمعناها المادى ومعناها المرتبط بالإنسان هو الذى قادنا إلى هذه الهزيمة؟. هل اعتبر الرئيس أنه أكبر من مصر؟ أم اختلط عليه الأمر فاختصر مصر فى شخصه.. ما هو جيد له جيد لمصر وربما ليس العكس؟. كان رأيى أن عبدالناصر مسئول كلية عما حدث. لقد كان 5 يونيو بداية طريق طويل انتهى بثورة 25 يناير 2011، ولا يقدح فى ذلك دور الرئيس السادات ونجاحه فى حرب أكتوبر؛ لأن ذلك لم يقترن بإصلاح واعٍ وشامل لأمور مصر.

انضممت خلال الحقبة الناصرية بـ«التنظيم الطليعى»، غير أن دورى فيه لم يكن كبيرا. الذى ضمنى إليه هو السفير فتحى الديب خلال عملى معه فى السفارة المصرية فى سويسرا. كان ذلك فى أوج سطوع نجم عبدالناصر خلال الثورة الجزائرية، التى كانت فى قلب السياسة الخارجية المصرية فى أوائل السيتينيات. عندما عدت إلى مصر من سويسرا أصبحت عضوا فى إحدى المجموعات التى كان مقررها السفير محمد شكرى. كانت النقاشات تتم حول السياسة الخارجية والأوضاع الداخلية والتصنيع، وكيف أننا نجحنا فيه «من الإبرة للصاروخ»، ولم نسأل أنفسنا ماذا نعنى بالإبرة والصاروخ؟.. خصوصا أن الأبرة وقتها لم تكن مصنوعة بشكل جيد، والصابون لم يكن يحدث رغوة، ولا «البشاكير» تجفف كما يجب!.

كانت مثل هذه الملاحظات على الصناعة تترسب فى النفس دون أن نشعر بها، لكنها مع الكثير من السلبيات الأخرى التى لم نتوقف أمامها من قبل صغيرة كانت أم كبيرة انفجرت مع الهزيمة وفقد سيناء. فى هذا الوقت أدركت أن حكم الفرد لم ينجح فى الحفاظ على تقدم البلاد وتحقيق رخائها أو أمنها خصوصا إذا كان مع شخص مهول مثل عبدالناصر، يمكن أن يؤدى بالبلد بقرار منفرد منه إلى مصير مجهول كما حدث بالضبط فى 5 يونيو. لم أحضر أى اجتماع للتنظيم الطليعى بعد 5 يونيو، ولم يسأل عنى أحد.

• انتصار أكتوبر 1973

طيلة السنوات الأربع (1960 ــ 1964م) التى قضيتها فى سويسرا لم أنس قط أن خيارى الأول فى العمل الدبلوماسى هو العمل فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة؛ ولذلك عند عودتى من برن، وعملى لمدة 4 سنوات بمكتب الوزير كنت مصرا على أن تكون وجهتى الخارجية التالية إلى هذه المنظمة الدولية الأكبر فى العالم. فى سبتمبر 1968م صدر قرار بتعيينى عضوا فى وفدنا الدائم لدى الأمم المتحدة، اختارنى السفير محمد عوض القونى، مندوب مصر الدائم فى ذلك الوقت لأعمل مع ممثل مصر فى اللجنة الثالثة، من لجان الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيسية، والخاصة الخاصة بالمسائل الإنسانية وحقوق الإنسان.

بدأ نجمى يبزع فى أروقة هذه المنظمة الدولية الكبيرة خلال عملى بهذه اللجنة التى زادت أهميتها بعد أن قررت الدول العظمى وقف مناقشة موضوع الشرق الأوسط فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها، كى يتركوا الفرصة للسياسيين للعمل بعيدا عن الضغوط فى إطار مفاوضات واتصالات دبلوماسية، على أن تستمر مناقشة ما يتعلق بالجانب الإنسانى فى الصراع بين العرب وإسرائيل فى اللجنة الثالثة باعتبارها المعنية بالجوانب الإنسانية وحقوق الإنسان. من حسن الحظ أننى أصبحت مندوب مصر الرسمى الأول فى هذه اللجنة، وهنا كان التدريب الحقيقى على النقاشات العامة وضبط تشعبها، وصياغة القرارات، والدفوع المتعلقة بالإجراءات، ومناقشة الأمور الحساسة فى القضية الفلسطينية. بجانب أننى نجحت فى تكوين «لوبى» داخل هذه اللجنة من الدول العربية والإفريقية ومجموعة عدم الانحياز، كانت له الكلمة الفصل فى مناقشات هذه اللجنة. (تفاصيل ما قدمه السيد موسى داخل هذه اللجنة موجودة بالكتاب).

أنهيت فترة خدمتى الأولى فى وفد مصر الدائم بالأمم المتحدة، وعدت إلى مصر فى 29 ديسمبر سنة 1972م، للعمل فى مكتب وزير الخارجية. فى 25 سبتمبر 1973م سافرت ضمن الوفد الذى رافق وزير الخارجية، الدكتور محمد حسن الزيات إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك. مضت الأمور عادية فى أروقة المنظمة الدولية الأكبر حتى مساء يوم 5 أكتوبر؛ فالأجواء فى نيويورك كانت تشير إلى أن شيئا ما قد يحدث فى الشرق الأوسط، مع تواتر أحاديث عن حشود عسكرية عربية وحشود إسرائيلية مضادة، لكننى بعد أن رجعت من حفل الإفطار الرمضانى الذى نظمه الدكتور عصمت عبدالمجيد المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة ــ آنذاك ــ للوزير وأعضاء الوفد المصرى بمنزله (يوم 9 رمضان 1393هـ/ 5 أكتوبر)، وبعد أن أنهيت بعض الأعمال خلدت إلى النوم نحو منتصف الليل. أيقظنى تليفون وكيل وزارة الخارجية، الدكتور أحمد عثمان عند السابعة والنصف صباحا بتوقيت نيويورك.

قال عثمان بلهجة سريعة «عمرو.. عمرو.. اصحى بسرعة.. الحرب قامت فى جبهة قناة السويس ويبدو إننا ماشيين كويس». انتفضت من على سريرى وأنا أقول له: «إوعى يكون نفس البيانات بتاعت زمان، وأننا أسقطنا 70 طيارة و80 طيارة». قال لى: «ربنا يستر.. تعالى بسرعة الوزير عامل اجتماع للوفد كله».

أعددت نفسى بسرعة البرق، وهرعت إلى مقر البعثة الذى يبعد بنحو 300 متر عن فندق «هامبتون هاوس» الذى أقيم فيه. بمجرد وصولى وجدت عثمان أمامى. كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحا (الثالثة بعد الظهر بتوقيت القاهرة). قال لى أنباء الحرب حقيقية، ويبدو أن قواتنا المسلحة قد بدأت عبور القناة. بدأنا نفرح لكن بحذر إلى أن يتم تأكيد المعلومات. ولما بدأت وسائل الإعلام الأمريكية ووكالات الأنباء العالمية تؤكد من إسرائيل أخبار عبور الجيش المصرى لقناة السويس وتقدمه بطول الجبهة عمت الفرحة أوساط الوفد المصرى.

كان من دواعى سرورنا وفرحتنا العارمة أن وكالات الأنباء نفسها تقول إن «البيانات المصرية تبدو عليها الرصانة وعدم الاضطراب، بشأن عبور القوات المصرية للضفة الشرقية للقناة، وأنها تحظى بمصداقية فيما يخص الإعلان عن الخسائر وما حققته على الأرض من مكاسب». أصبح مقر البعثة المصرية قبلة للوفود العربية والإفريقية والدول الصديقة، فى حالة من الفرح الجماعى بما حققه الجيش المصرى، بعد أن كدنا نفقد ثقة العالم فى قدراتنا العسكرية، فى وقت وصل الصلف الإسرائيلى منتهاه.

عندما انعقد مجلس الأمن فى 8 أكتوبر، كانت القوات المسلحة المصرية قد أتمت عبورها إلى الشط الشرقى لقناة السويس، وصدت بمنتهى القوة الهجوم المضاد الرئيسى للعدو فى اليوم السابق، وهو ما انعكس بشدة على أدائنا أثناء جلسة مجلس الأمن، الذى دخلناه ونحن نشعر بقوة لم نشعر بها منذ احتلال أراضينا سنة 1967. جلس الزيات على رأس الوفد المصرى، وخلفه عصمت عبدالمجيد، المندوب الدائم، وأنا فى مقعد المشكو فى حقه، وجلس مندوب إسرائيل ومرافقين له فى مقعد الشاكى. جاءت لى ورقة من المستشار الصحفى يخطرنى فيها أن «خط بارليف قد سقط، وأن قواتنا تتمسك بمواقعها شرق القناة، وما معناه أنها صدت الهجوم المضاد الرئيسى للعدو، وأن عددا كبيرا من الجنود الإسرائيليين وقعوا فى الأسر».

أعطيت هذه الورقة للزيات، فقال لى اذهب وأعطها للسكرتير العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، الذى أعلن النبأ أثناء انعقاد الجلسة. وأثناء عودتى إلى مقعدى عشت أسعد لحظات حياتى. كانت الشرفات تضج بالفرحة العربية، كان بعض الدبلوماسيين يبكون بطريقة هيستيرية فرحا بالانتصار العربى على الغطرسة الإسرائيلية.

قلت: سبحان الله! فى ظرف 6 سنوات تغير الموقف من شرفات تهلل لانسحاب الجيش المصرى من سيناء وطلب وقف إطلاق النار فى يونيو 1967 وكانت الشرفات مليئة بيهود نيويورك، إلى شرفات تهلل لسقوط خط بارليف نهائيا فى 8 أكتوبر 1973 فى أيدى القوات المصرية. خطب الوزير الزيات خطبة فى منتهى البلاغة والمنطق تليق بالنصر المصرى. كان مفوها سواء تحدث بالعربية أو بالإنجليزية. قوبلت كلماته بالتصفيق الحاد من الشرفات، بل ومن عدد من الوفود على الرغم من أن ذلك لم يكن من تقاليد المجلس، ولكن يهود نيويورك صفقوا فى يونيو 1967 وجاء دورنا لنصفق. (يضم الكتاب مجموعة من الوثائق التى تبرز كيف أدار الوفد المصرى المعركة الدبلوماسية فى أروقة الأمم المتحدة خلال حرب أكتوبر 1973).

بعد سريان وقف إطلاق النار تعزز شعورنا بأن الاتصال بين الرئيس السادات ووزير خارجيته الزيات لم يكن كما يجب أن يكون الاتصال بين رئيس جمهورية ووزير خارجيته فى وقت تخوض فيه بلادهما حربا شرسة لتحرير الأرض. كان واضحا أن السادات على وشك تغيير الوزير واختيار إسماعيل فهمى، الذى ظهر أنه يعتمد عليه بشدة فى هذه الأثناء.

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الوزير الزيات يعلم بموعد حرب أكتوبر قبل سفره إلى نيويورك؟ وهل كان فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية بين السادات وكيسنجر؟ أنا أعتقد بأن الوزير لم يكن بعلم بموعد بدء القتال، كما أنه لم يكن فى الصورة بالكامل من الاتصالات السرية.. لماذا؟ لأن بناء الإدارة المصرية وتوجهاتها ــ خلال هذه الفترة ــ لم يكن يهتم بأن ينفق وقتا كافيا لوضع وزير الخارجية فى الصورة، خصوصا أن وزيرا آخر (هو الوزير القادم إسماعيل فهمى) أصبح قائما بأعمال وزير الخارجية الموجود فى نيويورك لتمثيل مصر فى المعركة الدبلوماسية التى كانت قد بدأت بالفعل، وخاصة عند الاحتياج إلى وقف إطلاق النار أو إلى دور ما، إلا أننى أعتقد أيضا أن الاتصال الوحيد كان يتم من حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى ليضع الزيات فى الصورة تليفونيا(!).

• توارد الأفكار مع السادات

مضت الأيام بعد فض الاشتباك الثانى فى سبتمبر من سنة 1975م، رتيبة، وساطات كثيرة بيننا وبين الجانب الإسرائيلى من دون فائدة أو تقدم يذكر. فى هذه الأثناء ــ أو بعدها بقليل ــ لاحظت التوتر يتسلل إلى الوزير إسماعيل فهمى. بدأ الرجل يشعر بصورة أو أخرى بأن الرئيس يرتب لشىء ما من وراء ظهره، ومن هنا بدأت ظلال من الشك بين الرئيس ووزير خارجيته منذ أواخر 1976 وأوائل 1977. بدا أن مفترق طرق قادم فى العلاقة بين الرجلين يلوح من بعيد.

جاء موعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 1977م. سافرت ضمن وفد مصر مع الوزير فهمى. فى هذا الوقت.. ونحن فى الجمعية العامة ترسخت فى نفسى قناعة نتيجة للمتابعة الدقيقة لمجريات الأمور مؤداها بأنه لا فائدة من كل الوساطات التى تتم بيننا وبين الإسرائيليين، سواء من اللجنة الرباعية، التى كانت ترفع تقارير إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو تلك التى يقوم بها الأمريكيون مع السادات، وغيرها، وأنه لا سبيل إلا بالتفاوض المباشر مع تل أبيب.

كان التفكير بهذه الطريقة عن لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين فى هذا الوقت المبكر بعد حرب شرسة دارت على جبهة قناة السويس ضربا من المجازفة غير المحمودة إذا تمت المجاهرة به، لكننى كدبلوماسى محترف قرأت الواقع فوجدت أننا نسير فى حلقة مفرغة، وما دمنا قد أدينا واجبنا بكفاءة نادرة على جبهات القتال فإنه آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها وجها لوجه كما تحرك السلاح وجها لوجه.

أول من عبرت له عن قناعتى بضرورة التفاوض المباشر مع الإسرائيليين، السفير محمد إسماعيل، (السكرتير الثالث فى ذلك الوقت) نجل المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، إبان حرب أكتوبر. كان إسماعيل عضوا فى بعثة مصر بالأمم المتحدة وفى يوم من أيام وجودنا فى نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة دعوته لأن يمشى معى فى حديقة الأمم المتحدة لنسرى عن أنفسنا ونتحدث فى بعض الأمور. كان يستعد للسفر إلى القاهرة لتوصيل رسالة يدا بيد من إسماعيل فهمى إلى السادات عن انطباعات الوزير ونتائج اتصالاته والإعداد للقاء كارتر.

سألنى إسماعيل عن رأيى فى مسار التفاوض مع الإسرائيليين بعد أن سكتت المدافع على الجبهة. قلت: «يا محمد كل ما نقوم به بلا جدوى.. لابد من اتصال مباشر الآن بيننا وبين إسرائيل. أرى أن نطرح هذا الأمر للمناقشة فى وزارة الخارجية وعلى مستوى صناعة القرار فى الدولة بكاملها.

الأمور يا محمد وصلت إلى نقطة الصفر. ما نسمعه من السكرتير العام للأمم المتحدة فالدهايم (كلام فاضى)، وما نسمعه من الأمريكان (كلام غير واضح فى منطلقاته وغير مضمون فى نتائجه) وما نسمعه من السوفييت لن يؤدى إلى شىء؛ ولذلك لا أرى فائدة لـ(القومسيونجية) أى السماسرة، إذا كانت الأمور على هذا النحو دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة مع الإسرائيليين».

من المفارقات أن ما كان يدور فى ذهنى فى هذه الفترة كان هو ما كان يدور فى عقل الرئيس السادات، وطبعا لم تكن هناك أى لقاءات أو أحاديث جرت مع الرئيس فى هذا الشأن، فموقعى فى وزارة الخارجية لم يكن يتيح لى الالتقاء به، لكن يمكن اعتبار ذلك نوعا من توارد الخواطر بين رجلين.. كل بقدر طبعا. كان تفكيرى منصبا على تواصل ما لأجهزة الدولة المصرية مع نظيرتها الإسرائيلية للبحث عن حلول، أو ربما على مستوى دبلوماسى مؤهل على أقصى تقدير، لكن الرئيس السادات أخرج أفكاره فى شكل درامى: مبادرة للسلام، وزيارة إلى القدس، وهو الذى لم يخطر فى بالى على الرغم من توارد الأفكار بشأن الحوار المباشر. (يضم الكتاب نص شهادة مسجلة للسفير محمد أحمد إسماعيل عن هذه الواقعة).

• محاولات تهميشى بالوزارة

فى 25 ديسمبر 1977 تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيرا للخارجية، وهو المنصب الذى ظل شاغرا منذ استقالة إسماعيل فهمى فى 18 سبتمبر من نفس العام. مع تولى الوزير الجديد منصبه بدأ بتهميش كل من اعتبرهم وبعض مساعديه رجال إسماعيل فهمى فى الوزارة. وكنت بالطبع واحدا منهم؛ وبالتالى لم أكن ضمن المجموعة التى شاركت فى مفاوضات كامب ديفيد. لم يقتصر الأمر على استبعادى من المشاركة فى هذه المفاوضات المصيرية، بل جرت محاولات لإبعادى من منصبى مديرا لإدارة الهيئات الدولية. جاءنى المرحوم عبدالمنعم غنيم، وكان العضو الأقدم فى مكتب الوزير ناقلا إلىّ عرضا لأكثر من منصب، منها: قنصل مصر فى سان فرانسيسكو، والقائم بالأعمال فى أيرلندا. حاولوا تزيين هذه الأماكن فى عينى، لكننى رفضت بشدة.

الأشهر التسعة التى قضاها إبراهيم كامل فى الوزارة كانت من أصعب الفترات التى عرفتها فى مسيرتى المهنية حتى ذلك التاريخ. كان هناك نوع من الغيرة القاتلة تجاهى من المجموعة المحيطة به فأوغروا صدره ضدى، لكنى بكل ما أستطيع حاولت تجنب سهامهم.

فى هذه الأثناء دار حوار بينى وبين صديقى أحمد أبوالغيط، الذى كان يعمل معى فى إدارة الهيئات الدولية، وكان مطلعا على الأمور الخاصة بسياسة التضييق علىّ من قبل المحيطين بالوزير. حدثنى أبوالغيط مؤيدا السياسة التى اتبعتها مشيرا إلى «نظرية الانسحاب والعودة المظفرة للشخصية التاريخية« withdraw and return of the historical figure» للمؤرخ البريطانى الشهير«أرنولد توينبى»، التى وردت فى كتابه «دراسة للتاريخ». قال لى أبوالغيط: «بموجب هذه النظرية فإن انسحابك من المسرح ضرورى انتظارا لعودتك مظفرا مرة أخرى.. إن لك مستقبلا باهرا؛ ولذلك عليك بمقاومة الهجوم عليك بالانسحاب من المسرح لفترة، ثم اشحذ همتك وجهز نفسك وقدراتك لعودة مظفرة»، وقد كان.

انتهت فترة التضييق باستقالة إبراهيم كامل عشية التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، يوم 16 سبتمبر 1978. بعدها استقل بطرس غالى، وزير الدولة للشئون الخارجية بالوزارة. كان غالى شخصية إيجابية وطنية حرفية، وكثير الاطلاع فى الفلسفة والأدب والموسيقى وغيرها، وفى الوقت نفسه كان السادات يأنس إليه، فوضعه كوزير للدولة للشئون الخارجية.

عين مصطفى خليل رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية فى 5 أكتوبر 1978م، قبيل مباحثات «بلير هاوس». قال خليل لبطرس: «أنا وزير الخارجية «من برَة» فقط، وأنت يا بطرس الوزير الفعلى»، وعندها بدأ غالى البحث عن فريق قوى يعمل معه. هناك من نصحه بالاعتماد على عمرو موسى، وذكره بأن إسماعيل فهمى يعتمد عليه فى أمور كثيرة مهمة حتى أنه عينه استثنائيا مديرا لإدارة الهيئات الدولية، على الرغم من أن درجته لم تكن تسمح بذلك. ومنذ هذه اللحظة بدأ يعتمد علىّ بشدة، خاصة فى الحرب الدبلوماسية ضد الدول العربية التى حاولت عزل مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل.

سبتمبر 15, 2017

الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «1»: نشأتى مرتبطة بحزب الوفد وزعاماته التاريخية

«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «1»: نشأتى مرتبطة بحزب الوفد وزعاماته التاريخية

 Media preview
نشر فى : الأحد 10 سبتمبر 2017 - 9:49 م | آخر تحديث : الأحد 10 سبتمبر 2017 - 10:09 م
- خطبت فى الجماهير وأنا ابن السادسة والتقيت مصطفى النحاس ومكرم عبيد وفؤاد سراج الدين


- توفى والدى الدكتور محمود موسى المدرس بكلية الآداب والنائب الوفدى فأحاطنى جدى لوالدتى برعايته

- رسبت فى الصف الأول الثانوى وتلقيت عقابًا شديدًا من أمى بسبب «السقوط» حتى نجحت ولم أكررها

- عبدالوهاب مطربى المفضل.. وأحببت السينما ودخنت أول سيجار فى الثالثة عشرة

- هذه هى قصة أخى غير الشقيق «على موسى» الفرنسى الجنسية

- تركت المحاماة إلى الخارجية بعد نبوءة قاضٍ ترافعت أمامه بأننى سأصبح وزيرًا للعدل

- أول عمل لى بالخارج كان فى سفارتنا بسويسرا وهناك نشأت علاقتى بالثورة الجزائرية


عمرو موسى، اسم من ذهب فى تاريخ الدبلوماسية المصرية والعربية، حياته المهنية الحافلة والمناصب الرفيعة التى تقلدها سواء فى العشرية التى شغل فيها منصب وزير الخارجية المصرية (1991ــ 2001)، أو فى العقد الذى قضاه أمينا عاما للجامعة العربية (2001 ــ 2011)، بخلاف سنوات عمله فى الوفد المصرى بالأمم المتحدة فى ستينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى ــ جعلته منجما لأسرار وكواليس الكثير من الأحداث الكبرى التى عاشها العالم العربى من محيطه إلى خليجه فى النصف الثانى من القرن العشرين، وحتى يومنا الحاضر؛ فخلال الفترة التى أعقبت تقاعده عن العمل الرسمى انخرط فى شئون مصر الداخلية، ولم تنقطع صلته بما يدور فى المطابخ السياسية العربية والعالمية.


الخبر السار أن موسى قرر منذ الربع الأخير من سنة 2015 أن يكتب مذكراته التى اختار لها عنوان «كِتَابِيَهْ»، الذى استمده من الآية القرآنية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19)؛ ليخط فيها شهادته على الأحداث التى عاصرها من المواقع المختلفة التى شغلها طيلة حياته المهنية، كاشفا الكثير من الأسرار التى ستحظى باهتمام المواطن المصرى والعربى فى كل مكان. تأتى مذكرات موسى ــ كما يقول فى مقدمة الجزء الأول ــ «فى ثلاثة أجزاء منفصلة وإن متتابعة مترابطة، يسرد الجزء الأول منها نشأتى حتى أصبحت وزيرا للخارجية وينتهى بخروجى من الوزارة، ويتعامل الجزء الثانى من المذكرات مع السنوات العشر التى قضيتها على رأس الجامعة العربية. فيما يتعلق الجزء الثالث بما بعد ذلك، أى من 25 يناير 2011 وحتى إقرار الدستور فى عام 2014 وتولى الرئيس عبدالفتاح السيسى حكم مصر».

اعتبارا من اليوم تنشر «الشروق» حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى ــ التى تصدر قريبا عن «دار الشروق» ــ والتى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق» القاهرية. وجاء هذا الجزء فى 654 صفحة من القطع المتوسط، حاملا بين دفتيه 33 فصلا موزعة على قسمين؛ الأول تناول حياة موسى من الميلاد سنة 1936، إلى نهاية عمله مندوبا دائما لمصر فى الأمم المتحدة فى مايو 1991، فيما تم تخصيص الثانى للسنوات العشر التى قضاها وزيرا للخارجية، والتى انتهت فى مايو 2001.

لعل أهم ما يميز هذه المذكرات ــ كما يقول الناشر إبراهيم المعلم، رئيس مجلس إدارة دار«الشروق» فى تقديمه لها – إن: عمرو موسى يقدم فيها منهجا جديدا فى كتابة المذكرات السياسية لا يعتمد فقط على الذاكرة البشرية، التى تقف عند حدود بعينها، وتنتابها الكثير من عوامل التعرية، أقلها الخلط والخطأ والنسيان. بل إنه يكتبها من «الوثائق الرسمية» التى تنطق بـ«الحقيقة المجردة»، التى لا تقبل شكا أو جدلا، ولا تحمل شبهة انحياز. أو من خلال «شهادات مسجلة وموثقة» لآخرين شاركوه صناعة الأحداث، أو كانوا قريبين منها من موقع (شهود العيان)، وجميعهم على قيد الحياة».

تبقى نقطة فى غاية الأهمية وهى أن هذه الحلقات التى سننشرها من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى لن تغنى عن قراءة الكتاب بكامله، الذى تكشف صفحاته عن الكثير من الأسرار الشخصية والعملية فى حياة وزير الخارجية المصرى التاريخى؛ وبعبارة أخرى نقول: إن ما سينشر فى هذه الحلقات ــ وإن عرضناه على لسان موسى بصيغة المتكلم ــ هو اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.

• طفولة فى رحاب الوفد

ولدت فى 3 أكتوبر 1936م، فى حى منيل الروضة بالقاهرة. كان من الأحياء الهادئة، التى تقبل على السكنى فيها الطبقة المتوسطة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى. النيل من الأشياء التى ارتبطت بها منذ مرحلة باكرة من حياتى. أذكر بمزيد من السعادة تلك المرات التى أخذتنى فيها والدتى السيدة «ثريا حسين الهرميل» للتنزه على صفحة هذا النهر العظيم. مازلت أشعر بقبضة يدها وهى تمسكنى بقوة خلال ركوبنا المراكب الشراعية التى كنا نتجول بها فى مياهه.

والدى الدكتور محمود أبوزيد موسى. كان يعمل مدرسا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة. بعد عودته من فرنسا وتخرجه فى جامعة ليون دخل مجال السياسة مثله مثل شباب تلك الأيام الذين تعلموا فى أوروبا ويستندون إلى أسر عميقة الجذور، وانتخب نائبا فى مجلس النواب عن حزب الوفد فى أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضى، وكان مقربا من الزعيم مصطفى النحاس باشا؛ لأنه كان من ضمن مجموعة شباب حزب الوفد التى تلقت تعليما جيدا فى الخارج، وكان الحزب يستند إليهم ويراهن عليهم، ويعدهم للمستقبل فى محاولة مدروسة لتواصل أجياله.

فى هذه الفترة تركنا حى منيل الروضة، وانتقلنا إلى شارع سعيد المتفرع من شارع قصر العينى. كان منزلنا مشرفا على حدائق مجلس الوزراء، الذى كان قصرا للأميرة شويكار ومبناه الفخم وأشجاره الوارفة آنذاك. على الناحية الأخرى من هذه الحدائق يربض البرلمان بقبته التاريخية. يوميا كنت أطل من النافذة على هاتين المؤسستين (مجلس الوزراء والبرلمان)، وكثيرا ما حكت لى والدتى عن أهميتهما، التى تبدت لى من خلال متابعتى للحركة الدءوبة حولهما، لاسيما من الضباط والجنود الذين كانوا يرتدون ملابس التشريفة بألوانها الزاهية المبهجة.

بعد أن بلغت الخامسة بقليل، أصيب أبى بالفالج (نوع من الشلل)؛ الأمر الذى قلب نظام الأسرة. من بين الوصفات التى وصفت له كى تتحسن حالته العيش فى الريف، حيث البعد عن التوترات بما فيها العمل فى الجامعة والسياسة. تحقق ذلك بأن دعانا جدى لوالدتى النائب الوفدى فى مجلس النواب «حسين بك الهرميل» للإقامة معه فى منزله الكبير بـ«محلة مرحوم»، الواقعة إلى جوار مدينة طنطا. كان بيتا رحبا يسميه الناس هناك «السرايا»، ولذلك كان من السهل أن يخصص لنا فيه ــ والدى ووالدتى وأنا ــ جناحا كاملا.

خلال تلك الفترة التقيت ببعض زعماء الوفد الكبار فى مناسبات عديدة؛ فعندما بلغت السادسة من عمرى، جاء لزيارة جدى، القطب الوفدى الكبير، مكرم عبيد باشا، قبل أن يتم فصله من حزب الوفد فى يوليو 1942م. أنشدت أمامه نشيدا للترحيب به، يقول مطلعه «أهدى لمكرم باشا الورد»، وبعد ذلك بسنوات قليلة زارنا فؤاد باشا سراج الدين الذى أصبح سكرتيرا عاما للوفد.

لم يكن جديدا علىّ أن أقف أمام مكرم عبيد باشا للترحيب به فى هذه السن الصغيرة؛ فقبل هذه الزيارة خطبت فى الجماهير خلال مؤتمرات جدى الانتخابية الخاصة بالانتخابات البرلمانية التى أجريت فى مارس 1942م، والتى فاز فيها الوفد بأغلبية كبيرة بعد أن قاطعها «الأحرار الدستوريون» و«السعديون».

أول مرة زرت فيها النحاس باشا مع جدى كانت فى إجازة نصف العام سنة 1946م. قدمنى جدى إليه بقوله: «هذا عمرو ابن الدكتور محمود موسى»؛ فاحتضننى الباشا وقبلنى وربت على كتفى، وأجلسنى على حجره، وظل يسألنى بعض الأسئلة من تلك التى تسأل للأطفال فى مثل سنى: فى أى سنة دراسية أنت؟ وفى أى مدرسة؟.. وعندما أجيب يرد مبتسما: ما شاء الله.. ما شاء الله.

توفى والدى أوائل سنة 1945م، ولكن وجود جدى فى حياتى خفف نسبيا وقع غياب الأب على نفسى؛ فقد أولانى هذا الرجل العظيم عناية ورعاية خاصة، لم يحظ بها أى من أحفاده الآخرين. ذهبت بعد ذلك إلى المدرسة الابتدائية، ومع دخولى إياها لبست «بنطلون» طويلا لأول مرة، قبلها كنت أرتدى «الشورت» مثل معظم أطفال ذلك الزمان. كان لبس البنطلون الطويل واحدا من المطالب التى ألححت بها على أمى. أول بنطلون ارتديته كان رماديا، لبسته مع جاكت أخضر، وطربوش، فكان هندامى معقولا، لكن هذه القيافة والشياكة كانت تذهب إلى خبر كان عندما نلعب الكرة فى المدرسة؛ ففى المرات التى كنا لا نجد فيها كرة نلعب بها، كنا نلعب بطربوش واحد منا!.

كانت والدتى مهتمة جدا بأن أظل على علاقة جيدة بأسرة الوالد، فى قرية «بهادة» بمركز قليوب (تتبع الآن مركز القناطر الخيرية)، بمحافظة القليوبية. فى بداية كل إجازة صيفية ترسلنى إلى أسرة والدى لأقضى معهم أسبوعين قبل أن أتوجه معها وجدى إلى المصيف بالإسكندرية.

• صوت عبدالوهاب وأول سيجار

زيارتى السنوية للقاهرة فى إجازة نصف العام كانت فرصة مهمة جدا للاطلاع على الفنون والآداب الحديثة، فخالى «سامى الهرميل» الذى ننزل عنده، تلقى تعليمه فى أوروبا، ولذلك كان يقيم الحفلات والمآدب واللقاءات الثقافية والاجتماعية باستمرار فى بيته بالزمالك. فى إحدى زياراتنا له أقام حفل عشاء دعا إليه نخبة من أصدقائه من الشخصيات العامة، وكان من بينهم الدكتور محمد صلاح الدين، الذى أصبح وزيرا للخارجية فى حكومة النحاس باشا الأخيرة (يناير 1950 ــ يناير 1952م)، والموسيقار محمد عبدالوهاب، الذى لفت انتباهى من بين الحاضرين. كنت فى غاية السعادة لرؤيته؛ لأننى أحب أغانيه وصوته الجميل، الذى اعتدنا الاستماع إليه من خلال «الراديو»، لاسيما أغانى أفلامه.. وإلى الآن هو مطربى المفضل.

خلال تلك الفترة بدأت تباشير الشباب تظهر علىّ، من الرغبة فى تدخين سيجارة.. الإعجاب بفتاة.. إثقال الخطوة عندما ينادى علىّ أحد، فى محاولة لإظهار أننى قد كبرت ولم أعد طفلا. بعد أن تخطيت عامى الثالث عشر بقليل ــ فى سنة 1949م ــ وصلنى أول «سيجار» فى حياتى. لا أذكر من أعطاه لى. يومها دخلت السينما مع مجموعة من الأصدقاء، فوجدتها مناسبة لإشعاله بداخلها.

لم أكن على دراية بكيفية تدخين «السيجار»؛ فسحبت نفسا عميقا وكأننى أدخن سيجارة صغيرة. على إثر ذلك دخلت فى نوبة إغماء. حملنى أصدقائى إلى خارج السينما، وسط ضحك وتريقة، وأنا لا أشعر إلا بالماء الذى يلقونه على وجهى كى أفيق، وبينما أنا خارج من حالة الإغماء قال أحدهم وهو منهمك فى الضحك «لمّا انت مش قد السيجار.. بتشربه ليه؟!».

حصلت على الثانوية العامة من مدرسة «طنطا الثانوية الجديدة»، لكن يجب أن أعترف هنا أننى فى بداية هذه المرحلة أهملت بعض دروسى، وكانت النتيجة هى رسوبى فى الصف الأول الثانوى. تسبب ذلك فى صدمة كبيرة لى وللعائلة. عانيت من كل ما يمكن أن يعانيه طالب راسب فى أسرة مصرية تتصور لابنها مستقبلا زاهرا فيفاجئها بالرسوب. كنت أعاير بهذا الرسوب طوال إعادتى للسنة «أنت من كان الأول على مدرسته فى الابتدائية تسقط؟!»، هكذا كانت أمى تقول لى طوال الوقت. شددت من إجراءاتها العقابية ضدى؛ فكان الرسوب درسا قاسيا لى وعيته جيدا، وأصبحت من الناجحين حتى تخرجت فى الجامعة.

• الحياة الجامعية

حصلت على التوجيهية (الثانوية العامة) سنة 1953م، بمجموع بلغ 58.8%، وأعلنت كلية الحقوق بجامعة القاهرة أنها ستقبل الطلاب الجدد بمجموع حده الأدنى 60% للقسم الأدبى. لم يكن هناك نظام التنسيق المعمول به الآن لدخول الجامعات. أخذت أوراقى وذهبت لتقديمها فى هذه الكلية؛ فرفض الموظف تسلمها منى. قال: «إن مجموعك أقل من الحد الأدنى ب0.2% (اثنين من عشرة بالمائة) انتظر أسبوعين، قد يتقرر تخفيض الحد الأدنى».

لم أرتح لموضوع الانتظار أسبوعين؛ فقررت الذهاب لمقابلة عميد الكلية لأعرض الأمر عليه. لم أكن أتخيل حرمانى من دخول كلية الحقوق التى هى رغبة أكيدة لى وأمل لوالدتى، ناهيك عن اللوم الذى كنت أتوقعه لأننى لم أحصل على الـ60% المطلوبة. سألت أحد السعاة عن مكتب العميد، فسألنى عن سبب المقابلة فحكيت له الواقعة. قال لى: «اذهب إلى الشيخ محمد أبو زهرة، وكيل الكلية، والمسئول عن قبول الطلاب الجدد».

توجهت إلى الشيخ أبو زهرة فى مكتبه، فما إن رآنى حتى قال بصوته الجهورى، وبلهجة عدوانية لطيفة كانت معروفة عنه: «إيه؟.. عايز إيه يا ولد؟.. انت مين؟ وجاى ليه؟». قلت: اسمى فلان.. وعندى مشكلة صغيرة، وهى أن مجموعى أقل من الحد الأدنى للقبول بالكلية بـ0.2%، وأنا أريد أن تقبلنى فى الدفعة الجديدة.

باغتنى بنفس لهجته الحادة: مش قادر تجيب 60%؟، ده أنت خيبان بقى.. خيبان هه. لماذا لا تنتظر كام يوم ربما نوافق؟. أجبت: لماذا أنتظر والأمر عند فضيلتك، والفصل بين يديك؟ (اندهشت أنا نفسى لهذه الجملة البليغة التى صدرت منى دون إعداد ويبدو أنه «انبسط» منها أيضا)، وبالفعل كتب على الملف الذى يحتوى على أوراقى «أوافق ويسجل»، وقبلت فى كلية الحقوق.

فى هذه الفترة تزوجت والدتى من رجل فاضل هو المرحوم المهندس محمد عبدالرحمن عبدالبارى (من قرية زاوية البقلى فى المنوفية). كان مفتشا عاما لمشروعات الرى فى الغربية ومقره طنطا، وقد أسهم هذا الرجل الكريم فى تربيتى؛ فعلمنى دوام الصلاة، وأشرف على توجيهى بتسامح وتفهم لحاجات الشباب، وسهل لى التمتع ببعض الحريات الإضافية التى لم تكن حياة القرية ومجتمعها يتفهمها جيدا.

فى الجامعة وجدنا آفاقا واسعة تتفتح أمامنا. لم يكن هناك تسجيل للحضور أو الانصراف؛ ولذلك نجحت فى تكوين شلة واسعة جدا من الطلبة، كنا نذهب إلى كلية الآداب و«بوفيهها» الشهير أو نذهب إلى حفلات السينما الصباحية، وغير ذلك من حركات الشباب وأنشطته وشقاوته. (يحتوى الكتاب على تفاصيل كثيرة عن حياة موسى الجامعية).

• من المحاماة للخارجية

بعد تخرجى عملت محاميا تحت التمرين، كان كل ما أصنعه هو أن أطلب تأجيل بعض القضايا بتقديم بعض المبررات لهيئة المحكمة. فى البداية كان الكاتب الذى يعمل بمكتب المحاماة الذى أتدرب فيه يساعدنى فى كتابة الصيغ الخاصة بطلب هذه التأجيلات. لكن فى مرة من المرات ذهبت إلى محكمة الجيزة الجزئية لطلب تأجيل، وكنت قد درست أسباب التأجيل بهمّة لا بأس بها، وترافعت أمام القاضى، وحصلت بالفعل على ما أردت.

فى أحد أيام سبتمبر من سنة 1958م، وبينما أهم لدخول محل «جروبى» الشهير فى وسط القاهرة لمقابلة بعض أصدقائى، لمحت ذلك القاضى الذى ترافعت أمامه فى محكمة الجيزة الجزئية ــ لم أعد أذكر اسمه الأول، لكن لقبه كان: ضياء الدين ــ يجلس مع اثنين من أصدقائه، فأشار لى، فذهبت إليه. بادرنى بالقول: أنت ترافعت قدامى من كام يوم؟ قلت: نعم. قال لى: شوف يا ابنى، إذا استطعت أن تتحمل مشاق المحاماة لمدة 10 سنوات ستكون أكبر محام فى مصر، أنا أتنبأ لك بذلك، ومن الممكن أن تصبح وزيرا للعدل فى يوم من الأيام.

أكرمنى الله بأن التحقت بوزارة الخارجية سنة 1958، علما بأن القبول فى الخارجية لم يكن خلال هذه الفترة بالوساطة، كان الأمر يتوقف على قدرتك على اجتياز الامتحان السرى والمقابلة الشخصية، وسلامة بعض التحريات الأمنية التى تجرى على المتقدم للتأكد من عدم قيامه بأى نشاط سياسى من الذى تعتبره الدولة موجها ضدها، مثل عضوية جماعة الإخوان المسلمين، أو أى من التنظيمات الشيوعية التى كانت تنتشر فى مصر وقتها، وأنا لم يكن لى أى نشاط سياسى من هذا النوع خلال فترة الجامعة أو قبلها.

أول عمل تسلمته فى الوزارة كان فى إدارة تسمى «إدارة الأبحاث». كانت تربط بين وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، فأى شىء تريد الوزارة إرساله إلى الرئاسة يتم عبر هذه الإدارة المهمة. بعد ذلك نُقلت لأصبح سكرتيرا خاصا لوكيل وزارة الخارجية الجديد، الفريق حافظ إسماعيل، بعد أن رشحنى مدير «إدارة الأبحاث»، المستشار صلاح وصفى، رحمه الله، لهذا العمل.

مكثت فترة فى مكتب إسماعيل، إلى أن جاءت الحركة الدبلوماسية، فعرفت أننى مرشح للعمل فى سفارتنا فى أثينا. دخلت عليه محتجا. قلت له: «يا أفندم أنا فى مقتبل حياتى المهنية، وأريد أن أتعلم. ذهابى لأثينا يساوى عندى الذهاب إلى الإسكندرية بالضبط»، بعد كثير من التفاصيل ألحقت للعمل لدى سفارتنا فى العاصمة السويسرية برن مع السفير فتحى الديب.

الديب كان رجلا ذا عقل راجح وتجربة ثرية فى الحياة، فكان متفهما لانطلاق الشباب ممن فى مثل سنى، لكنه فى الوقت نفسه كان قادرا على السيطرة على الأمور بشكل ممتاز. كان فاعلا فى القضية الجزائرية، وتربطه علاقات وثيقة جدا بقيادات الثورة الجزائرية؛ التى كانت تدعمها مصر.

أذكر خلال فترة عملى فى سفارتنا فى برن أن الرئيس جمال عبدالناصر كان يهتم بنظام غذائه، ولذلك كان من يخدمونه يرسلون من وقت لآخر من يأتى له بأصناف معينة من الطعام الخاص بـ«الرجيم» من سويسرا. كانت أشياء بسيطة، وكان يأتى لإحضارها رجل ضخم الجثة، وكنت أنا المسئول عن تسليمها له. هذا الرجل كان يصر على أن «مصر هى أكبر دولة فى الدنيا، وأن الرئيس عبدالناصر هو أعظم رئيس فى العالم.. لا أمريكا ولا روسيا.. سيبك من هذا الكلام الفارغ ده يا أستاذ عمرو، رئيسنا أهم شخصية فى العالم.. والاتنين دول بيتنافسوا عليه وهو موريهم الويل.. ورغم كده شوف تواضعه.. الرجل يأكل فول وجبنة زى باقى الشعب»!. وعلى الرغم من حبى الشديد لعبدالناصر فإننى كنت أضحك على المنطق الذى يتحدث به هذا الرجل، وبخاصة أن الرئيس ليس أهم رئيس فى العالم (يحتوى الكتاب على تفاصيل كثيرة عن الفترة التى قضاها موسى فى سويسرا).

• البحث عن أخى على موسى

بعد سنتين من ولادتى، ولد أخ لى هو طارق موسى غير أنه توفى طفلا. بعد ذلك بقليل قيل لى إن لى أخا آخر يعيش فى فرنسا من أم تزوجها أبى وهو يتلقى العلم هناك واسمه «على»، ثم أصبح «بيير» وقد ولد فى 3 مارس 1922، أى أنه يكبرنى بـ14 سنة. حاول أبى أن يأتى به إلى مصر قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية إلا أنه واجه معارضة شديدة من أمه، التى تمسكت بأن بقاءه فى فرنسا أفضل له من العيش فى الشرق، وأن ذلك ــ وفقا لما تراه هى ــ يصب فى مصلحته.

اندلعت الحرب ووقعت فرنسا تحت الاحتلال الألمانى. فور معرفة أبى بهذا الخبر سقط مصابا بالفالج حزنا على ابنه الذى لم يستطع الاتصال به أو معرفة مصيره. ظل ــ يرحمه الله ــ يتعذب على فراش المرض من شدة القلق على ذلك الابن الذى يعيش فى بلد يخوض حربا طاحنة لا هوادة فيها، إلى أن توفى فى سنة 1945، التى انتهت فيها الحرب دون أن يتمكن من معرفة مصير موسى الصغير فى فرنسا.

تمر السنون والسؤال عن مصير أخى يكبر بداخلى. صار لغزا كبيرا فى حياتى أعمل جاهدا على حله. قبل وصولى برن أجريت محاولات عديدة للبحث عنه لكنها فشلت (تفاصيل هذه المحاولات موجودة بالكتاب).

فى إحدى الإجازات التى أمضيتها فى باريس سنة 1962/1963 هدانى تفكيرى للبحث عن اسمه فى دفتر التليفونات الخاص بهذه المدينة. لم أصدق نفسى عندما وجدت اسمه مكتوبا فى هذا الدفتر. رجف قلبى بشدة. تذكرت أبى. خاطبته كأنى واقف أمامه: يبدو أن الله قد أراد أن يريح قلبك الذى لاقيت ربك وهو موجوع على أخى.

حاولت تمالك أعصابى أثناء إمساكى بالسماعة لإجراء أول اتصال بـ«بيير». قدمت له نفسى: أنا أخوك عمرو. ظهر مترددا فى البداية وغير قادر على استيعاب ما أقوله له، فهو الآن فى الأربعين من عمره، وبعد كل هذه السنوات يتلقى تليفونا من شخص يقول له: أنا أخوك. كانت المفاجأة كبيرة عليه. قال إنه يعمل فى قطاع البنوك، وأنه عائد لتوه من واشنطن، حيث كان يمثل فرنسا فى أحد الاجتماعات الهامة، وأنه مسافر إلى أفريقيا فى ظرف أيام قليلة.

قال بيير وقد بدأ يستوعب ما أقوله: «لابد أن نلتقى قبل أن تغادر فرنسا»، ودعانى إلى فنجان قهوة سريع معه بعد يومين. قضيت بقية اليوم واليوم التالى وأنا متوتر الأعصاب.. رحت أفكر فيما يمكننى أن أقول له.. هل أحكى له عن مرض والدنا بسبب خوفه عليه بعد اندلاع الحرب، أم أجعل اللقاء لطيفا هينا باعتباره لقاء تعارف أتوقع أن تتلوه لقاءات أخرى؟.. انحزت إلى الخيار الثانى.

ذهبت إلى «الكافيه دى لابيه» قبل الموعد بساعة أو أقل قليلا. جلست على مائدة تمكننى من رؤية كل من يدخل من الباب الرئيسى، وتمكن الداخل أيضا من رؤيتها. تشاغلت بقراءة صحيفة.. الوقت يمر بطيئا جدا. بدأ الناس يتقاطرون على«الكافيه» فهو وقت «شاى بعد الظهر». رحت أشخص ببصرى صوب الباب الرئيسى متمنيا أن أتمكن من التعرف على أخى دون أن يتوه أو أتوه أنا منه. فجأة دخل «والدى» فوقفت وتوجه هو إلىّ وتصافحنا. قلت «والدى» لأن بيير يشبه والدى تماما. أول ما قاله لى: تعرفت علىّ.. بسهولة يبدو أنك ذكى. قلت: «كل ما فى الأمر أنك تشبه والدنا بشدة، لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خاص»، فأظهر سروره بتأكيدى على شبهه الكبير بوالدنا.

انتهى اللقاء بأن اتفقنا على مداومة الاتصال دون الإعلان عن أخوتنا بالنظر إلى ظروفه الخاصة، فضلا عن أن العلاقات المصرية ــ الفرنسية لم تكن فى أحسن حالاتها، وخشى من تأثير ذلك على مكانته فى فرنسا، وهو ما تفهمته بشدة، فهو ينطبق علىّ أيضا، وإن بشكل أقل. مضت الأمور فى أوقات لاحقة بتبادل الزيارات بينى وبين أخى، دعوناه ــ زوجتى وأنا ــ لزيارة القاهرة مع زوجته، واستضفناه فى منزلنا فى «سيدى عبدالرحمن»، ثم دعوناه مرة أخرى إلى حفل زفاف ابنتنا هانيه، وحضر أيضا مع زوجته. بيير موسى واحد من أهم وأشهر رجال البنوك فى فرنسا، معروف بكفاءته العالية فى عالم المال والبنوك، وله عدة كتب منشورة ومقروءة. تزوج ولم ينجب، ولايزال حيا. وأزوره مرة كل شهرين.

ADDS'(9)

ADDS'(3)

 


-

اخر الموضوعات

من نحن

author ‏مدونة اخبارية تهتم بالتوثيق لثورة 25 يناير.الحقيقة.مازلت اسعى لنقلها كاملة بلا نقصان .اخطئ لكنى منحاز لها .لايعنينى سلفى ولا مسلم ولا اخوان يعنينى الانسان،
المزيد عني →

أنقر لمتابعتنا

تسوق من كمبيوتر شاك المعادى