عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشر، صوت المؤذن يعلن قيام صلاة الجمعة التى رحلت من بعدها ملامح مصر ما قبل الثورة بلا رجعة، انقطعت الاتصالات، توقفت الهواتف عن العمل، امتلأت ساحات المصلين عن آخرها، أنفاس الترقب ونظرات التحدى لقوات الأمن المحيطة بالمساجد والميادين غلفت المشهد الذى انفجرت بعده سلسلة من أحداث تشابكت لرسم ثورة مصرية احتفظت لنفسها بملامح خاصة كان للمصريين فيها الكلمة العليا وبراءة الاختراع.
ملحمة كوبرى قصر النيل، دوى الرصاص الحى لأول مرة بين منعطفات الهروب وساحات الاشتباكات، مشهد اقتحام الميدان، وحرق أقسام الشرطة، ونهب مصر فى ساعات انشغال الثوار بكتابة تاريخ الثورة، مسيرات المصريين التى اجتمعت وتوحدت واختارت البقعة ذاتها دون الحاجة لاتفاقات مسبقة، وغيرها من مشاهد "جمعة الغضب" صاحبة الذكرى الأولى ومشهد النهاية فى عمر نظام رحل بثورة الخل والبصل.
"الغضب" أول لقب ليوم الجمعة ومن بعدها توالت الألقاب..
كانت أول جمعة تحصل على لقب؛ واختارت "الغضب" لقباً بين مئات الجمع التى توالت على مصر بألقاب مختلفة، كجمعة الكرامة وجمعة الرحيل وجمعة قندهار وجمعة كشف الحساب وجمعة التفويض وجمعة الإرهاب، وغيرها من الجُمع التى رفعت شعارات ومطالب مختلفة العامل المشترك بينهم هو اندلاع التظاهرات عقب صلاة الجمعة.
كان سبب اختيار الثوار ليوم الجمعة لإعلان غضبتهم فى 2011 كونه يوم عطلة رسمية، يسمح بخروج أعداد كبيرة من المتظاهرين يتجمعوا فى وقت واحد عقب انتهاء صلاة الجمعة ومن بعدها صار هذا اليوم قبلة الثوار بمختلف اتجاهاتهم منذ الحكم العسكرى فى الفترة الانتقالية مرورا بفترة حكم الإخوان وصولا للفترة الانتقالية الحالية عقب ثورة 30 يونيو.
"كوبرى قصر النيل" ملحمة مصرية لن ينساها التاريخ..
هتاف واحد لم يكن الاتفاق عليه معلناً، أصوات علت لرج كوبرى "قصر النيل" بمن فوقه من قوات احتشدت على المخارج تاركة للثوار حرية التقدم داخل فخ مدرعات الأمن المركزى، مسافة قصيرة فصلت بين الصفوف الأمامية وطلقات الرصاص الحى وقنابل الغاز التى ارتفعت أدخنتها لرسم لوحة تقفز إلى مخيلتك بمجرد ذكر يوم "جمعة الغضب"، وملحمة "كوبرى قصر النيل" على وجه التحديد، مشهد لمدرعات الأمن التى اخترقت صفوف المتظاهرين، وآخر لخراطيم المياه التى انهمرت على المصليين، ومشاهد أخرى تنوعت بين رصاص حى اخترق الأجساد عشوائياً، وأدخنة ارتفعت فوق الرؤوس ومدرعة دهست المتظاهرين، وغيرها من المشاهد التى رسمت ملحمة هى الأعظم فى تاريخ الثورة، وتركت لكوبرى قصر النيل مكاناً ثابتاً فى فصول تاريخ الثورة المصرية.
تليفونات الثورة "مرفوع مؤقتا من الخدمة"..
قبل ساعات من بداية المسيرات أعلنت شبكات الاتصالات عن ثورة خارج الخدمة، حادثة اختفاء شبكة الانترنت وغلق خطوط التليفونات التى تركت مصر بالكامل بدون وسيلة اتصال. أو طريقة قد تساعد على تجمع المتظاهرين اللذين تخلوا عن هواتفهم وقرروا النزول لتجمعهم الصدفة، ميدان التحرير كانت جهة التحرك، وهتافات "سقوط النظام" ومناهضة "الداخلية"، وإعلان نفاذ الصبر ونهاية عصر مبارك كانت هى علامات التحرك، ولم يدرك النظام وقتها أن قطع الاتصالات كان له السبب الأقوى فى تكوين صداقات للمرة الأولى بين من فرقت جماعاتهم قنابل الغاز وألقت بهم على جماعات أخرى، ولا فى الصور الإنسانية بين من فتحوا بيوتهم لاستقبال المتظاهرين، وغيرهم ممن وقفوا بسياراتهم لنجدة من لحق به الأمن، أو أعلن استعداده لنقل المصابين، وغيرها من مظاهر التلاحم الشعبى الذى كان لغياب الاتصال الفضل الأول فى رسمها يوم جمعة الغضب.
فزع استخدام الرصاص الحى لأول مرة.. لحد ما اتعودنا..
حالة من الفزع لم يعشها المتظاهرون قبل 28 يناير 2011، ورغم تكرارها فيما بعد لكن تبقى الرهبة الأولى حاضرة فى الأذهان، وتخفق قلوب ثوار يناير متى تذكروا ساعات ذلك اليوم الطويلة التى قضوها فى محاولات مستميتة للهروب من طلقات الرصاص الحى التى تحصد الأرواح من حولهم فى كل مكان.
طلقات القناصة حصدت فى ذلك اليوم أرواح ما يزيد عن ألف قتيل ناهيك عن ألاف من المصابين فاضت بهم المستشفيات، خرجوا من جمعة الغضب بطلقة فى القدم أو البطن أو فى العين التى غاب عنها حارسها فى تلك اللحظة لتفقد نورها إلى الأبد.
خرجوا المساجين بس برضه مش خايفين..
السادسة مساء بتوقيت الثورة، نجح الثوار فى اقتحام الميدان، وأعلن الجيش حظر التجول، ومازالت الاشتباكات الدامية بين الثوار وقوات الأمن تنهى آخر ما تبقى من وجودهم قبل ساعات من نزول قوات الجيش، جانب آخر لم يشعر به من رسم بطولات الميدان مساء جمعة الغضب، وانشغلت بنقله الفضائيات التى أطلقت صرخات استغاثة مفتعلة بثت الرعب فى قلوب من بقوا فى منازلهم، فتح ستة سجون مصرية وإطلاق المساجين، ووضع الشوارع المصرية على حافة المجهول، بين اختفاء قوات الداخلية، وانتشار المسجلين خطر فى الشوارع، كمشهد حصرى ليوم جمعة الغضب التى شهدت ساعات متواصلة من الفوضى والرعب الذى اختلفت ملامحه عن رعب الميدان، وترك للمصريين رعب آخر لم تتحدد معالمه سوى بعد خروج اللجان الشعبية للتصدى للمساجين اللذين أضافوا للشوارع المصرية منذ ذلك الوقت مظاهر البلطجة والفوضى والفراغ الأمنى وقوات اللجان الشعبية وغياب الأمن.
نهب مصر.. مشهد مظلم من مشاهد الثورة..
معارك دامية فى الميادين الكبرى، رصاصات رسمت قائمة بأسماء شهداء الثورة، حملات اعتقالات موسعة، فتح السجون وهروب الأمن من الشارع، ثم مشهد "نهب مصر" مساء جمعة الغضب، اليوم الذى تعرضت فيه معظم المحلات ومراكز التسوق المصرية للنهب عن آخرها، شوارع كاملة تم تكسير واجهاتها، ومحلات لم يترك فيها اللصوص ومن خرجوا من السجون مقعداً واحداً، محلات السيارات ومراكز التسوق، والمحلات الكبرى، الصيدليات، ومحلات الطعام، والملابس، والأجهزة الكهربائية، وحتى أجهزة الصرف الآلى، لم يبقى منها سوى سراب بدأت معالمه فى الظهور فى صباح يوم السبت 29 يناير، بعد انتهاء الليلة التى حملت لمصر مشاهد متناقضة من النصر والهزيمة.
فى كل جامع فى بلادى صوت الحرية بينادى..
"مصطفى محمود" فى المهندسين، "الفتح" فى رمسيس، "الاستقامة" فى الجيزة، "الخازندارة" فى شبرا و"عمر مكرم" فى ميدان التحرير و"السيدة زينب".. مساجد كان لها دور عظيم يوم 28 يناير؛ ففور انتهاء صلاة الجمعة ارتفعت الهتافات والمصلون لا يزالون داخل المساجد تطالب بسقوط النظام، وكانت خطب الجمعة فى ذلك اليوم حماسية تشجع على الخروج فى وجه الحاكم الظالم وتدعو المصلون لقول كلمة الحق فى وجه سلطان جائر.
تجمع المصلون أمام كل مسجد ورددوا الهتافات حتى انضم إليها المارة وكان الإخوة الأقباط ينتظرون خارج انتهاء الصلاة خارج المساجد لينضموا لجموع المتظاهرين وتبدأ المسيرات التى صبت جميعا فى ميدان التحرير ليتحول ذلك إلى تقليد يتكرر فى كل مظاهرة كبيرة تبدأ بصلاة الجمعة.
نصائح تونس للمتظاهرين فى مصر اسأل مجرب..
قبل ساعات من جمعة الغضب امتلأت صفحات التواصل الاجتماعى فيس بوك وتويتر ببعض النصائح الموجهة من المتظاهرين التونسيين إلى المصريين، وكان من أهمها "توافر النظارات الوقائية المضادة للغازات المسيلة للدموع ورذاذ الفلفل
والخل والبيبسى"، لمقاومة أعراض القنابل المسيلة للدموع من الاختناق وجفاف العين.. تجنب تعرق الجسم لأنه يستوعب الغازات المسيلة للدموع والاستحمام فى كل فرصة للتخلص من العرق.. مطافئ الحريق لفاعليتها الشديدة لحجب رؤية قوات حفظ النظام المرتدية للأقنعة والحاملة للدروع الشفافة.. المطارق كوسيلة لتكسير الأرصفة وصنع الحجارة لمحاولة تفرقة قوات الأمن.. سدادات للأذنين والتى يمكن الحصول عليها أو صنعها بشكل مرتجل بسهولة فى حال استخدمت القنابل أو الأسلحة الصوتية.
نزول الجيش إلى الشارع المصرى كلاكيت رابع مرة..
لم يكن نزول الجيش فى ثورة 25 يناير هو النزول الأول، فتعتبر ثورة 52 هى المشهد الأول لنزول الجيش وسط إقبال شعبى كبير، وجاءت المرة الثانية على النقيض تماما عندما استدعى الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" الجيش للسيطرة على الاحتجاجات التى ملأت البلاد عام 1977 بسبب ارتفاع الأسعار، بينما جاءت المرة الثالثة فى نفس السياق تقريبا عندما طلب "مبارك" من الجيش النزول للسيطرة على أحداث 1986 للسيطرة على أحداث الأمن المركزى، ليأتى نزول الجيش فى يوم 28 يناير بشكل مغاير للمرة الأولى التى ينحاز فيها للشعب ومطالبه، ليختفى من المشهد خلال فترة حكم الإخوان، ليعود مرة أخرى بعد عزل مرسى لتحقيق مطلب شعبى.
حرق أقسام الشرطة.. علامة من علامات الغضب..
حرق واختراق معظم أقسام الشرطة بمحافظات مصر المختلفة، كان أحد المشاهد التى فرضت نفسها على جمعة الغضب الأولى، والتى شهدت علامات مختلفة من الغضب الذى انصب على مقرات الداخلية وأقسام الشرطة، المختلفة، كحادثة هى الأولى من نوعها فى تاريخ مصر، التى تجرا بها الشعب على مواجهة الداخلية، والاصطدام معها بشكل مباشر، فكانت امتداد لموجة الغضب التى صاحبة الناس فى وقتها تجاه الداخلية التى اعتبرها البعض أنها العائق الرئيسى لتحقيق "الحرية" أو مطلب الثورة الأول، لتبدأ بعدها سلسلة أخرى من حرق الأقسام على خلفية أحداث أخرى كان آخرها حرق قسم شرطة "كرداسة" فى نهاية حكم الإخوان.
نشر فى اليوم السابع
فى
الثلاثاء، 28 يناير 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى