خالد أبو بكر:
نشر فى : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 سبتمبر 2017 - 9:50 م
- سر المفاوضات السرية بين السوريين وإسرائيل فى الثمانينيات
- غرائب وطرائف أول لقاء مع إنديرا غاندى بعد تعيينى سفيرًا لمصر فى الهند
- تفاصيل مبادرتى لـ«منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط»
- لولا جرأة مبارك لنظَم أنصار الغزو العراقى للكويت أنفسهم ومنعوا صدور قرار الجامعة العربية بإدانة بغداد
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19) ــ يستعرض موسى شهادته على الفترة التى قضاها سفيرا لمصر فى الهند (1984ــ 1986)، ثم عودته لمنصب مدير إدارة الهئيات الدولية بوزارة الخارجية، ثم الفترة التى قضاها فى مندوبا دائما لمصر فى الأمم المتحدة، وكذلك شهادته على الغزو العراقى للكويت.
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وكذلك بقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.
سفيرًا لمصر فى الهند
تسلمت عملى سفيرا لمصر فى الهند فى 30 ديسمبر 1983م. كنت أدرك وقتها أن العلاقات المصرية ــ الهندية ليست على ما يرام منذ عهد الرئيس السادات؛ الذى صرح للصحفيين المصريين على هامش زيارته للعاصمة النمساوية فيينا فى 12 إبريل 1976 بما معناه أن الهند تقاعست عن تقديم خدمات للطائرات المصرية، لأن نيودلهى فقدت إرادتها السياسية، وأصبحت تخضع لتعليمات الاتحاد السوفيتى الذى لم يكن على وفاق معه خلال تلك الفترة.
أول تواصل معى بعد وصولى نيودلهى كان مع سفير الأرجنتين. جاء الأمر بمحض المصادفة، ذلك أننى وصلت وعائلتى يوم 30 ديسمبر 1983م، وفى اليوم نفسه كان هذا السفير يقيم حفل عشاء دعا إليه سفير مصر الجديد وزوجته دون أن يعرفهما، وعندما ذهبت وجدت عددا كبيرا من سفراء دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، وعلى رأسهم عميد السلك الدبلوماسى، ولم يكن هناك أى سفير عربى أو إفريقى ضمن المدعوين!.
أذكر أن عميد السلك الدبلوماسى (سفير الأوروجواى) اصطحبنى لبعض الحديث عما يجب أن أعرفه فيما يتعلق بالمراسم التى سوف يواجهها السفير الجديد. سرنا معا فى حديقة منزله الجميلة، راح يسدى إلى بعض النصائح، فقال لى: أنت ستقدم أوراق اعتمادك لرئيس الجمهورية، ثم سيحددون لك موعدا لمقابلة رئيسة الوزراء إنديرا غاندى. جميع السفراء هنا لم يكونوا سعداء بمقابلة هذه السيدة؛ لأنه لا صبر لها على الجلوس معنا؛ فبعد دقيقة أو دقيقتين ستجدها بدأت فى الانشغال عنك بالتقليب فى أوراقها، وتتركك تسترسل فى الحديث لعدة دقائق بينما تنظر فى أوراقها إلى أن تستشعر أنت الحرج وتضطر للاستئذان فى الانصراف وتنتهى المقابلة فى دقائق.
لا أستطيع أن أصف وقع نصيحة عميد السلك على نفسى. أدركت أننى فى موقف صعب جدا، قد لا أستطيع تحمله على الرغم من أننى دبلوماسى محترف؛ لأننى لا أتصور أن يمارس أحد علىّ نوعا من التعالى وأنا سفير لمصر، وبصرف النظر عن الاحتراف ومداه فأنا ــ بتكوينى النفسى ــ لا أقبل مثل هذه المعاملة على المستوى الشخصى، ولا على المستوى المهنى بصفتى سفيرا لدولة كبيرة فى الشرق الأوسط، لها حضورها على المستويين العربى والإسلامى وعدم الانحياز.
فى الأيام الأولى من يناير 1984م أبلغتنى السلطات الهندية بأن موعد تقديم أوراق اعتمادى لرئيس الجمهورية سيكون خلال أسبوعين من وصولى نيودلهى فى 30 ديسمبر 1983. وفى أوائل مارس 1983 وجهت لى السلطات الهندية دعوة لمقابلة رئيسة الوزراء إنديرا غاندى فى العشرين من نفس الشهر. قلت: «جالك الموت يا تارك الصلاة» بالتعبير المصرى الدارج. ذهبت إلى مكتب إنديرا فى البرلمان فى الموعد المحدد. انتظرت فترة ثم دعيت للدخول لرئيسة الوزراء فوجدت مكتبها فى غاية الأناقة. كراسى الضيوف التى أمام المكتب تبعد عنه نحو مترين، وكان ملحقا به صالون فخم. لم تجلسنى فى الصالون (كما تقتضى أمور الضيافة)، بل أشارت لى بأن أجلس أمامها وهى جالسة على مكتبها قلت لنفسى: «معلهش فوت دى».
مدير مكتب إنديرا، شينموى جارى خان كان المندوب الدائم للهند فى الأمم المتحدة، وكانت بينى وبينه صداقة منذ ذلك الحين. أشار لى بأن أبدأ الحديث. قلت لها: يسعدنى ويشرفنى أن أكون سفيرا لمصر فى الهند؛ نظرا للعلاقات القوية والتاريخية التى تجمع بلدينا، وأن الرئيس حسنى مبارك يبعث إليك بتحياته.. إلى آخر هذه الكلمات المعتادة.
لاحظت أنها بعد دقيقة أو دقيقة ونصف بدأت لا تهتم بكلامى؛ لأنها معتادة على مثل هذا الكلام الذى يقوله السفراء، وفجأة وجدت يدها اليسرى قد امتدت لتأخذ ملفا من على يسارها. أيقنت أنها ستبدأ معى لعبة «التطفيش والإهمال» لإجبارى على الاستئذان فى الانصراف. بدون تجهيز سابق منى نظرت إليها قائلا: يا سيادة رئيسة الوزراء.. خلال الفترة القصيرة التى قضيتها هنا فى الهند قمت بجولات للتعرف على بلادكم وزرت ولاية راجستان حيث «تاج محل» وخلال هذه الجولة اكتشفت تشابها كبيرا بين المصريين والهنود.
وضعت الملف الذى سحبته أمامها وقالت لى بصوتها الرفيع وأمارات الاهتمام بادية عليها: «?what similarity» «أى تشابه؟». قلت لها على الفور: «truck drivers» (سائقو الشاحنات)، فنظرت إلى وقالت: «سائقو الشاحنات؟»، وكان شيئا غريبا أن نبدأ حديثنا عن سائقى الشاحنات أو اللوريات!.
قالت لى: هل تعلم يا سيادة السفير أننى كنت منذ 10 سنوات فى زيارة للأرجنتين وكنت ذاهبة لزيارة مصنع من المصانع على بعد عدة كليومترات من «بوينس آيرس» وكان معى وزير خارجيتى، ولاحظت أن هناك تشابها فى الطرق بين الأرجنتين والهند، وقلت ذلك لوزير الخارجية فقال لى ما التشابه يا رئيسة الوزراء؟ فقلت له: «سائقو الشاحنات»، وضحكنا على ذلك. ثم قالت عبارة very interesting..
هنا بالضبط أدركت أن انتباهها كله بدأ ينصب نحوى؛ فباغتها بأسئلة عن القضايا الثلاث التى كانت تهيمن على الشرق الأوسط خلال تلك الفترة، والتى تتمثل فى: الحرب العراقية ــ الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، والقضية الفلسطينية؛ فتحدثت رئيسة الوزراء عن الموقف فى المنطقة. بعد ذلك دعتنى إلى الجلوس فى الصالون الملحق بالمكتب، وطلبت منى أن أشرح الموقف المصرى من القضية الفلسطينية وما نراه ممكنا، فعرضت موقفنا. استمر اللقاء لمدة 37 دقيقة بالتمام والكمال، فى حين أنها لا تمنح معظم السفراء ــ كما علمت بعد ذلك ــ أكثر من 15 على الأكثر ــ مهما كانت أهمية العلاقات أو الموضوعات المطروحة.
خرجت منتشيا.. شعرت بأننى انتصرت على طريقة هذه السيدة فى التعامل مع السفراء. صارت الـ37 دقيقة التى أمضيتها مع إنديرا حديث السلك الدبلوماسى كله فى نيودلهى.. وكيف أن السفير المصرى الجديد فى جلسته الأولى معها نجح فى اقتناص كل هذا الوقت منها.
بعد اغتيال إنديرا فى 31 أكتوبر 1984 تابعت بشغف واهتمام شديدين سياسة خلفها راجيف غاندى، وهو ابنها الشاب الذى تولى السلطة بعدها بعد أن نجح فى قيادة حزب المؤتمر ليفوز بأغلبية مريحة فى الانتخابات البرلمانية، التى أجريت سنة 1984. كان مبعث شغفى بمتابعة راجيف غاندى، ذلك الطيار المدنى ذى الأربعين ربيعا الذى درس فى جامعة كامبردج البريطانية، والمتزوج من سونيا غاندى الإيطالية ــ هو معرفتى بميوله ناحية الغرب، وبالتالى رصد التحول الذى قد يحدث للهند فى علاقتها مع القوتين العظميين من حيث الاتجاه نحو الولايات المتحدة، والابتعاد عن الاتحاد السوفيتى، الذى كانت والدته شديدة الحرص على علاقات قوية معه مقارنة بالولايات المتحدة.
من دون الدخول فى تفاصيل الفترة التى عاصرت فيها حكم راجيف غاندى حتى غادرت الهند فى 31 ديسمبر 1986 ــ رصدت فيها بدقة شديدة تحوله المحسوس نحو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن يرجع إلى برقياتى التى أرسلتها إلى وزارة الخارجية من نيودلهى سيجد هذا الرصد الدقيق يوما بيوم.
اشتباك مع السوريين
كانت أول مهمة أمامى فى الولاية الثانية لإدارة الهيئات الدولية بعد عودتى من الهند هى مشاركة مصر فى مؤتمر القمة الإسلامى فى الكويت، الذى انعقد فى الفترة من 26 ــ 29 يناير 1987م، وقت المقاطعة العربية لمصر بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل سنة 1979م. كان الجو العربى العام قد بدأ يهدأ مع مصر من مختلف الدول العربية إلا سوريا، التى توقعت الصدام معها خلال هذا المؤتمر. أتاح لى منصبى أن أكون الرجل الثانى فى الوفد المصرى فعليا بعد الوزير عصمت عبدالمجيد وإن لم يكن بروتوكوليا، حيث كان بالوفد بعض قدامى السفراء من مساعدى الوزير، فرأست الوفد على مستوى السفراء.
افتتحت سوريا الاجتماعات بهجوم عنيف على مصر، وهو ما أعاد تذكيرى بالمعارك التى خضناها فى المنظمات الإقليمية والدولية المختلفة ضد محاولات دول جبهة «الرفض» لطرد مصر منها. كان الهجوم السورى قاسيا علينا فى الاجتماع التحضيرى المنعقد على مستوى السفراء تمهيدا لانعقاد القمة. تحدث ممثل سوريا بالكثير من العصبية. اتهم مصر بـ«الخيانة والتخلى عن الحقوق والثوابت العربية». قررت شن هجوم مضاد كاسح، اعتمدت فيه على عنصر المفاجأة. قلت بأعلى الصوت أمام الاجتماع: «الآن.. الآن فقط تستطيع مصر أن تفضح من يزايدون عليها وعلى عروبتها وهى قائدة هذه الأمة.. ها هى وثيقة أكشف عنها أمام الاجتماع تفضح اللقاءات السرية بين الإسرائيليين والسوريين، الذين يملأون الأرض حديثا عن الكفاح والنضال وانتقاد الآخرين الذين يعملون فى العلن ولا يوجد لديهم ما يخفونه».
تكهرب الجو فى القاعة.. وران الصمت على الجميع؛ فالكل يريد أن يعرف تفاصيل هذه اللقاءات التى تحدثت عنها بمن فيهم أعضاء الوفد السورى أنفسهم الذين أخذتهم المفاجأة التى أعلنت عنها.. والتى كانت إحدى الجهات المصرية قد كشفت عنها لوزير الخارجية عصمت عبدالمجيد، وأخبرنى بها قبل ذهابنا إلى الكويت لحضور هذه القمة. كان كل ما يقوله السوريون فى الهجوم على مصر كلاما مكررا ومعادا؛ فاهتم الجميع بما سأكشف عنه.. وتعلقت الأبصار والآذان فى اتجاهى حين طلبت الكلمة وأعطيت لى على الفور.
قدمت للمجلس ــ وفيه ممثلون لكل وفود الدول الأعضاء فى منظمة المؤتمر الإسلامى التى أصبحت تدعى الآن منظمة التعاون الإسلامى ــ ما يشبه الوثيقة عن اللقاءات السورية ــ الاسرائيلية التى تتم فى السر. كانت المعلومة التى أفادتنا بها إحدى الجهات المصرية تقول: «إن لقاءات سرية تتم بين السوريين والإسرائيليين فى العاصمة السويسرية برن»، فقمت بعمل إخراج فيه شىء من التشويق على عصب هذه المعلومة. قلت إنه فى الساعة كذا.. من يوم كذا فى المنزل رقم كذا بشارع جانبى فى العاصمة السويسرية التقى وفد سورى بوفد إسرائيلى وتم الحديث فيه عن الوضع الفلسطينى وعلى التعاون فيما يتعلق بقضية الفلسطينية والجولان، وإن الأمر لم يكن مقصورا على لقاء واحد بل لقاءات متعددة، وصدر عنها اتفاقات سرية تتصل بضمان موقف سورى حقيقى مطمئن للإسرائيليين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. والآن يحاول الإخوة السوريون أن يعطونا دروسا فى الوطنية وفى العروبة!.. وجهوا لأنفسكم هذا الكلام أولا... إلخ».
المعلومات التى لدينا تشير إلى أن اللقاءات تمت فى المساء فى أحد الشوارع الجانبية الصغيرة، لكننى تعمدت أن أضع ساعة وتاريخا بعينه من عندى إمعانا فى تأكيد المعلومة وإضفاء جو من الدراما عليها. كاد الجنون يعصف بأعضاء الوفد السورى وهم يسمعون هذا الكلام.. بعضهم يريد مقاطعتى لكن رغبته الأكيدة فى الاستماع إلى مزيد من الأسرار التى أكشف عنها حالت دون ذلك.
خرجت من اجتماع السفراء حيث تهافتت الوفود لمعرفة المزيد من التفاصيل عن اللقاءات السورية ــ الإسرائيلية السرية، لكننى توجهت إلى حيث يجلس عصمت عبدالمجيد فى أحد الصالونات بمقر انعقاد القمة بالكويت، ومعه عدد من وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية المشاركة فى القمة كانوا قد سمعوا بما حدث وكانت تعليقاتهم تتجه نحو أن ما جرى من نقاش إنما يشكل أمرا طريفا أكثر من كونه أمرا خطيرا.
المندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة
تسلمت عملى مندوبا دائما لمصر فى الأمم المتحدة بنيويورك فى أول فبراير 1990. لا أستطيع أن أصف حجم شعورى المفرط بالسعادة وأنا أدخل أروقة المنظمة الدولية الأكبر فى العالم لأول مرة كسفير ورئيس لوفد بلادى لديها. خلال الفترة التى ترأست فيها الوفد المصرى الدائم اشتبكت مع قضيتين كبيرتين هما: «المبادرة المصرية لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط»، و«الغزو العراقى للكويت».
أما عن المبادرة فهى فى الأساس اقتراح تقدمت به إلى وزير الخارجية وطلبت أن تتبناه الدولة المصرية.. ففى 2 إبريل 1990 ــ ردا على التهديدات الإسرائيلية بالهجوم على العراق ــ ألقى صدام حسين خطابا فى حفل تكريم كبار القادة العسكريين العراقيين، بثته الإذاعة والتليفزيون. وقال: «إننا سنرد على إسرائيل، إذا استعملت ضدنا أسلحة نووية». ثم أقسم أنه «إذا تعرض العراق لهجوم نووى إسرائيلى، فإنه سيستعمل أسلحة متطورة، تحرق بالنار نصف إسرائيل».
أثارت تصريحات الرئيس العراقى ردود فعل واسعة عالميا وإقليميا وعربيا، وأمام هذه الضجة رأيت أنه لابد لمصر من تحرك ما يستغل هذا التصعيد العراقى ضد إسرائيل ــ بإعلانه عن امتلاك سلاح بصورة أو أخرى يعد رادعا لإسرائيل وإن بدرجة أقل من سلاحها النووى، ــ فى جنى مكاسب للعالم العربى كله على صعيد نزع السلاح النووى الإسرائيلى، واقتراحى فى هذا الصدد تمثل فى مبادرة كتبتها وأرسلتها لوزير الخارجية عصمت عبدالمجيد.
وقلت إن مصر يجب أن تتبناها، خاصة أن مبادرتى تتجاوز المبادرة السابقة لمصر مع إيران والخاصة بإنشاء منطقة خالية من السلاح النووى فى الشرق الأوسط، إذ إن المبادرة التى اقترحتها تطالب بإنشاء «منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل»، ذلك أننى قدرت أن وقت طرح هذه المبادرة «فرصة لا تعوض للمطالبة بصيغة عمل لا استثناء فيها» (أى لإدخال إسرائيل فى أى عملية لتحديد التسلح أو ضبطه أو التحقق منه). كما قد تكون فرصة لا تعوض لإبلاغ جميع القوى الأخرى فى المنطقة برسالة هادئة للغاية لكنها فعالة مفادها أنه حين يَدْلَهِمُّ الأمر فإن بيد مصر ــ وحدها ــ أن تُعمل قوتها ومكانتها وقدراتها الدولية فى موقف يخشون عواقبه». أرسلت تفاصيل هذه المبادرة فى برقية رسمية إلى وزارة الخارجية فى 6 إبريل 1990، ونصها طويل جدا وموجود بكامله فى الكتاب لمن أراد الاطلاع عليها.
الغزو العراقى للكويت
فى نهاية يوليو من سنة 1990م حضرت من نيويورك إلى مصر للمشاركة فى المؤتمر التاسع عشر لوزراء خارجية الدول الإسلامية فى القاهرة، الذى انعقد فى الفترة من 31 يوليو إلى 5 أغسطس 1990م. كانت الأجواء إيجابية فى هذا الاجتماع، وبينما نحن منهمكون فى إعداد مشروع البيان الختامى، جاءت الأنباء مع فجر يوم 2 أغسطس لتؤكد أن القوات العراقية قد دخلت الكويت بالفعل، فهرع وزراء خارجية الدول العربية الذين كانوا يشاركون فى المؤتمر الإسلامى ومعهم الأمين العام للجامعة العربية الشاذلى القليبى لعقد جلسة طارئة لوزراء الخارجية العرب بالقاهرة، علما بأن أمانة الجامعة كانت لاتزال فى تونس حتى تلك اللحظة.
وبالتنسيق بين الخارجية المصرية وأعضاء أمانة الجامعة العربية تم تجهيز قاعة كبيرة فى فندق «سميراميس إنتركونتيننتال» لاجتماع وزراء الخارجية العرب فى الساعة العاشرة من صباح نفس اليوم، وقد حضرته ــ باعتبارى رئيس الوفد المصرى لدى الأمم المتحدة ــ ضمن الوفد المصرى الذى حضر هذا الاجتماع برئاسة وزير خارجيتنا الدكتور عصمت عبدالمجيد.
انعقد الاجتماع الصباحى، ولم يكن وزير الخارجية العراقى مشاركا فيه، بل كان يمثله أحد وكلاء الوزارة، ومعه سفير العراق لدى القاهرة، نبيل نجم التكريتى، ولم تصلهما تعليمات من بغداد؛ لأنهما جاءا إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية، بتعليمات محددة. أمّا هذا الاجتماع الطارئ فلا تعليمات لديهما بخصوصه. انتهت الجلسة الصباحية دون أى نتيجة تذكر؛ لأن الأمر كله كان مفاجئا لهؤلاء الوزراء، ولم تصلهم تعليمات محددة من الرؤساء والملوك، الذين لم يكونوا بدورهم قد استوعبوا ما جرى فى ساعات الصباح الباكرة، وانهمكوا فى اتصالات سياسية فيما بينهم ومع صدام حسين.
لكن حدث أن تقدم ممثل الكويت الدكتور عبدالرحمن العوضى بمشروع قرار للاجتماع يدين العدوان العراقى على دولة الكويت، ويرفض أى آثار مترتبة عليه، ولا يعترف بتبعاته، ويطالب العراق بالانسحاب الفورى، غير المشروط، للقوات العراقية إلى المواقع التى كانت فيها قبْل الأول من أغسطس 1990. ويرفع الأمر إلى الملوك والرؤساء العرب، للنظر فى عقد اجتماع قمة طارئ، لمناقشة العدوان، وبحث سُبُل التوصل إلى حل عادل لهذه الأزمة. ويرفض رفضا قاطعا أى تدخّل، أو محاولة تدخّل أجنبى، فى الشئون العربية. وكان العوضى ــ والحق يقال ــ مدافعا صلبا عن موقف بلاده وفى مهاجمة العدوان عليها وعلى سيادتها.
كان العوضى قادرا على مجابهة الحجج العراقية وتفنيدها، وهو ما أثار إعجاب معظم الحاضرين على الرغم من المأساة وجو الكآبة الذى كان يحيط بالاجتماع، والشعور بالتحسب للنتائج الوخيمة المترتبة على هذه التطورات.. وقد أعجبت شخصيا بأداء العوضى.
بعد ذلك قرر العراق إرسال وفد على مستوى عال، برئاسة الدكتور سعدون حمادى بطائرة خاصة ليمثل العراق فى الاجتماع الوزارى العربى، وقد لحق هذا الوفد بالجلسة المسائية. قبل بدء هذه الجلسة طلب حمادى عقد لقاء خاص بالدكتور عصمت عبدالمجيد، وقال الوزير العراقى لوزير خارجية مصر: إن شمسا جديدة ستشرق على الخليج ومن مصلحة مصر عدم تقديم أو تبنى مشروع القرار (الكويتى)، لكنه رد عليه بأن مصر لا تقبل مثل هذا الكلام، وعلى العراق أن يتراجع ويسارع إلى الانسحاب.
بعد شد وجذب وعدم حدوث إجماع صدر قرار مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، رقم 5036، المؤرخ فى 2 أغسطس 1990م، والصادر فى 3 أغسطس 1990م، فى شأن إدانة الغزو العراقى للكويت بالأغلبية البسيطة، والذى أدان الغزو وطالب العراق بالانسحاب غير المشروط، كما ورد فى مشروع القرار الكويتى.
وهنا بدأ التصدع والانقسام يصيب النظام العربى بفعل غزو العراق للكويت، بعد أن انقسم العالم العربى ما بين من أيد مغامرة صدام حسين لأسباب عدة منها أنهم صدقوا أن حصة من ثروات الكويت سوف تأتى إليهم، ومنهم من حلل الموقف بأن صدام ما كان ليقدم على ذلك إلا بعد تنسيق أو ضوء أخضر أو أصفر من الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ ومن ثم لا منطق فى الوقوف ضد صدام. باختصار منهم من خاف من صدام وخشى سطوته أو انتقامه، إلا أن دول الخليج برمتها ومصر وسوريا وبعض دول المغرب العربى كانوا معارضين لهذا الغزو ومدافعين عن حق الأشقاء الكويتيين، الذين تم الاعتداء عليهم.
بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية العرب صدرت الأوامر من الرئيس مبارك إلى عصمت عبدالمجيد بأن يبقى عمرو موسى فى القاهرة؛ لأن الأحداث تتطور بشكل سريع ومتلاحق وتحتاج إلى وجوده معنا. هذا ما ذكره لى أحد مساعدى الرئيس المقربين، إلا أن تطورات الوضع فى الأمم المتحدة واحتمالات انعقاد مجلس الأمن أو الجمعية العامة عجلت بعودتى إلى نيويورك.
فى 8 أغسطس، قرر الرئيس أن يوجِّه حديثا إلى الأمّة العربية فى مؤتمر صحفى عالمى، بدأ فى الساعة الثالثة بعد ظهر ذلك اليوم، وتحدث فيه مبارك بإسهاب عن الأزمة والمساعى المصرية لحلها، وأنهى مبارك حديثه بالدعوة لعقد قمة عربية طارئة بالقاهرة فى غضون 24 ساعة، كنا قد بدأنا الإعداد لها بالفعل بالتشاور والتنسيق مع عدد من الدول العربية.
استدعيت من رئاسة الجمهورية للعمل مع الرئيس مباشرة، خلال هذه القمة بالتنسيق مع أسامه الباز مستشاره السياسى، وبالفعل حجزت الرئاسة لى غرفة فى فندق «ميريديان» القريب من الرئاسة، والذى انعقد فيه المؤتمر ويتواجد فيه الرئيس. وعلى الرغم من مشاركتى زملائى فى الخارجية الإعداد لهذا المؤتمر فإن استدعاء الرئاسة المباشر لى تسبب فى نوع من علامات الاستفهام بالنسبة لدورى. لاحظت أن فريق الخارجية لم يتعامل معى بنفس حماسة وترحيب فريق الرئاسة، فيما عدا أحمد أبوالغيط الذى ظل على تواصل معى، ربما كى يعرف الأخبار.
عندما انعقدت القمة فى الموعد المحدد كان لمصر وفدان: الأول هو وفد رئيس القمة وهو الرئيس مبارك، ويجلس خلفه اثنان هما: أسامة الباز وأنا. والوفد الثانى ويترأسه وزير الخارجية الدكتور عصمت عبدالمجيد، وخلفه عدد من مساعديه فى وزارة الخارجية، وبطبيعة الحال كانت كل الخيوط فى يد مبارك، وكانت هذه هى المرة الأولى التى أعمل فيها بشكل مباشر معه؛ ذلك أن اجتماعاتنا ــ الرئيس وأسامة الباز وأنا ــ قد زادت خلال هذه الفترة للتشاور وتقدير المواقف، وكان عبدالمجيد منهمكا فى إعداد قرارات القمة، والحشد لموقف يدين العراق وينتصر للكويت.
سيطر حسنى مبارك بقوة على المؤتمر، خاصة فى الجلسة المسائية الختامية، حيث أعطى الكلمة لرئيس الوفد العراقى، طه ياسين رمضان، ثم لرئيس الوفد الكويتى، ولى العهد الشيخ سعد العبدالله الصباح. ثم فتح الباب لمناقشة عامة، حول الأزمة، تلاها بحث مشروع القرار. ساد الهرج والمرج القاعة، والكل يريد الحديث، وهذا مؤيد وذاك معارض، فتدخّل مبارك بمنتهى الحزم باعتباره رئيس الجلسة، وقال: «إن لدينا مشروع قرار، وزّعناه، فى الصباح، وسوف أطرحه، الآن، للتصويت». فارتفعت أصوات، تناشده تأجيل طرح القرار للتصويت؛ لأن المناقشة لم تستوفِ حقها، بعدُ، والموضوع فيه خطر والظروف أشد خطرا. وعلق الرئيس مبارك، بأنه لا يسمع مناقشة جادّة، وإنما يسمع مهاترات، وأن قراره، كرئيس للجلسة، هو طرح الموضوع للتصويت. وطلب من الموافقين على مشروع القرار، أن يرفعوا أيديهم. وعدّ الرئيس مبارك الأيدى المرفوعة أمامه، وقال: «حداشر (أحد عشر) (غير مصر) أغلبية موافقة».
وهنا أود للتاريخ أن أقول إنه لولا الحركة المفاجئة والمباغته التى أقدم عليها الرئيس مبارك بطرح القرار وسط الفوضى السائدة، ثم قيامه هو نفسه بعد الأصوات الموافقة والمعارضة، ثم إعلان النتيجة
ورفع الجلسة، ما كان القرار قد صدر، ولنَظَّم أنصار الغزو العراقى أنفسهم ومنعوا صدور القرار.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف