خالد أبو بكر
نشر فى : الخميس 14 سبتمبر 2017 - 10:03 م | آخر تحديث : الخميس 14 سبتمبر 2017 - 10:03 م
- استدعانى عصمت عبدالمجيد من نيويورك ليبلغنى مبارك باختيارى وزيرًا للخارجية
- مبارك كان يعد مجموعة من الشخصيات بمنصب معين ثم يجد سعادة بالغة فى أن الإعلام لم يصل لمن وقع عليه الاختيار
- أصررت على أن يزورنى وزير خارجية الولايات المتحدة فى مكتبى لا فى الفندق الذى يقيم فيه كما جرى العرف
- أعدت هيكلة وزارة الخارجية بمنح الشباب عددا كبيرا من الوظائف القيادية
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فَأَمَا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (الحاقة ــ 19) – يكشف موسى عن تفاصيل قصة تعيينه وزيرا للخارجية، وجهده فى إعادة هيكلة وزارة الخارجية، وعلاقته مع بطرس غالى قبل رحيل الأخير لتولى منصب السكرتير العام للأمم المتحدة.
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة – وبقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.
أعتقد أن أدائى خلال القمة العربية الطارئة التى انعقدت فى 10 أغسطس 1990م، بسبب الغزو العراقى للكويت، رسخ اقتناع الرئيس مبارك باختيارى لتولى منصب وزير الخارجية؛ وأعتقد أنه تابعنى أو اختبرنى قبل ذلك بفترة، فبعد انتهاء هذه القمة تأهبت للعودة لنيويورك باعتبارى مندوب مصر الدائم فى الأمم المتحدة، لكن رئاسة الجمهورية طلبت منى البقاء لعدة أيام بناء على تعليمات من الرئيس شخصيا؛ فبقيت من دون أن أعرف السبب، ثم قالوا لى بعد عدة أيام بإمكانك السفر؛ فغادرت فى اليوم التالى.
حكى لى الدكتور مصطفى الفقى، وكان سكرتير الرئيس للمعلومات وقتها أن مبارك فى هذه الأثناء فكر فى تعيينى وزيرا للخارجية، لكن تداعى الأحداث فى الشرق الأوسط بعد غزو العراق للكويت، أدى به لأن يرى أنه من غير المناسب استبدال وزير الخارجية فى ظل هذه الظروف العصيبة، وإن كان قد استقر على عمرو موسى ليخلف عصمت عبدالمجيد فى وزارة الخارجية.
صباح يوم 25 أبريل سنة 1991، وبينما كنت مستغرقا فى قراءة صحيفة «نيويورك تايمز» دق الهاتف. كان على الجهة الأخرى الدكتور عصمت عبدالمجيد، وزير الخارجية، الذى كان يستعد لتبوؤ مقعد الأمين العام لجامعة الدول العربية، التى عادت إليها مصر، بعد تعليق عضويتها بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل سنة 1979م، وبعد أن استقال أمينها العام – آنذاك ــ الشاذلى القليبى. بعد التحيات طلب منى الوزير أن أنزل مصر فورا.
لم أسأل الرجل عن سر ذلك الاستدعاء المفاجئ. بعد وصولى صباح اليوم التالى بفترة وجيزة تلقيت مكالمة من جمال عبدالعزيز، السكرتير الخاص لرئيس الجمهورية. قال فيها «الرئيس يريد مقابلتك بمنزله فى التاسعة من صباح باكر». توجهت فى الموعد المحدد. وجدت مبارك جالسا فى حديقة منزله فى مصر الجديدة وأمامه عدد من الصحف العربية والمصرية. رحب بى. طلب قهوة سادة، ودعانى لاحتساء مشروب معه، فقلت للنادل: «قهوة سادة أيضا».
سألنى الرئيس عن بعض الملفات المرتبطة بطبيعة عملى كمندوب دائم لمصر فى الأمم المتحدة، كنوع من التسخين قبل الدخول فى صلب الموضوع الذى استدعانى لأجله. أعطيته تقارير وافية وإن كانت مختصرة مركزة عما سألنى عنه.
فجأة.. ومن دون مقدمات قال: اسمع يا عمرو.. لقد قررت تعيينك وزيرا للخارجية.
ــ قلت: أشكرك يا سيادة الرئيس على هذه الثقة.
ــ قال: بعد عودتى من جولة أوروبية سنجرى تعديلا وزاريا، وستصبح وزيرا للخارجية.
شكرت الرئيس على ثقته، وشربت القهوة ثم غادرت منزله وأنا استغرب هذا الهدوء الذى اعترانى ورئيس الجمهورية يخطرنى باختيارى وزيرا للخارجية، وكأننى لم أندهش أو كنت متوقعا ذلك، ثم بدأت أفكر فى هذا التطور الخطير فى حياتى وفى مسار عملى. لكننى فى الوقت نفسه كنت أعى تماما أن ما قاله لى بشأن تعيينى وزيرا للخارجية قد يتغير بين عشية وضحاها؛ جراء تدخل من هنا أو هناك؛ ولذلك كان عزمى أكيدا على العودة إلى نيويورك لمتابعة عملى.
مضى أكثر من أسبوع على مقابلة الرئيس وأنا منهمك فى عملى بالأمم المتحدة بعد عودتى إلى نيويورك. احتاج الأمر أن أعرض عليه تطورات مرتبطة بملف «المنطقة الخالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط»، وكان مبارك يوليه اهتماما؛ فاتصلت مباشرة بمكتبه. أوصلونى به. بعد الترحيب، والحديث فى الملف سبب المكالمة، سألته عن التوقيت الذى يرى أن أكون فيه بالقاهرة اتصالا بما دار بيننا فى منزله قبل عودتى لنيويورك، فقال: «تعال ونبقى نشوف».
انتابتنى مشاعر متناقضة بعد انتهاء هذه المكالمة. استوقفتنى عبارة «تعال ونبقى نشوف». من ناحية كنت سعيدا بأن احتمالات بقائى فى نيويورك باتت كبيرة بعد سماعى هذا الرد غير الحاسم من الرئيس فى أمر تعيينى وزيرا للخارجية؛ خاصة أن «تعال ونبقى نشوف» عبارة أشعرتنى بأن الرجل يعطى لنفسه خطا للتراجع عما قاله لى فى حديقة منزله قبل أيام. كانت هذه طريقته، يفكر فى أكثر من ثلاثة أو أربعة أسماء، وربما يوهم مباشرة ــ أو بطريقة غير مباشرة ــ كلا منهم أنه القادم لهذا المنصب أو ذاك، وعندما يتم الإعلان عن اسم من وقع عليه الاختيار، يجد سعادة بالغة فى تلك الحيرة التى وقع فيها بقية المرشحين، وأن أحدا لم يعلم بنواياه من الوزراء أو الإعلاميين أو غيرهم.
رحت أحلل وأفسر «تعال ونبقى نشوف»؛ فوجدت شطرها الأول يقول «تعال» يعنى لابد أن أعود إلى مصر؛ فتحدثت إلى عصمت عبدالمجيد، وتناقشنا فى بعض الموضوعات الخاصة بالعمل، ثم فى نهاية المكالمة قلت له: احتمال أحتاج أنزل مصر خلال الفترة المقبلة يا سيادة الوزير.
قال: تعال.. تعال يا عمرو.
قلت: متى؟
قال: تقدر تيجى بكرة.
ويبدو أن نقاشا دار بين الوزير والرئيس، وفيه تم حسم أمر تعيينى وزيرا للخارجية.. هكذا قدرت، وإلا كان الوزير قد عارض أمر عودتى للقاهرة، أو كان قد سألنى عن سبب العودة الآن على أقل تقدير.
فى اليوم الثالث من عودتى إلى القاهرة (20 مايو 1991)، إذا بالهاتف يدق فى تمام الثامنة صباحا. كان على الناحية الأخرى، جمال عبدالعزيز، سكرتير الرئيس مبارك. باستغراب شديد وجدته يقول: إنت مجتش الرئاسة ليه؟.. ده حلف اليمين بعد قليل.
قلت: معقول.. أنا لسه فى بيتى.
قال: طيب خلال ساعة بالكتير تكون وصلت.. أرجوك.
حتى هذه اللحظة كنت ما زلت فى سريرى. نهضت بسرعة البرق. حلقت ذقنى. وأخذت «دوشا». قررت أن أذهب إلى الرئاسة بسيارة تاكسى؛ لأننى كنت قد طلبت من سائقى الحضور فى الساعة العاشرة، لكن بمجرد نزولى وجدت السيارة فى انتظارى؛ لأن السائق جاء قبل موعده، فحمدت الله على هذا الحظ الجيد، لأننى كنت سأجد صعوبة فى دخول رئاسة الجمهورية بتاكسى!.
قال لى هذا السائق المخضرم: على فين. قلت على رئاسة الجمهورية. وصلت فوجدت رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى فرحب بى، وعبر عن سعادته بعملى معه وانضمامى لحكومته، وكانت هذه المرة الأولى التى نتحدث فيها فى هذا الأمر. أى إن رئيس الوزراء المكلف لم يقابلنى أو يتحدث إلىّ فى أمر الانضمام لحكومته إلا وقت أداء اليمين الدستورية!.
• العلاقة مع بطرس غالى
بعد انتهاء مراسم حلف اليمين، اجتمع الرئيس مبارك بالحكومة وأعطى بعض التوجيهات والتكليفات. بعد الاجتماع طلب منى وبطرس غالى – الذى تم تعيينه نائبا لرئيس الوزراء للاتصالات الخارجية (وليس الشئون الخارجية)، ولم نكن نعرف معنى محددا لمفهوم «الاتصالات الخارجية» ــ الانتظار لأنه يريد أن يتحدث إلينا؛ فغادر رئيس الوزراء وبقية أعضاء الحكومة وبقيت أنا وغالى.
جلسنا فى الصالون الكبير بالدور الأرضى بقصر الاتحادية. غالى عن يساره وأنا أمامه. تكلم الرئيس موجها حديثه إلىّ بشكل أساسى عن أهمية التعاون فيما بيننا – بطرس وأنا ــ لأن التحديات التى أمامنا كثيرة، وأنه يرى أننا فريق عمل ممتاز، بإمكانه أن يخدم السياسة الخارجية بطريقة مختلفة عن ذى قبل.
وهنا يجب أن أعيد ما سبق أن أشرت إليه فى شأن تقديرى لبطرس غالى، ذلك الدبلوماسى العظيم، قبل الشروع فى الحديث عن علاقتى به خلال عملى وزيرا للخارجية، وعمله كنائب لرئيس الوزراء لـ«الاتصالات الخارجية»، فأقول: إننى أعتبره أستاذا لأجيال كثيرة فى وزارة الخارجية، لقد تعلمت منه الكثير، وأحمل له الكثير من الود والاحترام. كنت مقتنعا تمام الاقتناع بأنه كونى أصبحت وزيرا للخارجية فإن لغالى دورا وإسهاما فى تشكيل شخصية الوزير الجديد.
كنت أقول لنفسى إنه ليس واردا أن أدخل فى منافسة مع غالى أبدا؛ طبقا لمعطيات الوضع الجديد من كونى أصبحت وزيرا للخارجية وهو فى موقع تال لى فى رئاسة الدبلوماسية المصرية مع أنه أعلى مرتبة باعتباره نائبا لرئيس الوزراء. عزمت على عدم التورط فى أى تصرف قد يجرح كبرياءه، وهو الأستاذ والوزير القديم فى الدولة المصرية؛ وتاليا كان عزمى أكيدا على أخذ رأيه وموقعه وحساسياته فى الاعتبار.
لكننى كنت أدرك أن غالى رجل عملى، ومسألة حرصى على أخذ آرائه بعين الاعتبار لم تكن تهمه كثيرا. ما يهمه بحكم تركيبته العملية هو تحديد اختصاصاته بوضوح شديد. وهنا خشيت أن يكون الرجل يتصور أنه سيكون صاحب القرار الأول فى وزارة الخارجية، وأننى سأكون مساعدا له وإن كان بدرجة وزير، وهو ما كنت أرفضه رفضا قاطعا؛ فوزير الخارجية فى تصورى هو وزير الخارجية، أى لا يجب أن يكون هناك أى معقب عليه إلا رئيس الدولة، وأن أى أجهزة أخرى فى الدولة يتم التنسيق والتعاون معها دون الخضوع لها، سواء كانوا أشخاصا أو مؤسسات.
كان موقفى أنه ما دمت قد حلفت اليمين وزيرا للخارجية فأنا المسئول الأول عنها، وأى خطأ أو فشل سيكون مسئوليتى أنا دون أى شخص آخر. عبرت عن ذلك صراحة وبكل الصيغ الدبلوماسية للدكتور غالى ونحن فى السيارة فى طريقنا إلى الوزارة بعد انتهاء لقائنا مع الرئيس مبارك.
بمجرد وصولنا وزارة الخارجية بميدان التحرير وصعودنا سلمها الرئيسى دخلت إلى الناحية اليسرى حيث مكتب وزير الخارجية، ودخل غالى إلى اليمين، حيث مكتب وزير الدولة للشئون الخارجية الذى كان يشغله طيلة السنوات السابقة قبل أن يصبح نائبا لرئيس الوزراء. وللأمانة فقد قال لى بطرس ونحن فى طريقنا للوزارة: «انتبه من الموظفين يا عمرو؛ فبعضهم قال لى: سيادتك يجب أن تجلس فى مكتب وزير الخارجية، والوزير الجديد يجلس فى مكتبك القديم. انتبه سيحاول البعض إحداث الوقيعة بيننا».
فى الأيام الأولى لى فى الوزارة كنت مراعيا لمشاعر غالى. طلب بعض الموظفين منى عمل مؤتمر صحفى لأقدم نفسى وسياستى للداخل والخارج، لكننى رفضت. قلت لن أقدم على هذه الخطوة إلا بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع، أتفرغ فيها لوضع الخطوط العريضة للعمل فى المرحلة المقبلة وانتهى فيها من التنسيق مع غالى، ثم به بدفع من عدد من الموظفين يدعو إلى مؤتمر صحفى، يشير فيه إلى أنه ينتوى عمل كذا، وسيتابع القضية الفلانية.. والانطلاق فى السياسة العلانية، وكأنه الرجل الأول فى وزارة الخارجية. وربما كان بعض هؤلاء الموظفين ينوون التلاعب بالوزيرين، متوقعين أن أتلو مؤتمر غالى بمؤتمر من جانبى ردا عليه، وهو الذى تحاشيت القيام به. قررت إرجاء التفكير فى عقد أى مؤتمر صحفى لما بعد شهر أو أكثر من ذلك اليوم.
خلال الأسابيع الأولى لى بوزارة الخارجية لم يكف غالى عن طلب تقسيم العمل بينى وبينه. تحدث فى ذلك مرارا مع الدكتور مصطفى الفقى، بصفته سكرتير الرئيس للمعلومات. إلى أن اقترب موعد قيام الرئيس بزيارة رسمية إلى بريطانيا، هى الأولى من نوعها، حيث سيتم استقباله فيها استقبالا رسميا، وسيقيم فى قصر باكنجهام هو والسيدة زوجته، ووزير الخارجية وزوجته. كان الموعد المحدد لهذه الزيارة يوم 23 يوليو 1991م، أى بعد شهرين من تعيينى وزيرا للخارجية؛ قال غالى لمصطفى الفقى: بلغ الرئيس يا مصطفى إنه بعد كل هذه السنوات التى قضيتها فى وزارة الخارجية أحب أن أكون أنا الموجود معه فى زيارتكم لبريطانيا. فكان جواب مبارك على هذا الطلب: لا.. أنا عندى وزير خارجية جديد الآن، ولابد من تقديمه للدول الكبرى؛ وبالتالى سيكون هو رقم 2 فى الوفد الذاهب إلى لندن، لا بطرس غالى.
• ترشح غالى لـ«الأمم المتحدة»
رد الرئيس على طلب غالى جعله يعقد العزم على الخروج من وزارة الخارجية، أو من الحكومة كلها؛ فبدأ يفكر فى الترشح لرئاسة منظمة «اليونسكو». وتصادف ــ طبقا لما رواه هو لى ــ أنه كان فى زيارة إلى الكونغو (كينشاسا) بينما كانت إفريقيا تجهز قائمة من المرشحين لمنصب «السكرتير العام للأمم المتحدة، اقترح عليه الرئيس موبوتو سيسى سيكو أن يضع اسمه فى القائمة، فقال له: ليس لدى تعليمات من الرئيس مبارك بذلك، فقال له سيسى سيكو: «نضع اسمك فى القائمة، وارجع بعدها للرئيس. وضع اسمك لن يضيرك فى شيئ، وإذا لم يوافق مبارك احذف اسمك. سوف أتحدث شخصيا مع الرئيس فى شأن ترشيحك».
وبالفعل بمجرد عودته إلى القاهرة قابل غالى الرئيس مبارك واقترح عليه أمر ترشيحه لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، فلم يمانع، لكن مبارك لم يكن واثقا بفوز غالى بهذا المنصب. قال غالى للرئيس: الأمر يحتاج ميزانية ويحتاج دعمكم لى بإرسال رسائل ومبعوثين للدول لطلب تأييدهم لى. فقال له: ارجع فى هذا الشأن لوزير الخارجية. وجاء إلى بالفعل، ووعدته ببذل قصارى الجهد فى هذا الأمر. والواقع أن الدكتور مصطفى الفقى سكرتير الرئيس للمعلومات كان قد أشار فى عرضه الأمر على الرئيس إلى الالتزامات الكبيرة التى يتطلبها هذا الترشيح من جهود دبلوماسية وأموال مطلوبة. كانت موافقة الرئيس تعنى طلب اعتمادات إضافية ورسم خطط للدعاية واستمالة الدول والاتفاق مع الدول العظمى. فقامت وزارة الخارجية بكل ذلك بكل أمانة ومهنية.
فى هذه الأثناء جاء وزير خارجية الولايات المتحدة «جيمس بيكر» فى زيارة للقاهرة، وطبقا للعرف الأمريكى ــ باعتبار أنهم الدولة الأكبر فى العالم ــ لا يذهب وزير الخارجية الأمريكية إلى مقار وزارات خارجية الدول التى يزورها.. بل يذهب وزير خارجية الدولة المضيفة إلى الوزير الأمريكى حيث يقيم؛ ولذلك أرسلت السفارة الأمريكية خطابا لنا يقول: «إن وزير الخارجية الأمريكى سيزور الوزير المصرى للتحية فى جناحه فى الفندق». قلت وماذا يعنى ذلك؟ قالوا: لابد وأن يكون لك جناح فى الفندق الذى يقيم فيه الوزير الأمريكى؛ كى يعبر جناحه إلى جناحك لزيارتك!.
قلت أنا لا أسكن فى فندق، ولى مكتب ومنزل تتم الزيارة لأيهما. أنا أدعو الوزير الأمريكى رسميا لعشاء فى منزلى أو قهوة فى مكتبى، وإذا لم يأت بيكر لزيارتى فى مكتبى هنا بوزارة الخارجية سأكتفى بحضور مباحثاته مع الرئيس. أبلغ مكتبى السفارة الأمريكية بهذا القرار. أذكر أن الذى أبلغهم بذلك هو السفير أحمد أبوالغيط بصفته نائب مدير مكتبى فى ذلك الوقت. وقد كان.. فقد قال بعض الدبلوماسيين الأمريكيين المرافقين لبيكر: إننا نعرف عمرو موسى منذ أن كان فى الأمم المتحدة. لن يقيم فى نفس الفندق الذى تقيم فيه، ولن يقابلك إلا فى مكتبه بوزارة الخارجية، فمن الأفضل أن تزوره فى مكتبه كما يريد. وهو ما تم بالفعل.
فى هذه الأثناء طلب منى بطرس غالى أن أفاتح جيمس بيكر فى أمر ترشحه لمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة، وطلب الدعم الأمريكى له، قلت له: سآتى بالوزير الأمريكى إليك هنا، وجاء بيكر بالفعل إلى مكتبى واجتمعت به أنا وبطرس، لكن الأمريكان لم يكونوا مقتنعين بغالى لهذا المنصب، لكنه فاز بمنصب السكرتير العام للأمم المتحدة فى 12 ديسمبر 1991، وهو فوز مستحق لشخصية دبلوماسية وعلمية ومفكرة من الطراز الأول.
الطريف فى الموضوع أن غالى بمجرد توليه منصبه الجديد فى الأمم المتحدة، قال للدكتور نبيل العربى –كما حكى لى الأخيرــ الذى كان مندوبا دائما لمصر فى الأمم المتحدة خلفا لى: «شوف بقى يا نبيل.. أنا دلوقت على قمة العالم.. أنا بطرس (باشا).. عصمت عبدالمجيد يادوب (بك) أمين عام للجامعة العربية.. وعمرو موسى مثله.. يا دوب وزير خارجية مصر. أما أنا بقى.. بطرس باشا أنا على رأس العالم كله».
• إعادة هيكلة وزارة الخارجية
بمجرد تعيينى وزيرا للخارجية ــ بل وفى اليوم الأول ــ قررت أن أعدَل الهيكل التنظيمى لوزارة الخارجية الذى كنت أرى أنه لم يعد متمشيا مع معطيات العصر الحاضر؛ ذلك أنه بات هيكلا عتيقا تم تصميمه على طريقة وزارات الخارجية الفرنسية والإنجليزية والألمانية فى عقود سابقة مبكرة فى النصف الأول من القرن العشرين.
رأيت أن الوزارة بالوضع الذى كانت عليه لن تتواكب مع السرعة المطلوبة والحركية التى أنتهجها فى عملى، والتى تمكننى من المبادرة والمناورة وسرعة رد الفعل وإبقاء مساحة واسعة للفعل. كنت أطمح فى أن أجعل الهيكل والتركيب التنظيمى للوزارة على غرار هيكل وزارة الخارجية الأمريكية الأكثر فى رأيى بين وزارات الخارجية فى العالم.
كلفت أحد السفراء القدامى والأكفاء المعروفين بالدقة وحسن تقدير الأمور، وهو السفير شكرى فؤاد ميخائيل بوضع دراسة شاملة وافية عن هذا التطوير المنشود. شرحت له أهدافى منه وعلى رأسها تقدير الكفاءات وتمكين الشباب؛ (ما قبل درجة سكرتير أول وحتى درجة مستشار) ولذلك استحدثنا فى الهيكل الجديد عددا لا بأس به من المناصب القيادية لهم، رغم أن درجاتهم الوظيفية لم تكن تسمح لهم بذلك.
الهدف الثانى من التطوير كان ينطلق من أن الساحة الخاصة بالعلاقات الدولية قد طرأ عليها تغييرات كثيرة جدا، وطرحت عليها موضوعات لم تكن مطروحة فى العقود التى سبقت عقد التسعينيات من القرن الماضى. كما ظهرت أهمية لموضوعات كان يتم التعامل معها بشكل سطحى نسبيا؛ ولذلك فالهيكل الجديد للوزارة إلى جانب احتوائه على الجزء الخاص بالأفراد، توجه للاهتمام بالموضوعات الجديدة؛ فأنشأنا إدارات متخصصة لمتابعة الموضوعات المهمة التى طفت على الساحة الدولية فى أواخر القرن العشرين.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف