«يجب أن تفخروا بما أنجزتموه.. لقد استطعتم بشجاعة أن تسقطوا واحداً من أسوأ الأنظمة الديكتاتورية فى العالم. لقد أثبتم أن الفكرة أقوى من القمع وأن الحق أقوى من الرصاص».
هذه الكلمات لم أسمعها فى مصر وإنما قالتها لى سيدة إيطالية فى مهرجان مانتوفا، وهو من أكبر المهرجانات الأدبية فى إيطاليا، حيث ذهبت الأسبوع الماضى من أجل تقديم كتابى الجديد عن الثورة المصرية الذى صدر باللغة الإيطالية.. عقدت ندوات فى خمس مدن إيطالية هى: مانتوفا وأرونا وروما ونابولى وبارى، بالإضافة إلى لقاءات صحفية عديدة.. فى كل مكان كنت أحس بحماسة الإيطاليين للثورة المصرية، ثم فى وسط الرحلة جاءت الأنباء بالهجوم على السفارة الإسرائيلية فى القاهرة. وسائل الإعلام الإيطالية اليمينية (التى هى غير متحمسة أساساً للثورة) استغلت الفرصة وضخّمت من حجم الحدث لتقول إن مصر الثورة قد سقطت فى الفوضى الشاملة.
بعض الأسئلة الموجهة إلىّ بدأت تعكس قلق الإيطاليين مما يحدث فى مصر. أكدت لهم أن التوتر بين مصر وإسرائيل بدأ عندما اخترقت القوات الإسرائيلية الحدود المصرية وقتلت ستة عسكريين مصريين كانوا يؤدون واجبهم، وقلت إن الهجوم على السفارة مدبر من جهات تريد تشويه وجه الثورة، كما أكدت أن الحالة الأمنية فى مصر ليست منفلتة بالقدر الذى يؤدى إلى الفوضى وأن المناطق السياحية بالذات مؤمنة بالكامل بواسطة القوات المسلحة.. الغريب أن السفير المصرى فى روما لم يظهر ليشرح للرأى العام الإيطالى ما يحدث فى مصر. اندهشت من صمت السفير المصرى. أليس من واجبه أن يبادر بتوضيح الصورة الصحيحة عن مصر حتى لا يتم استغلال الشائعات فى التأثير على السياحة؟! على أن دهشتى زالت عندما قرأت بياناً يوزعه الشبان المصريون فى إيطاليا عرفت منه أن السفير الحالى كان من المقربين للسيد أحمد أبوالغيط لدرجة أنه أصر على تعيينه فى إيطاليا قبل أن يغادر منصبه كوزير للخارجية.. السفير المصرى فى روما إذن ينتمى إلى النظام الذى ثار ضده المصريون وأسقطوه، ولعله لا يجد فى نفسه الحماسة الكافية للدفاع عن الثورة. إن ما حدث فى إيطاليا مجرد انعكاس لما يحدث فى مصر.. لقد قام المصريون بواحدة من أعظم الثورات فى تاريخهم وبعد مرور ثمانية أشهر كاملة، باستثناء خلع مبارك ومحاكمته مع عصابته وإلغاء التوقيت الصيفى، فإن المواطن لا يشعر بعد الثورة بأى تغيير فى حياته اليومية، بل إن أحوال المصريين ازدادت سوءاً جراء انعدام الأمن وانتشار البلطجة والجرائم أمام أعين رجال الشرطة وارتفاع الأسعار بطريقة غير مسبوقة، أضف إلى ذلك الرؤية الضبابية للمستقبل والقرارات السياسية المرتبكة المتضاربة، ما السبب..؟ يجب أن نتذكر أن الثورة المصرية لم تتول السلطة، وبالتالى فإنها ليست مسؤولة عما يحدث، لكن المسؤول الوحيد المجلس العسكرى الذى يمارس مهام رئيس الجمهورية ومجلس الشعب جميعاً أثناء الفترة الانتقالية.. لقد ثار المصريون ضد حسنى مبارك وأسقطوه، وعندما نزل الجيش فى الشوارع احتفل الثوار بالنصر ثم انصرفوا إلى بيوتهم وهم مقتنعون بأن المجلس العسكرى سيكون وكيل الثورة الذى يحقق أهدافها بالكامل. هنا حدث سوء تفاهم حقيقى. لقد أخطأنا لأننا لم ندرك أن الدور الوطنى العظيم للجيش المصرى شىء والدور السياسى للمجلس العسكرى شىء آخر. إن المجلس العسكرى لم يكن يوماً ثورياً ولم يكن يوماً معارضاً لنظام مبارك لأنه ببساطة كان جزءاً منه.
لقد اعتبرت الثورة أن خلع حسنى مبارك خطوة عظيمة لكنها مجرد بداية لاستئصال نظام مبارك من جذوره بينما اعتبر المجلس العسكرى استقالة مبارك خطوة لا مفر من قبولها من أجل إنقاذ النظام القديم. إننا نقدر قرار المجلس العسكرى بعدم مساندة الديكتاتور ضد إرادة الشعب، لكن المجلس العسكرى لم يتخذ أى إجراءات حقيقية من أجل حماية الثورة.. إن السادة لواءات المجلس العسكرى حتى يوم واحد فقط قبل الثورة كانوا ينظرون إلى النظام القديم باعتباره كيان الدولة المصرية، وبالتالى فإنهم غير قادرين على أن يشاركوا فى هدم نظام كانوا متوائمين معه بل كانوا فى الواقع جزءاً منه.. بالرغم من العبارات الدبلوماسية الأنيقة فالواضح أن المجلس العسكرى لا يتفق مع الثورة ولا يوافق على رؤيتها للتغيير. إن محاكمة مبارك ورموز الفساد تمت بضغوط شعبية جارفة لم يستطع المجلس أن يقاومها، لكنه بعد ذلك رفض الاستجابة للتغيير بل إن أعضاء المجلس بدأوا شيئاً فشيئاً يضيقون بمطالب الثورة المشروعة حتى لجأ المجلس العسكرى إلى قمع المصريين بواسطة الشرطة العسكرية والمحاكمات العسكرية.
إن جرائم أفراد الشرطة العسكرية فى هتك أعراض المتظاهرات بدعوى الكشف على عذريتهن وتعذيب المتظاهرين وإهدار آدميتهم، بالإضافة إلى 12 ألف مصرى تمت إحالتهم إلى المحاكم العسكرية - كل هذه المآسى تقطع بأن رؤية المجلس العسكرى للثورة ليست أبداً كما ذكر فى بياناته الأولى بل إن بعض اللواءات فى المجلس العسكرى اتهموا مجموعة من أنبل الوطنيين المصريين بالعمالة وقد عجزوا بالطبع عن تقديم أى أدلة على اتهاماتهم الكاذبة.
إن تمسك المجلس العسكرى بالنظام القديم هو السبب الحقيقى فى كل المشكلات التى نعانى منها: بدلا من كتابة دستور جديد اكتفى المجلس العسكرى بتعديل بضع مواد فى الدستور القديم ثم أجرى الاستفتاء على التعديلات ولم يلبث أن انقلب على نتيجة الاستفتاء وأعلن دستوراً مؤقتاً من 63 مادة، وهكذا فرض على المصريين شكل النظام السياسى القادم دون أن يستشيرهم.. وقد أدت هذه العشوائية الدستورية إلى تشتت وانقسامات بين القوى الوطنية لم تكن لتحدث لو أن المجلس العسكرى قام بدوره كوكيل للثورة فى تحقيق أهدافها بدلا من أن يفرض على المصريين إرادته وتوجهاته. لقد أصر المجلس العسكرى على استبقاء نظام مبارك كاملاً بكل عناصره: القضاة الذين أشرفوا على تزوير الانتخابات، والنائب العام الذى طالما اضطر إلى مواءمات سياسية فى عهد مبارك، وقيادات جهاز الشرطة الذين ارتكبوا جرائم فى حق الشعب المصرى لم يحاسبهم أحد عليها.
القناصة الذين قتلوا مئات المصريين لم يفعل المجلس شيئاً للكشف عن شخصياتهم ومحاكمتهم، حتى جهاز أمن الدولة الذى كانت مهمته الأساسية تعذيب المصريين وإذلالهم، هذا الجهاز الرهيب طالبت الثورة بإلغائه ومحاكمة أعضائه على جرائمهم لكن المجلس العسكرى تمسك ببقائه بعد تغيير اسمه إلى «الأمن الوطنى» (وكأنما كانت مشكلتنا مع أمن الدولة تنحصر فى اسمه).. إن المجلس العسكرى بمقاومته للتغيير منح فرصة ذهبية لأعداء الثورة حى يتآمروا ضدها.. سرعان ما تكونت شبكة واسعة وفعالة من أعداء الثورة: إعلاميون ومسؤولون حكوميون ورجال أعمال أثرياء وضباط شرطة وأعضاء فى مجالس الشعب المزورة. هؤلاء الذين دبروا ونفذوا كل الأزمات التى عانينا منها بعد الثورة، بدءاً من أزمات المواد الغذائية والبنزين والسولار وصولاً إلى الفتنة الطائفية وإحراق الكنائس أمام أعين أفراد الشرطة العسكرية وضباط الشرطة، إلى أحداث التخريب التى لا يتم التوصل أبداً إلى مرتكبيها. كل هذه مؤامرة واحدة تريد أن تنشر الفوضى والخراب فى أنحاء بلادنا من أجل إجهاض الثورة بأى ثمن، لأن التغيير الديمقراطى سيقضى على مستقبل فلول نظام مبارك وقد يؤدى إلى محاكمتهم وإلقائهم فى السجون. لقد كان ما حدث يوم 9 سبتمبر معبراً عن عمق الأزمة التى نمر بها. لقد دعت القوى الثورية إلى مسيرة مليونية بعنوان «جمعة إصلاح المسار» كانت مطالبها: إيقاف إحالة المدنيين إلى محاكمات عسكرية، وتحديد جدول زمنى لانتقال السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة. لقد تحالفت قوى عديدة من أجل إفشال جمعة إصلاح المسار، فقد رفضت بعض جماعات الإسلام السياسى الاشتراك فى المظاهرة لأنها حريصة على إرضاء المجلس العسكرى حتى تضمن لنفسها أكبر عدد من مقاعد الحكم. تم شن حملة إعلامية جبارة من أجل إفشال جمعة إصلاح المسار، بنفس الوسائل القديمة: برامج ملفقة وضيوف منافقين واستطلاعات رأى كاذبة.. كما أنفقت وزارة الزراعة خمسة ملايين جنيه من أجل إحضار آلاف الفلاحين إلى استاد القاهرة بدعوى الاحتفال بعيد الفلاح لصرف الأنظار عن المظاهرات.
على أن الشعب المصرى قد أثبت من جديد أنه لايزال قابضاً على جمر الثورة، فنزل ملايين المصريين فى مظاهرات حاشدة فى محافظات عديدة، حتى إن الفلاحين الذين تم إحضارهم من قراهم تركوا الاحتفال الهزلى فى الاستاد وانضموا إلى مظاهرة ميدان التحرير. نجاح جمعة إصلاح المسار كان كاملاً وفريداً وقد حمل معانى عديدة: أولاً أن جماعات الإسلام السياسى التى اعتمد عليها المجلس العسكرى فى توجيه الثورة عاجزة عن السيطرة على ثورة كبرى كتبها الشعب المصرى بدمائه، فقد نجحت المليونية بالرغم من مقاطعة الإخوان والسلفيين. ثانياً أنه مهما ضاعف المجلس العسكرى من إجراءات القمع لن يستطيع إجهاض الثورة، لأنه يواجه مصريين مختلفين تماماً عن أولئك الذين حكمهم مبارك ثلاثين عاماً.. فى نهاية اليوم كان لابد من تدبير حوادث واعتداءات من أجل تشتيت الانتباه عن نجاح المليونية وتبرير العمل بقانون الطوارئ.
لا أريد أن أضيع وقت القارئ فى إثبات أن الهجوم على وزارة الداخلية والسفارة الإسرائيلية ليس سوى مؤامرة مدبرة ضد الثورة.. فقط أسأل: لماذا انسحبت قوات الشرطة قبل الهجوم؟ ولماذا لم تحرك الشرطة العسكرية ساكناً على مدى ساعات وتركت المعتدين يفعلون ما بدا لهم فى وزارة الداخلية والسفارة الإسرائيلية؟!
الأزمة فى مصر الآن بين طرفين: ثورة عظيمة تريد هدم النظام القديم لتبنى بلداً جديداً، ومجلس عسكرى يقاوم التغيير بكل قوته.. ما العمل؟! الحل يتمثل فى توحيد قوى الثورة ثم مطالبة المجلس العسكرى بإلغاء قانون الطوارئ، وإيقاف إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية وجميع المحاكم الاستثنائية، وتطبيق قانون الغدر من أجل منع فلول النظام القديم من إفساد مجلس الشعب المقبل.. بعد ذلك يجب على المجلس العسكرى أن يسرع بإجراء انتخابات تنقل السلطة إلى حكومة مدنية.. إذا رفض المجلس العسكرى تنفيذ هذه المطالب المشروعة فإن الثورة المصرية ستكون أمامها جولة جديدة وهى مستعدة لخوضها، ولسوف تنتصر فيها بإذن الله كما انتصرت من قبل.
الديمقراطية هى الحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى