خالد أبو بكر
نشر فى : الأحد 17 سبتمبر 2017 - 11:22 م | آخر تحديث : الأحد 17 سبتمبر 2017 - 11:22 م
- مبارك لم يطمح للزعامة.. وقضيته كانت التنمية المتوقفة والاقتصاد المعطل
- العمل بينى وبين الرئيس كان سهلا من الجانبين لحرصى على إشعاره بأننى لا أتجاوزه
- كنت شريكا لمبارك فى صناعة السياسة الخارجية مثل الوزير محمد صلاح الدين مع النحاس باشا
- الرئيس أرسل سكرتيره طالبًا إلغاء حفل الوزارة لوداعى وأمر عاطف عبيد بتكريمى بمجلس الوزراء
- أغنية «شعبولا» أعطت الوشاة ذخيرة كبيرة للتصويب على وزير الخارجية الذى وصلت شعبيته الآفاق
- صفوت الشريف أشار إلى مبنى «الخارجية« وقال لمبارك: فى هذا المبنى الضخم توجد إمبراطورية عمرو موسى
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، خالد أبوبكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
وفى هذه الحلقة الأخيرة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19).. يقدم موسى تحليلا عميقا لشخصية الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وظروف رحيله عن وزارة الخارجية. ونشدد على أن ما سيرد فى هذه الحلقة، هو اختزال شديد جدا للنص الأصلى الذى تغطى مساحته فى الكتاب ثلاثة فصول.
كان حسنى مبارك مختلفا اختلافا جذريا عن سلفيه جمال عبدالناصر وأنور السادات. كان عبدالناصر قويا لا يقبل المساس بشخصه ولا المعارضة السياسية، عنيفا فى رد فعله، لا يحسب حساب السلبيات وخطورتها، وأحداث خليج العقبة وحرب يونيو1967م دليل على غياب الحسابات الدقيقة. وأنور السادات كان ثعلبا مدربا، ولكنه كان أيضا مغامرا؛ فمبادرات الحرب والسلام التى أطلقها ــ بقدر ما كان فيهما من حسابات وطنية ــ كان فيهما أيضا كل عناصر المغامرة أو المقامرة.. وآه لو كان قد فشل. وهنا أيضا لم يكن مبارك من تلك القماشة المعقدة التركيب فى جزء كبير منها.
مبارك كان متواضعا فى طموحاته، ليس مستعدا لأن يدخل فى أى مغامرة عسكرية ضد إسرائيل، ولم يكن مستعدا للمزايدة على العرب، وبالذات المملكة العربية السعودية أو على الوسط الخليجى كله. ومنذ أول أيامه وهو يجنح للسلم، ومنطقه فى ذلك يمكن فهمه؛ فالأرض قد استردت، وما بقى منها يمكن استكمال استرداده بالعلاقة الطيبة مع الغرب وإسرائيل. كانت مشكلة مبارك داخلية.. التنمية المتوقفة، والاقتصاد المعطل. يشعر بخطورة هذا الوضع على استقرار مصر وربما على نظام 23 يوليو الذى ورثه.
والواقع أن مبارك كان رجلا وطنيا، ومصريا حدقا، ومنوفيا بكل معنى الكلمة. لم يكن من السهل خداعه. بالطبع كان يعلم بحجم الفساد المستشرى، وأعتقد أنه كان يحاول تحجيم الفساد خاصة على مستوى الوزراء وذويهم، وكم من مرة تحدث مع هذا الوزير أو ذاك عن فساد أولادهم و«كفاية كده»، كما كان يقول لهم. ولكن التساؤل ثار عن ثروة ولديه جمال وعلاء. كان الرئيس يردد أن جمال رجل بنوك كفء، وأنه اصبح ثريا من عمله، أما علاء (الأكثر تواضعا) فيعمل فى مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة التى كان بعضها زراعيا. كان مبارك يتطوع أحيانا بذكر ذلك ربما ليدفع عن ولديه تهمة استغلال وضعهما لتكوين ثروة، إلا أن الوضع كله كان موضع انتقاد فى معظم الأوساط المصرية.
مبارك شخصية لطيفة محببة، له قفشاته الطريفة، وكان إذا جد الجد ذا صوت مرتفع يخشاه كل من حوله. كان ذا قبضة قوية على رأس النظام حتى العقد الثالث من حكمه، الذى ضعفت خلاله تلك القبضة بشكل لافت. كان صفوت الشريف يردد فى تلك الآونة: «الراجل عجَز ولاَ إيه»، حيث لا يجد استجابة لبعض ما كان يشير به فى مجال الإعلام أو مجالات السياسات الداخلية.
كان يناقش الأمور ويستمع ليقرر بعد ذلك ما يرى بعد «وزن» الآراء المختلفة، ولكنه كان «منوفيا» حقيقيا، فكان يستمع لآراء خبراء (فى الظل) فى جلسات خاصة قبل أن يجتمع بفريقه فى جلسات رسمية وإن كانت مغلقة؛ فيأتى عالما بالعديد من أركان القضية المطروحة وبمختلف الآراء فيها. وقد اكتشفت ذلك فى نقاشى السياسى معه، إلا أننى كنت أعلم أن أيا من مستشاريه فى السياسة الخارجية لم يكونوا على اطلاع كامل بالأحداث الدولية والإقليمية وتطوراتها وما وراءها وما حولها من ظروف.
مبارك كان يتمتع بتوازن مبسط للأمور: أمن الرئيس و«برستيجه» وأمن الدولة داخليا، والتواصل مع الناس وأن يظهر لهم على سجيته، والقبضة الحديدية بالنسبة للمعارضة مع إعطائها مساحة تتسع أو تتقلص حسب الظروف والمعطيات والاحتياج، وغض الطرف عن بعض الفساد بين كبار مؤيديه وأركان نظامه وعائلاتهم. هذه هى المعادلة. كما كان شخصية أنيقة، بمعنى أنه كان لديه ذوقا فى الملبس. يعرف كيف يختار ملابسه، فتراه يرتدى أفضل «البدل» التى ليس بالضرورة أن تكون «ماركات» عالمية. وكذلك عندما تزوره فى بيته، تجده مرتبا ومنظما وأنيقا، وإن كان البيت وحسن ترتيبه يحسب للزوجة أو المرأة سيدة هذا البيت.
العلاقة بين الرئيس ووزير الخارجية
بعد هذه الإطلالة السريعة على بعض من جوانب شخصية الرئيس مبارك أقول، إنه منذ اللحظة الأولى لتعيينى وزيرا للخارجية أراد أن يمكِّننى من الوزارة. كان ينظر إليّ باعتبارى أول وزير من جيل جديد هو الذى اختاره ودفع به لتولى مواقع القيادة؛ فالسنوات العشر الأولى من موقعه فى رئاسة الجمهورية والتى سبقت وصولى لهذا المنصب (1981ــ 1991م) كان يعتبر القائمين على وزارة الخارجية قبلى ينتمون إلى العصور السابقة، وأنهم لمعوا فى عصر الرئيس السادات.
حرصت على تعزيز ثقة الرئيس فى شخصى عبر تنظيم العمل الدبلوماسى بأعلى درجات الانضباط والاحتراف، فلم يكن مسموحا لدى أن يقرأ الرئيس خبرا فى الصحف إلا وتكون وزارة الخارجية قد أرسلت له تقريرا شافيا عنه قبل أن يقرأه، ودائما ما كانت هذه التقارير تحمل توقعات أو توصيات أو اقتراحات بمواقف معينة تتخذها مصر فيما يخص هذه القضية أو تلك.
وتيرة العمل السريعة فى وزارة الخارجية فى السنوات العشر التى قضيتها وزيرا للخارجية كانت تجعل مبارك مواكبا ومتابعا للأحداث معنا ساعة بساعة. فمن عادتى أن أظل بمكتبى حتى الحادية عشرة قرب منتصف الليل، وما دام الوزير موجودا فهناك أطقم من معظم الإدارات ستكون موجودة حتى هذه الساعة المتأخرة؛ وبالتالى كانت ردود أفعالنا على الأحداث سريعة جدا، فما من ساعة يتصل فيها الرئيس بالوزير إلا ويجده جاهزا بكل المعلومات عن الأحداث التى وقعت للتو، فأطقمى تعمل على مدار الساعة وتزودنى بالتطورات أولا بأول؛ وبالتالى الوزارة جاهزة للرد على أى استفسار يأتى من أى جهة فى الدولة فى أى وقت، وهذه طريقة أعجبت حسنى مبارك جدا، بعد أن اختبر فاعليتها فى أكثر من مرة.
إن العمل بينى وبين الرئيس كان سهلا من الجانبين، فقد كنت حريصا على أن أضعه فى الصورة من كل ما يجرى، ومن كل المبادرات التى عرضتها باستفاضة فى فصول هذا الكتاب؛ سواء لجهة إعادة مصر لقلب العمل العربى المشترك بعد القطيعة التى أعقبت اتفاقية السلام مع إسرائيل، أو على صعيد إدخال «الدائرة المتوسطية» لدوائر اهتمام السياسة الخارجية المصرية، ومقترحاتنا لتطوير «حركة عدم الانحياز» أو الحركة النشطة فى أفريقيا أو ملاحقة البرنامج النووى الإسرائيلى فى اتفاقية «حظر الانتشار النووى»، وقبل كل هذا كانت مبادرتى بإعادة هيكلة وزارة الخارجية التى لمس هو شخصيا أنها أصبحت تضارع أعتى الوزارات النظيرة لها فى العالم من حيث الكفاءة والقدرة على المبادرة وسرعة رد الفعل.
كل هذه الأمور جعلت مبارك يتعاطى بإيجابية معى ومع وزارة الخارجية، لأنه لمس فى التعامل معنا الكثير من العناصر الإيجابية، أذكر منها على سبيل المثال:
ــ إن النشاط الذى تقوم به وزارة الخارجية أصبح مضاعفا، وله فاعليته فى تعزيز الحضور المصرى على الساحتين العربية والدولية، فقد أصبحت مصر من العواصم التى يهتم الجميع بالاستماع إليها فى أى أمر يخص العالم العربى والإقليم بل وعدد من القضايا الدولية.
ــ أصبحت الوزارة صاحبة مبادرات مهمة، وتستطيع بالفعل أن تضعها موضع التنفيذ على الأرض، كما الحال فى التعاون مع دول البحر المتوسط، وفى القضية الفلسطينية وملاحقة البرنامج النووى الإسرائيلى.. وغيرها.
ــ أصبح الرئيس مبارك نفسه يشعر أنه أصبح better informed أى أن المعلومات التى ترسلها له وزارة الخارجية تجعله فى وضع معرفى أفضل فيما يخص كل القضايا المطروحة خارجيا.
ــ إن الوزارة تؤدى عملها بكفاءة دون أن تدخل فى أى نزاع مع أى من أجهزة الدولة الأخرى، التى يتماس عملها مع قضايا السياسة الخارجية والأمن القومى، ذلك أننى حرصت بشدة على تنظيم التعاون مع هذه الأجهزة، والتفاهم معها باعتبار أننا نكمل بعضنا بعضا، وأننا لسنا فى وارد الدخول فى منافسة مع أحد، وهو ما كان مصدر سعادة واطمئنان لمبارك؛ لأنه لم يكن يحب الصراعات فى العمل.
هذه الطريقة فى العمل أشعرت مبارك ــ كما قال الدكتور مصطفى الفقى ــ أننى وأنا أخدّم على سياسة مصر الخارجية أخدّم عليه شخصيا، فبات رأيه مطلوبا فى كل قضية من قضايا الإقليم؛ فالجميع يريد أن يعرف رأى مصر فى هذا التطور أو ذاك، وهو ما أشعره بكم باتت مصر مؤثرة، ومن هنا أضحى تفاعله مع مؤسسة وزارة الخارجية كبيرا، وخلال هذا التفاعل كنت أشعره على الدوام بأننى لا أستقل بقرار على حسابه.
من يصنع السياسة الخارجية؟
توجد مسألة مهمة أحب التطرق إليها لأنها مثار لـ«اللغط» الدائم فى الدوائر الأكاديمية والصحفية المصرية، وهى من يصنع السياسة الخارجية فى مصر؟. يجزم البعض بأنه رئيس الجمهورية منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952م. وهنا أحب أن أقول إنه ليس فى مقدور أى رئيس الإشراف الكامل على السياسة الخارجية لمصر؛ لأن السياسة الخارجية تتشكل من موضوعات وأولويات متعددة، وممارسات وخطط ومناورات واتصالات على مستويات مختلفة، والاطلاع على أوراق وتفاصيل عديدة تتطلب سرعة التصرف من الوزير؛ لأنه لا يعقل أن يعود للرئيس فى كل كبيرة وصغيرة.
لكن الرئيس هو الذى يوجه بالإطار العام للتوجه السياسى الخارجى، وهو ما يجب أن يحترمه الوزير بالعمل فى إطاره، ربما مع تفسير بعض قواعده تفسيرا ليبراليا بعض الشىء، مثلما حدث مثلا فى موضوع العلاقة مع إسرائيل؛ فالعلاقة علاقة سلام ولو كان سلاما باردا؛ فحين طلبت إسرائيل أن يزورها وزير الخارجية زيارة رسمية وافق الرئيس مبارك، ولم يكن لوزير للخارجية أى سبب للاعتراض على ذلك وقد ذهبت، ولكن كيف سارت الزيارة؟ وما الذى قيل فيها؟، وما هى الأماكن التى زارها الوزير والتى لم يزرها؟، ومدة الزيارة وما يتعلق بالمؤتمر الصحفى مع رئيس الوزراء أو مع وزير الخارجية الإسرائيلى.. كلها متروكة للوزير تماما، بآثارها الايجابية والسلبية.
أؤكد قبل أن أنهى هذه النقطة على أنه بالرغم من أن موقف الرئيس فى بلد مثل مصر يكون بالطبع أقوى من وزراء الخارجية، لكن هناك فارق بين من يبادر بالصناعة فى وزارته ويعمل على إقناع الرئيس باتخاذ سياسة معينة، وبين من ينتظرون دائما من الرئيس التوجيه. إننى أعتقد أننى كنت مع الرئيس مبارك فى مسألة صناعة السياسة الخارجية لمصر، تماما مثل وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا مع مصطفى النحاس باشا فى الحكومة الأخيرة للوفد سنة 1951م، على صعيد الشراكة فى صناعة سياسة مصر الخارجية ومحدداتها.
نوادر مع الرئيس
كنت فى أحيان كثيرة أحب مداعبة الرئيس مبارك بسبب عدم قدرته على الاستمتاع بحرية التنقل بسبب دواعى الأمن. أذكر أننا فى ذات مرة كنا فى زيارة لفرنسا، وقلت له يا سيادة الرئيس «هو فيه حد يحب يبقى رئيس محبوس.. انظر إليّ.. الآن أنا اتمتع بحريتى، فالآن سأخرج للتنزه وتناول العشاء فى مطعم باريسى أحبه، وبعد ظهر غد بعد المباحثات سأخرج لشراء بعض الملابس والمستلزمات الشخصية». دعوت الرئيس للعشاء فى الخارج إلا أنه اعتذر بأن خروجه سيؤدى إلى «دربكة» كبيرة.
ثم قال لى: «لازم أشوف كل اللى هتشتريه». بالفعل اشتريت مجموعة متنوعة من رابطات العنق وعدد من القمصان والجوارب، وحذاء. فأعجب بكل ما اشتريته إلا الحذاء «كل حاجة شيك إلا الجزمة»، وعلى الفور استدعى مدير مكتبه جمال عبدالعزيز كى يذهب للمحل الذى اشتريت منه ليشترى له بعض الملابس، ولم ينس أن ينبهه بأنه يحب الجوارب متوسطة الطول، عكسى أنا، حيث أحب الجوارب الطويلة التى تصل إلى الركبة.
فى مرة ثانية كنا فى زيارة للولايات المتحدة، وفوجئت به يقول لى: «هتعمل إيه يوم الأحد؟».
ــ قلت له: هلف فى المحلات من الصبح.
ــ قال: خلاص.. هطلع شوبينج معاك.
حددنا موعدا للانطلاق إلى التسوق. طلبت تخفيف الموكب نسبيا لأننا سنذهب إلى منطقة تجارية. أول محل دخلناه كان اسمه «جيمز» فى مول اسمه «تايسونس كورنرز». قلت له: يا ريس هذا المحل فيه أحذية وجوارب وجرافتات وبدل ممتازة، فدخلنا، ولم يسمح لأى من المرافقين والحراس بالدخول معنا. قلع جاكته وحذاءه وبدأ يتجول مستمتعا بتلك الحرية المؤقتة، وراح يقيس فى الأحذية ويقلب فى القمصان، لمحت فى عينه فرحة كبيرة جدا مثل فرحة الطفل عندما يشترى ملابس جديدة؛ لأن الرجل كان محروما من متعة التسوق بنفسه.
صاحب المحل كان «يشبّه» على مبارك. قلت له: هذا هو الرئيس المصرى مبارك، ولابد أن تعمل خصم لهذا الزائر الكبير لمحلك، وبالفعل أعطانا الرجل خصما وصل إلى 40 %، اشترى الرئيس بدلتين، وعددا من القمصان والجوارب ورابطات العنق وحذاءين، وأنا اشتريت مثلها تقريبا. وبعد أن خرجنا عدنا للمحل للحصول على أربطة مجانية للأحذية طبقا لاقتراحى.
مبارك من الناحية الإنسانية كان شخصية ظريفة جدا، وله قفشات كثيرة منها، أنه كان يقول على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو «ده نتن ياااااهو»، وأى مسئولة نحيفة كان يقول عليها «دى بوصة ولبسوها بقت عروسة». كان يحب الأكل جدا، وعندما نذهب للمائدة يقول «أنتم عارفين مبحبش آكل»، ورغم ذلك «يأكل بشهية مفتوحة»، وبعد الأكل نضحك ونقوله «يا سيادة الرئيس: أنت ليه خففت فى الأكل النهاردة؟».
أغنية «شعبولا»
تأكدت رغبتى فى ترك منصب وزير الخارجية خلال عام 2000 أكثر من أى عام آخر؛ فقد وصلت شعبية وزير الخارجية إلى الذروة، وملأ الرضا الشعبى عن أدائه الآفاق، نتيجة شعور المواطن المصرى والعربى فى كل مكان بأن عمرو موسى ينطق بلسانه، ويتخد نفس المواقف التى يتمناها هذا المواطن تقريبا، فى حدود ما لدى وزير الخارجية من صلاحيات، وكان هناك من لا يتردد فى إيغار صدر رئيس الجمهورية تجاه أى مسئول ناجح، فلا يجب ــ وفق هذا المنطق ــ أن يكون على الساحة شخص آخر معترف بدوره غير شخص الرئيس، ومن هنا يبدأ مسلسل الوشايات، وما أكثر من يجيدون لعب مثل هذه الأدوار!.
كل الشواهد فى هذه السنة كانت تشير إلى أن أيامى باتت معدودة بالوزارة، غير أن هناك بعض الأحداث التى عجلت برحيلى من الوزارة، منها ما يتسم بالطرافة، مثل أغنية شعبان عبدالرحيم، التى يقول ويكرر فى أكثر من مقطع فيها «بكره إسرائيل.. وبحب عمرو موسى»، فى ظل أجواء مشحونة بسبب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فأعطت هذه الأغنية كمية كبيرة من الذخيرة لكل من أراد التصويب على وزير الخارجية، الذى يتردد اسمه فى الأغنيات، التى تنتشر كالنار فى الهشيم بين الشباب فى مختلف أرجاء الوطن العربى، ويغنيها الناس فى أفراحهم. فكيف يحدث أن يأتى «حب عمرو موسى مقترنا بكره إسرائيل؟».
لم أسمع أغنية «شعبولا» فور صدورها، لكن ما لفت انتباهى إليها هو الاعتراضات الإسرائيلية عليها، وفى الحقيقة لم أقابل صدورها بشىء من الضيق أو الضجر، رغم علمى بأنها ستفتح عليّ أبواب جهنم. أتى لى صديق بهذه الأغنية، وبينما كنا نسمعها معا، صاح هذا الصديق فجأة «الله يخرب بيتك يا شعبان يا عبدالرحيم.. الموضوع كده هيخلص بسرعة ياعمرو بيه»، فى إشارة إلى أن أيامى باتت معدودة فى الوزارة. ضحكت وقلت له: يا رجل، 10 سنوات لى فى الوزارة كافية جدا.. وياللروعة عندما أنهيها على نغمات اللحن شبه الوحيد لشعبان عبدالرحيم (إييييه)»، ورحنا فى نوبة من الضحك على هذه الأغنية وصداها على المستويين الشعبى والرسمى.
لا أعتقد أن الرئيس حسنى مبارك قد اتخذ قراره بتغيير وزير الخارجية بناء على هذ الأغنية فقط، لكن كانت لديه تراكمات كثيرة قبلها تجاهى، من فعل الوشايات، التى لم تنقطع، والتى منها على سبيل المثال ما كان يردده البعض على مسامع الرئيس ضدى مثل قولهم «هو عمرو موسى بيسافر كتير كده ليه؟ ده مبيقعدش فى مصر يومين على بعض يا ريس»، وكأنى كنت وزيرا للحكم المحلى، لا وزيرا للخارجية، طبيعة عمله تحتم عليه كثرة الأسفار لمختلف العواصم، حفاظا على المصالح المصرية فى الخارج، وتأكيدا للحضور المصرى فى العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
أذكر أيضا أن صفوت الشريف وكان ركنا معتبرا من أركان النظام، دعا مبارك لزيارة مبنى التليفزيون بمناسبة عيد الإعلاميين. لم يوجه لى الدعوة مثل باقى الوزراء، وبينما الرئيس يتفقد المبنى ــ وطبقا لما ذكره لى أكثر من واحد من كبار الصحفيين فى تلك الفترة ــ إذ بصفوت يشير إلى مبنى الخارجية المجاور للتليفزيون على كورنيش النيل ويقول «هناك يا سيادة الريس.. فى هذا المبنى الضخم توجد إمبراطورية عمرو موسى»!.
أحب أن أقول فى هذا السياق إن الذى كان يوغر صدر الرئيس ضد الوزراء هو مسئول مدنى كبير. كان شديد الغيرة من بعض الوزراء، وملىء بالشك والريبة تجاههم؛ فأضر بعدد منهم، وأضر بنفسه، وأضر بالرئيس بإعطائه صورة مغايرة لما عليه حقيقة بعض المسئولين، الذين كانوا ينكبون على أداء مهامهم بإخلاص، لكن غيرته منهم كانت سببا لتأليب الرئيس عليهم.
الرحيل عن الوزارة
بعد عدة أسابيع من انتهاء مؤتمر القمة العربية التى انعقدت فى شرم الشيخ فى21 و22 أكتوبر 2000، أرسل الرئيس إليّ رسالة من خلال مكتبه، تقول إن الدكتور عصمت عبدالمجيد سيغادر منصب الأمين العام للجامعة العربية، فمن ترشِّح ليحل محله؟. كان عبدالمجيد قد تحدث إليّ قبلها بفترة مؤكدا على قدرته على العطاء فى الجامعة العربية لعامين آخرين، وأنه لا يفكر فى التقاعد الآن. كلمت الرئيس مبارك ونقلت إليه رغبة عبدالمجيد، واقترحت أن نعمل على المد له عامين بناء على رغبته، وأكدت أننى أنقل رسالة الرجل، لكن لا تعليق لى عليها.
رد مبارك «لا لا لا.. عصمت كبر خلاص.. قولّه: كفاية لحد كده.. يا راجل ده فيه دول كثيرة أبلغتنى إنهم لا يرغبون فى التجديد له». ثم أضاف بحدة واضحة فى نبرة صوته: «قول له كفاية كده يا عصمت.. كفاية». عند هذه اللحظة تيقنت من أنه يفكر فيّ أنا لأحل محل عبدالمجيد. وهو ما تم بالفعل؛ ذلك أنه عرض عليّ بعد ذلك تولى المنصب ورحبت. وتم الإعلان عن ذلك رسميا فى 15 فبراير 2001، وهو ما حظى باهتمام عربى كبير مخلوط بالأسف العام لتركى وزارة الخارجية.
كانت المشاعر جياشة فى وزارة الخارجية تجاهى بعد أن تم التأكد من أننى سأغادر منصبي؛ لقد أحاطنى زملائى وكل العاملين بالوزارة بمشاعر من الحب والمودة الصادقة والخالصة مازلت ممتنًا لها حتى اليوم، بعد 10 سنوات عملنا فيها جميعا كفريق واحد لم يتسرب إليه الكلل أو الملل؛ ولذلك كان حماس الجميع كبيرا لتنظيم حفل وداع كبيرا لوزير الخارجية فى حديقة الوزارة، لكن يبدو أن هذا الأمر أيضا لم يرق للرئيس والمحيطين به؛ خشية أن يتحول الحفل إلى تظاهرة كبيرة فى حب عمرو موسى.
لم تجد الشائعات نفعا أمام حماس أبناء وزارة الخارجية لتكريم وزير أحبوه وقدروه كما أحبهم وطور من أدائهم، وبينما نحن فى زيارة ألمانيا يوم 24 أبريل 2001 وإذ بالسكرتير الخاص للرئيس جمال عبدالعزيز يأتى إليّ فى الجناح الخاص بى فى الفندق الذى كنا ننزل فيه، وبعد مقدمات عادية، فوجئت به يقول «بقولك إيه عمرو بيه.. هو ضرورى تعملوا حفل الاستقبال بتاع وزارة الخارجية ده.. ما تسيبك منه».
قلت له: تقصد نلغيه؟.
قال: نعم.
قلت: اسمع يا جمال.. أنت جاى منين دلوقت؟
قال: جاى من عند الرئيس.
قلت: كده.. طيب قول للرئيس إنى هالغى الحفل.
أجريت على الفور اتصالا هاتفيا بالمستشار هشام بدر (السفير الآن)، والذى كان قائما على ترتيبات هذا الحفل من طاقم مكتبى. قلت له جملة واحدة: الغ الحفل يا هشام.. صرخ الرجل من الناحية الأخرى: كيف؟ لقد مضى الوقت الذى نستطيع فيه إلغاء الحفل.
رددت بمنتهى الحدة: الغ الحفل يا هشام؛ لأنه سيؤدى إلى الكثير من المشاكل.. خلاص انتهى الموضوع.. بنبرة حزينة مازالت أصداؤها فى أذنى حتى اليوم، قال هشام: «اللى تشوفه يا افندم». وتم إلغاء الحفل بالفعل.
أظن أن مبارك شعر بشىء من الحرج بعد أن تم إلغاء حفل الوداع الذى جهزته لى وزارة الخارجية، وطلب إلى الدكتور عاطف عبيد، رئيس الوزراء، تنظيم حفل صغير يقتصر على أعضاء مجلس الوزراء فى وداعى لوزارة الخارجية، وقد تم ذلك مساء يوم 15 مايو 2001، وهو آخر يوم عمل لى بالوزارة.
بعد ذلك بخمسة أيام فى يوم 20 مايو 2001، استدعيت وعصمت عبدالمجيد للحضور لرئاسة الجمهورية لتسلم «وشاح النيل». كانت الأمور قد وصلت بين الرئيس مبارك وبينى لحالة من الجفاء الواضح. استقبلنا عصمت وأنا وأمارات العصبية بادية عليه؛ فسلم على عصمت سلاما جافا، لا ترحيب فيه، وبجفاف أكثر سلم علىَّ، فأخذت «الوشاح»، وانصرفت دون أن تلتقى أعيننا.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف