«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «3»: كنت رأس حربة مصر فى الحرب الدبلوماسية ضد «جبهة الرفض»
خالد أبو بكر:
نشر فى : الثلاثاء 12 سبتمبر 2017 - 10:14 م | آخر تحديث : الثلاثاء 12 سبتمبر 2017 - 11:35 م
- الخارجية المصرية واجهت ببسالة محاولات العراق وليبيا وسوريا طرد مصر من المنظمات الدولية بعد كامب ديفيد
- صرخت فى وجه رئيس اللجنة التحضيرية فى المؤتمر الوزارى لعدم الانحياز فأجهضت قرارًا بطرد مصر من الحركة
- تعمدت القهقهة مع مندوب فلسطين علنًا فكسرت مساعيه مع جبهة الرفض لتطويق وعزل مصر بعد اتفاقيات السلام
- نجحت فى الحصول لمصر على «نقطة نظام» من كاسترو فى افتتاح المؤتمر الخامس لعدم الانحياز للرد على الهجوم العراقى والسورى الكاسح
- السادات رجل جريء يقال له فى العامية «باجس» أى لا يهتز بسهولة لكنه كان فرعونًا مثل عبدالناصر
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كِتَابِيَهْ» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».
اضغط هنا لقراءة الحلقة الأولى
اضغط هنا لقراءة الحلقة الثانية
وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» (الحاقة ــ 19) ــ يكشف موسى عن تفاصيل الحرب الدبلوماسية التى خاضتها مصر ضد محاولات «جبهة الرفض» التى تشكلت من عدد من الدول العربية؛ لعزل مصر دوليا بطردها من المنظمات الإقليمية والدولية عقابا لها على توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، والتى استعرضها فى الكتاب من وثائقها الرسمية التى لا تسمح المساحة المتاحة هنا لعرضها.
ونشدد على أن ما يرد فى هذه الحلقة ــ وكذلك بقية الحلقات ــ وإن جاء على لسان السيد عمرو موسى بصيغة المتكلم إلا أنه فى الحقيقة اختزال شديد جدا للنص الأصلى بتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد.
بعد إعلان السادات فى 9 نوفمبر 1977م أمام مجلس الشعب استعداده للتوجه إلى زيارة القدس، وإلقاء خطاب أمام الكينست الإسرائيلى لتحقيق السلام، شكلت ليبيا، وسوريا، والعراق، منظمة التحرير الفلسطينية وأيدتها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهو ما عرف باسم «جبهة الرفض» أو «جبهة الصمود والتصدى» بناء على دعوة الرئيس الليبى معمر القذافى. قرر أعضاء هذه الجبهة فى ديسمبر 1977م تجميد العلاقات مع مصر. واستطاع القذّافى ومعه سوريا تحويل الجبهة إلى كيان سياسى يهدف لملاحقة مصر وعزلها عن عالمها العربى. وتمكنت من أخذ موافقة أعضاء الجامعة العربية على قرار ينص على طرد مصر من الجامعة إذ استمرت على نهجها، ونقل مقرها من القاهرة إلى تونس.
بعد ذلك انعقدت القمة العربية فى بغداد سنة 1978م وهى القمة التى أرسلت بعثة للتحدث مع السادات وعرض تقديم 5 مليارات دولار مساعدات مالية لمصر بشرط تراجعه عن السلام، فرفض مقابلتهم كما رفض العرض؛ فعملت الجبهة على طرد مصر من العديد من المنظمات الدولية؛ فوقع على عاتقى باعتبارى مديرا للهيئات الدولية بوزارة الخارجية عبء كبير فى التصدى لهذه المحاولات.
المواجهة الأولى مع «جبهة الرفض» كانت فى مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامى العاشر فى فاس المغربية. وجهت المغرب الدعوة لمصر لحضور هذا المؤتمر الذى كان مقررا افتتاحه فى 8 مايو 1979م. وعندما شرعت القاهرة، فى التحضير لسفر وفدها، طلبت الحكومة المغربية من مصر التريث، حتى يصل مبعوث من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى لمناقشة الموضوع مع الحكومة المصرية، وهو ما استجابت له القاهرة.
كنت عضوا فى الوفد المصرى الذى تقرر سفره إلى فاس برئاسة المرحوم حسن التهامى، مستشار رئيس الجمهورية. كان التهامى يتعامل دون نظام واضح يليق برئيس لوفد مصر فى مهمة صعبة قد تصل لمعركة دبلوماسية. كان فى أثناء التحضير للقمة يعطى مواعيده دون تحديد ساعة معينة، كأن يقول «نجتمع بعد العشاء أو قبل المغرب...»، وهو ما جعلنى أستشعر بعض الاستغراب، بل بعض الطرافة وكذلك بعض التخوف من تصرفات التهامى، وكانت الأدبيات السياسية مليئة بالإشارة إلى تصرفاته الغريبة.
جاءت ساعة السفر، وبينما نحن فى صالة كبار الزوار بمطار القاهرة تلقى التهامى مكالمة هاتفية تفيد بأن «العرب لن يتركوكم وشأنكم فى المؤتمر.. وقد يتعرض أعضاء الوفد للاعتداء». بعدها بدأ التهامى يشيع بين أعضاء الوفد أن الأمور ستكون صعبة علينا، وأن مسألة طردنا من «المؤتمر الإسلامى» ماضية إلى النهاية، وبالتالى لابد من عدم السفر قبل أن نجتمع بمبعوث المنظمة الذى نصح ملك المغرب بالاستماع إليه قبل السفر. كان رد الكثير من أعضاء الوفد على التهامى بعبارة «اللى تشوفه»؛ لكننى قلت له: «يا حسن بك.. يجب أن نسافر ونحضر القمة.. ذهابنا سيمكننا من تغيير الموقف، وربما نتمكن من استصدار قرار جيد أو منع قرار سيئ، أما الغياب فسيكون ضارا بمصلحة مصر».
لكن الذى حدث أنه فى 6 مايو 1979، وصل إلى القاهرة السفير يوسف سيلا، مبعوثا من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى. بغرض إقناع الحكومة المصرية بعدم حضور المؤتمر، لتفادى حدوث مجابهة مع بعض الدول العربية، التى قطعت علاقاتها مع مصر، موضحا أن وفود بعض الدول ستنسحب من المؤتمر إذا حضر الوفد المصرى. أسفرت هذه التطورات عن غياب مصر، وانتهى المؤتمر بتعليق عضويتنا فى المنظمة.
• موقعة سريلانكا
نجاح «جبهة الرفض» فى تجميد عضوية مصر فى الجامعة العربية و«منظمة المؤتمر الإسلامى» ــ دون أن تتاح للدبلوماسية المصرية فرصة مواجهة هذه الجبهة وجها لوجه ــ شجعها على المضى قدما فى محاولة طرد مصر من بقية المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما حاولنا التصدى له بمنتهى القوة والحزم والبراعة الدبلوماسية، وقد بدأنا هذا النهج اعتبارا من الاجتماع الوزارى لمكتب التنسيق الدائم لدول عدم الانحياز الذى انعقد فى كولومبو بسريلانكا فى يونيو 1979م، وهو اجتماع تحضيرى للقمة التى كانت ستتسلمها كوبا وتنعقد فى هافانا خلال شهر سبتمبر من نفس العام.
والحقيقة أن وزارة الخارجية وفى القلب منها إدارة الهيئات الدولية التى كنت أترأسها قد أخذت على عاتقها الحيلولة دون نجاح «جبهة الرفض» فى عزل مصر بإخراجها أو تجميد عضويتها فى المنظمات الدولية، وللتاريخ أقول إننا اعتبرنا أن هناك حربا دبلوماسية تشن على مصر، ويجب التصدى لها بشجاعة وبسالة.
وصلنا كولومبو صباح 3 يونيو، وشهد هذا اليوم أكثر من اجتماع لتنظيم التحرك أمام مساعى الجبهة لوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، انطلاقا من المعلومات التى وفرتها السفارة المصرية فى سريلانكا فى هذا الخصوص. كانت خلاصة هذه الاجتماعات تتمثل فى الاتفاق على اتباع استراتيجية هجومية ضد «أهل الرفض»، بدلا من التخندق فى مواقع دفاعية.
كانت اللجنة التحضيرية فى هذا الاجتماع الوزارى تضم دهاقنة (الدهقين هو الأكثر مهارة) الصياغات فى دول الحركة، الذين لم يكن من الممكن أن يمر من بين أصابعهم شىء أبدا دون معالجة شافية وافية. كنت أعرف هؤلاء «الدهاقنة» جميعا. كما عملت معهم، لكنهم أصبحوا فى الجانب الآخر، وأصبحت وحدى ضدهم فى هذه اللجنة، حيث كانوا يحاكمون مصر واتفاقية السلام مع إسرائيل.
كان رئيس الجلسة سفيرا من دولة جويانا (جزء من منطقة الكاريبى) وكان حديث الانضمام إلى هذه الحلبة، وبالتالى لم يكن من «المتودكين»، أو لم يكن من «الدهاقنة». تيقنت أنه سيكون مهزوزا؛ فبحثت عن نقاط الضعف التى يمكن أن أستفيد منها فى التراشق الذى أعرف أنه قادم لا محالة.
بدأت مناقشة البند الخاص بالشرق الأوسط، والذى يتضمن مشروع قرار مقدما من دول «الرفض» بوقف عضوية مصر فى «عدم الانحياز»، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية. كان هجوم بعض الوفود العربية، لاسيما أعضاء «الرفض» شديدا ضدنا، لكن نبرة الدول الأخرى كانت أقل فى حدتها بنسبة تصل إلى 50%؛ فالدول العربية لديها إصرار كبير على طردنا من الحركة، أما الدول الإفريقية والآسيوية فغير متحمسة، كان حديثهم فى الجلسة يصل إلى حد لوم مصر على توقيع اتفاقية السلام لوما شديدا، لكنه لا يصل إلى حد المطالبة بطردها من الحركة.
تابع رئيس الجلسة المعركة حامية الوطيس مع ممثلى «الرفض»، وقال: أرى أن هناك «consensus» (توافق آراء) على طرد مصر من الحركة، وإدانة اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وبالتالى سيرفع القرار إلى اللجنة الوزارية، التى سترفعه بدورها إلى القمة المقبلة فى كوبا.
وبينما يرفع رئيس الجلسة يده بالمطرقة لإعلان «توافق الآراء» صرخت فيه بأعلى صوتى: قف «stop»، فتوقف الرجل و«كش» وأنزل يده، ونظر لى، ولم يعلن اتخاذ القرار. فى هذه اللحظة دخل مندوب الهند على الخط، وقال له: سيادة الرئيس أرى أنك متعجل فى إعلان «توافق الآراء»، وطلب «نقطة نظام»؛ فأعفانى من القيام بمناورة أو مماطلة سياسية «filibuster» كنت أستعد للقيام بها، عبر إلقاء خطبة طويلة جدا لإضاعة وقت الجلسة، وهو ما جعلنى أحتفظ بهذا الإجراء لوقت لاحق.
بدأ بعض العرب الذين كانوا مائلين لصف مصر مثل سلطنة عمان والصومال فى التدخل. قالوا لرئيس الجلسة: ليس من الطبيعى أن تقول إن هناك (توافق آراء) على طرد مصر، ونحن لم نأخذ فرصتنا فى الحديث والتعبير عن مواقف بلادنا من هذا الأمر. عندها أخذ رئيس الجلسة فى اعتباره أن هناك وفودا لدول لا تتحدث بذات اللهجة المتشددة ضد مصر، وأنها لم تعبر بعد عن مواقف بلادها، وأنه من المبكر اعتبار أن هناك «توافق آراء» بشأن هذا البند الخاص بالشرق الأوسط.
جاءنى فى اليوم التالى رئيس الجلسة، وقال لى: سيد موسى سأقول فى تقريرى الذى سيرفع للوزراء: «كان هناك رأى أغلبية يؤيد طرد مصر من حركة عدم الانحياز، وفى المقابل كان هناك رأى يعتبر أقلية ضد هذا القرار». كان هذا كافيا جدا بالنسبة لى لنسف «توافق الآراء» حول مشروع قرار بطرد مصر من «عدم» الانحياز فى مهده باللجنة التحضيرية.
يمكننى القول: إن صرختى هذه فى رئيس الجلسة عندما رفع مطرقته لإعلان «توافق الآراء» على طرد مصر ثم عدم طرقها كانت «مفصلية» فى إجهاض هذا القرار إلى الأبد من المنبع؛ لأن مرور هذا القرار من اللجنة التحضيرية ورفعه إلى اللجنة السياسية كان سيذهب به بعيدا كتوصية رسمية إلى قمة كوبا.
• تجدد الحرب فى هافانا
خلال الفترة من 3 ــ 9 سبتمبر 1979م انعقد المؤتمر السادس لقمة حركة عدم الانحياز فى هافانا عاصمة كوبا، بحضور عدد كبير من الرؤساء على رأسهم الرئيس الكوبى فيدل كاسترو، ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو، والرئيس السورى حافظ الأسد، والرئيس العراقى صدام حسين، ورؤساء كثر من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
أعادت «جبهة الرفض» طرح موضوع طرد مصر من الحركة، وتجددت الحرب الدبلوماسية فى أروقة المؤتمر. كان وزير الدولة للشئون الخارجية، بطرس غالى، يجلس على مستوى القمة، وعصمت عبدالمجيد يحضر الاجتماعات الوزارية، أما اللجنة السياسية على مستوى السفراء فيحضرها عمرو موسى ومعه أحمد صدقى، ليدعمه باتصالاته الإفريقية.
كان الهجوم عنيفا على مصر فى اللجنة السياسية، التى كان يترأسها السفير عصمت كتانى وكيل وزارة الخارجية العراقية، وكان قبل ذلك مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة وهو من الأكراد العراقيين وكان شخصية جيدة جدا وعاقلة بل وراقية، وكان لى معه بالطبع سابق معرفة.
فى بداية الجلسة قلت لكتانى ــ الذى تقود بلاده «جبهة الرفض» ــ أريد التحدث فى البداية لمدة 5 دقائق، وذلك فى البند الأول الخاص بمصر ووضعها (وذلك حتى يكتمل حضور الدول الداعمة لمصر والتى تم الاتفاق معها على موقف واضح ضد طرد مصر من الحركة)، فرد على الرجل باسما بقوله: «charity begins at home»، وهو ما معناه بالمثل المصرى الدارج «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع». كان كتانى متمرسا وكان يتوقع ما سأقوم به، ومن هنا لجأت إلى تكتيك الـ«filibuster» أى «المماطلة الخطابية»، وتضييع وقت الجلسات فى المناكفات والمناقشات، وتمكنت من كسر «توافق الآراء» داخل هذه اللجنة على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، بعد أن تكتل معنا نحو 17 دولة، فى مقابل 20 دولة أخرى ضدنا. وكان تقرير اللجنة الذى قدمه رئيسها إلى القمة يماثل ما صدر عن المجلس الوزارى فى سريلانكا بأن الأغلبية تؤيد تعليق عضوية مصر فى الحركة ولكن هناك أقلية معارضة، وهذا كاف لنسف توافق الآراء.
الوفدان السورى والفلسطينى كانا فى غاية القسوة ضد مصر فى هذا المؤتمر، وراح ممثل فلسطين يؤلب الوفود ضدنا، ويشرح لهم ما يزعمه من تخلى مصر عن القضية الفلسطينية. كان بارعا فى هذا الأمر. لكننى أذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته ذهبت إليه. وقفت أمامه وكان صديقى، وسلمت عليه ورحبت به، فرد السلام وقال لى: «لا تؤاخذنا يا أخ عمرو.. الموضوع ليس شخصيا.. وهى السياسة كما تعرفها».. فتعمدت أن أقهقه بصوت عال فى جلسة هادئة للغاية، فنظرالكل إلينا، وتم تصوير هذه اللقطة وأنا أضحك مع ممثل فلسطين، الذى خسر كثيرا جدا من مصداقيته بهذه اللقطة، ودار همس ضده بين الوفود، وكيف أنه يشتم مصر ثم يضحك مع عمرو موسى فى الجلسة! وربما يسهران معا. وانتهت المناقشات التاريخية فى اللجنة السياسية الوزارية بالفعل بعدم إصدار توصية متعلقة بوضع مصر، ولكن بتقرير أن الأغلبية لصالح الطرد والأقلية غير موافقة.
• موقف تاريخى لكوبا
وصلنا جلسة افتتاح القمة على مستوى رؤساء الوفود، والمذاعة على مختلف إذاعات وتلفزيونات العالم. شن حافظ الأسد وصدام حسين وعدد من العرب وبعض الدول الأخرى هجوما كاسحا ضد مصر. كان رئيس الجلسة هو الرئيس الكوبى كاسترو، وكان بطرس غالى يترأس وفد مصر وكان عصمت عبدالمجيد وأحمد صدقى وأنا وآخرون خلفه. فى أثناء الهجوم علينا سألنى غالى: متى سنتحدث؟ قلت: أمامنا وقت طويل جدا.. ودورنا ليس فى الجلسة الافتتاحية. قال: وما العمل إذن؟
قلت: دعنى أجرى محاولة لاقتناص دقائق فى هذه الجلسة الافتتاحية التى تسلط عليها الأضواء. توجهت إلى سكرتير عام المؤتمر، وهو المندوب الدائم لكوبا لدى الأمم المتحدة آنذاك «ريكاردو آلاركون»، وأصبح بعد ذلك رئيسا لمجلس النواب فى بلاده، وكانت تربطنى به علاقة طيبة..
صعدت إلى المسرح الذى يجلس عليه كاسترو وعلى يمينه وزير خارجية وعلى يساره آلاركون.. كانت القاعة صامته ورزينة فهى مليئة بالرؤساء. همست فى أذن آلاركون: أنت ترى الهجوم الكاسح على مصر.. نريد أن نتحدث فى الجلسة الافتتاحية. رد دون تفكير: «very difficult» صعب جدا.
قلت: اسمعنى.. أنتم كوبا.. ونحن مصر أقدم دولة عربية لكم علاقات معها. لا نريد منكم أكثر من حق الرد فى موعد مناسب. قال: ماذا تقصد بموعد مناسب؟ قلت: فى هذه الجلسة، وبناء على نقطة نظام إذا أردتم. قال: سأحاول.. وسأرسل لك رسالة بالرد.
عدت لمقعدى. قلت لغالى احتمالات منحنا الكلمة موجودة، ولكنها لا تزيد على 50%. جهز نفسك للرد متى يجيء، فاستعد الرجل. انتهت قائمة المقرر لهم الحديث فى الجلسة الافتتاحية، وإذا بكاسترو بصوته ذى الذبذبات الخاصة يقول: أدعو رئيس الوفد المصرى لـ«نقطة نظام»، وهنا قام غالى بالرد على من هاجمونا بلغته الفرنسية الرشيقة فأفحمهم.
فى المساء كان الوفد يجتمع على العشاء للحديث عما سنفعله فى الغد، وأذكر فى هذا الوقت أن محمد كريم العمرانى، وهو شخصية مغربية كانت مقربة من العاهل المغربى الراحل، الملك الحسن الثانى، وشغل منصب رئيس الوزراء وكان ضمن وفد بلاده فى القمة ــ جاء لمقابلة بطرس غالى مرتديا «شورت وبرنيطة ونظارة سوداء فى المساء» حتى لا يعرفه أحد، وعمل الشقيق المغربى على تقليل التوتر فى حديثه مع بطرس، وتأكدنا منه بأنه لن يكون جزءا من أى «أوركسترا» ستعزف ضدنا.
الواقع أننا ــ فى هذا الوقت ــ كنا قد كسبنا المعركة فى اللجنة السياسية، التى انتهت دون توافق على قرار بطرد مصر من عدم الانحياز، كما كسبنا معركة إعلامية مهمة بالرد على الهجوم علينا فى الجلسة الافتتاحية المذاعة وسنلعب بنفس الطريقة فى القمة حتى لو تحايلوا بأى شكل من الأشكال.
فى اليوم التالى تحايلوا فعلا وطلبوا انعقاد مكتب المجلس الذى يضم العراق وسوريا وليبيا، وقالوا: لو خرجنا من الاجتماع ومصر باقية فى الحركة سنخرج منها، ولابد من صدور قرار بطردها. وقد أطلعنى «آلاركون» على ما يدفع العراق وسوريا فى اتجاهه، قلت له: استخدم أعنف لغة تريدها ضدنا ولكن بدون قرار، وأبلغت بطرس بكل ذلك فوافق عليه.
عاد «آلاركون» إلىّ ثانية وقال: اللهجة العنيفة ليست كافية. قلت له: بإمكانك تحويل الأمر حتى يهدءوا إلى مجموعة عدم الانحياز الوزارية فى الأمم المتحدة لمتابعة هذا الموقف واتخاذ توصية، وإذا كانت الأمور صعبة فحدد موعد الاجتماع بالضبط، ولكن لا قرار من هافانا أو توصية وإنما تقرير كالمعتاد يحوى القرارات ويلخص المناقشات، خاصة أن وزراء الخارجية سيكونون هناك بالفعل بعد أيام لحضور اجتماعات الجمعية العامة، وهو ما حدث بالفعل، وتحول الأمر بالفعل إلى الأمم المتحدة، وهناك تصدى لهم مندوب مصر الدائم عصمت عبدالمجيد، ولم يستطع أحد إخراج مصر من حركة عدم الانحياز.. وانتهى الأمر.
تحدث معى أحد وزراء الخارجية فى أمريكا اللاتينية فيما بعد ذلك بسنوات، بأن مندوب كوبا فى اجتماعات مجموعة عدم الانحياز من الدول اللاتينية خلال قمة هافانا ذكر لهم أن مصر لن تطرد من الحركة فى هافانا.
• اغتيال الرئيس السادات
فى سبتمبر سنة 1981م انتقلت للعمل فى نيويورك نائبا للمندوب الدائم لمصر فى الأمم المتحدة، عصمت عبدالمجيد. وفى فجر 6 أكتوبر بتوقيت نيويورك اتصل بى صحفى أمريكى قائلا:«حدثت مذبحة فى القاهرة فى عرض عسكرى. جرح أناس كثيرون ومنهم الرئيس السادات». بعده بقليل اتصل بى صحفى آخر وكرر نفس الكلام، ثم اتصل بى صحفى مصرى وقال لى: يبدو أن الرئيس السادات قد قتل.
كنت أنا من يترأس الوفد المصرى فى الأمم المتحدة لأن عبدالمجيد كان يؤدى مناسك الحج. اتصلت بوزارة الخارجية فى السابعة صباحا بتوقيت نيويورك (نحو الثانية بعد الظهر فى القاهرة) لأسأل عما حدث فى مصر، فوجدت تحفظا فى الرد؛ فطلبت مدير مكتب الوزير، وقلت له: أنا أسأل عن مصير الرئيس السادات ولا أحد يجيبنى، وأنا عندما أسأل عن هذا الأمر، فذلك ليس مرده الفضول الشخصى من جانبى، ولكن لأنه فى حالة ما إذا كان الرئيس قد قتل فعلا، فلابد أن نرتب له حفل تأبين يليق به فى الأمم المتحدة، وإذا بدأنا فى هذه الإجراءات والترتيبات مبكرا فسوف نستطيع عقد جلسة خاصة للجمعية العامة اليوم، ندعو فيها وفود الدول لتأبين الرئيس؛ ولذلك أرجو أن أحاط علما بالأمر فى ظرف ساعة على الأكثر.
كلمت الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، فوجدته على علم بالتطورات التى وقعت فى القاهرة، لكن لا علم له بمصير الرئيس السادات. قلت له: يبدو أن الأمر خطير واحتمالات وفاة الرئيس السادات تبدو قائمة، وأطلب من الآن عقد جلسة خاصة للجمعية العامة لتأبينه، فوافق الرجل، وقال لى: سأبلغ مساعدى ليستعدوا لذلك، وسأكون على اتصال بك.
فى هذه اللحظة كلمنى أحد السفراء من القاهرة، قال لى: أنا أتحدث إليك من مكتب الوزير وأود أن أخطرك بأن الرئيس قد مات بالفعل، لكننا لا نريد إعلان ذلك الآن. قلت له: أنتم لا تريدون إعلان مقتل الرئيس الآن؟.. لكننى أود أن أبلغك بأن هذا الأمر أصبح شائعة/ معلومة تدور فى أركان العالم الأربعة.
جلست أتابع التحضيرات لجلسة الجمعية العامة فى مكتبى بمقر البعثة قرابة الساعتين، توافد خلالها كثيرون لتقديم العزاء، كان على رأسهم: السيدة جاكلين كيندى، وعمدة نيويورك، وشخصيات أمريكية رفيعة، وعدد من أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب الأمريكيين الموجودين فى نيويورك بمناسبة دورة الجمعية العامة.
فى جلسة التأبين التى انعقدت فى الثالثة عصرا كانت المفاجأة بالنسبة لى هى أن مندوب إسرائيل طلب الكلمة. لم أشعر بالارتياح. كان بإمكانى ببعض المناكفات أن أمنع ممثل إسرائيل من التحدث، لكننى أردت أن تمر المسألة فى هدوء، وأردت للجلسة أن تمضى فى جو من المهابة التى تليق بالرحيل المفاجئ لرئيس مصر. بعد أن انتهى من كلمته جاء مندوب إسرائيل مهرولا فى اتجاهى والكل ينتظر ما سيحدث، لكننى وقفت متوقعا أن يظهر عواطفه الجياشة والواضحة بعناقى. طلبت من أحد الزملاء أن يلتقى بالسفير الإسرائيلى قبل أن يصل إلىّ بمترين أو ثلاثة ويسلم عليه ويعطله ولو لثوان تتراجع خلالها حماسته، وهو بالفعل ما تم، ثم مددت يدى بصلابة وسلمت عليه بطريقة رسمية. شعر الرجل بأننى غير مستعد لأن أذهب أبعد من ذلك، فشد على يدى وتمتم ببعض عبارات العزاء وعاد إلى مكانه.
السادات كان يعتبر نفسه أكبر من الدبلوماسية المصرية كلها، ومن المواقف التى تدل على ذلك ما رواه لى بطرس غالى عندما ذهب إليه فى استراحة الرئاسة على شط قناة السويس فى الإسماعيلية بعد أن نجحنا فى دحر محاولات «جبهة الرفض» من طردنا من حركة عدم الانحياز، أو تعليق عضوية مصر فيها.
قالى لى غالى: لقد ذهبت للرئيس السادات فى استراحته بالإسماعيلية والسفن تمر من أمامه فى القناة. كان يجلس على كرسى مثل كراسى «البلاجات»، وهو ممسك بغليونه الشهير. شرحت له كيف تصدينا لجبهة الرفض فى كوبا وأنا فخور بما حققناه، وما كان منه إلا أن أمسك بحفنة من التراب وقال لى: «عارف يا بطرس كل الكلام اللى أنت قلته ده واللى قالوه ضدنا فى كوبا ميساويش حفنة التراب المصرى دى». وهو ما معناه: أن ما قمتم به أمر جيد، ولكن الأهم هو التراب الذى حررته بالحرب والسلام.
كان السادات رجلا جريئا يقال له فى العامية «باجس» أى لا يهتز بسهولة، لكنه كان فرعونا مثل عبدالناصر، ويستبد برأيه مهما حذره المحيطون منه. ويرى فى أطروحات القريبين منه «مجرد كلام يقولوه ويعيدوه».. أما رأيه فهو الأصوب.. باختصار كان عبدالناصر والسادات دكتاتورين لا يأبهان بالرأى الآخر.
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف