احمد الجمال :
التاريخ لا يعرف كلمة «لو» لأنه يرفض الافتراضات فيما تقبلها علوم أخرى كالاجتماع والسياسة، حيث توضع الفرضيات وتتعدد ثم تبدأ محاولات التحقق من صحتها باستخدام أدوات بحثية علمية معينة.. أما التاريخ فهو حقائق تمت يمكن مناقشة مقدماتها وأسبابها ومساراتها وتفاصيلها ونتائجها ليمكن بعد ذلك استخلاص دروسها لتبدأ فلسفة التاريخ.. ولذلك: كانت إجابتى على من سألنى: لو كانت الوفاة لأحد من أبناء المخلوع وأمثاله هل كانت لهم جنازة ووداع مثلما حدث لخالد؟!.. قلت: التاريخ لا يعرف لو وإنما هو حقائق اكتملت!
الحقيقة المكتملة هى أن هناك من نشأ وتربى وتم تكوينه ومحاسبته فى بيت يتم فيه التمييز بين العام والخاص.. ولأب يحب زوجته وأسرته ويتابع أبناءه يوميًا ويتدخل عند أى خروج على القواعد التى أرساها والمبادئ التى اعتنقها والأهداف التى يسعى لها.. ولأم تجد دنياها كلها فى حب زوجها وتهيئة الجو له لكى يرتاح وتتجدد عزيمته ليكمل مشواره ولا تزج بأنفها فيما ليس من شأنها، ومحصنة ضد الكاميرات وأمراض الاستعراض.
وهناك من نشأ وتربى وتم تكوينه فى بيئة أو بيت ليس فيه مما سبق شىء.. أى إنه لا تمييز بين العام والخاص.. والأب يهتم بالموضة والأبهة ويسكن القصور والأم تقتلها الأمراض الاستعراضية بالعبودية للكاميرات والشاشات والصفحات الأولى، والتلذذ بركوع وسجود الوزراء والكبراء.. ومصاهرة ومعاشرة الأثرياء إلى آخره.
هذه هى الحقيقة التى تمت وهذا هو الفرق بين أولاد جمال عبدالناصر وأولاد السادات وحسنى مبارك!
وهذه الحقيقة هى مكمن ماجرى يوم الجمعة 16 سبتمبر 2011 ويوم السبت 17 سبتمبر 2011 عندما تدفقت الجموع إلى مسجد جمال عبدالناصر بكوبرى القبة وإلى قاعة العدا الفسيحة بمسجد القوات المسلحة فى النزهة.
فى جنازة خالد امتدت الحشود لأكثر من كيلومتر، وتعالت الهتافات وعلا نشيج البكاء من الجميع، وصرخت النساء القادمات من الأرياف والأحياء الشعبية متشحات بالسواد وعيونهن منتفخة من كثرة البكاء: «مع السلامة يا غالى يا ابن الغالى..سلم على أبوك يا حبيبى!» الحقيقة هى أن مصر الإسلامية ومن قبلها مصر المسيحية عرفت الاعتزاز بالأطهار من الأسر المقدسة.. وكانت مصر سنية أشعرية المذهب، ولكنها تحب آل بيت النبى بأكثر مما هو معروف عن الشيعة المتشيعين بالمذهب والعبادات أو بالسياسة، واستقر فى الوجدان الشعبى أن مصر محمية ومحروسة بزيارة المسيح والعذراء من قبل وبقدوم آل بيت النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - وبقائهم فيها من بعد!
وليست كل السلالات عند المصريين «آل بيت»، فكم من ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء حكموا المحروسة ومنهم من حكمها بما يرضى الله، ومنهم من تحكم فيها بما يرضى إبليس، ولكن المفارقة أن تجد مصر الحديثة والمعاصرة فى جمال عبدالناصر وأبنائه مجالا تتحقق فيه معادلة الحب والتقدير والاحترام بل القدسية، وإن تفاوتت الدرجة بين أسر تنتمى للأنبياء وأخرى لعامة البشر!
كان جمال عبدالناصر يدرك أنه خادم لهذا الشعب، وكان كلما سألته زوجته: لماذا أنت متعجل دائما وتبذل جهدًا يفوق طاقة البشر حتى أصابك المرض؟ يجيب: دعينى أحاول أن أنجز شيئا للفقراء.. فليس لهم غيرى واعلمى أننى سأنتهى بسرعة ولن يطول بقائى فلن يتركونى أستمر فيما أفعل وسيكون مصيرى إما القتل أو زنزانة فى سجن القلعة!
كان عبدالناصر يقصد بالذين لن يتركوه: الرأسمالية العالمية والصهيونية والرجعية العربية وتحالف الإقطاع والرأسمالية داخل مصر!
وكان جمال عبدالناصر يعلم أولاده كل لحظة بالقول وبالفعل أى بالقدوة، أن قيمة الإنسان ليست بالسلطة والجاه وإنما هى بالعلم والعمل، وهذا هو السر الكامن وراء تفوق معظم الأولاد فى الدراسة، ووصول اثنين منهم لدرجة الدكتوراه ومن بعدها الأستاذية الكاملة فى الجامعة، وهو أيضا السر الكامن وراء اهتمامهم بالعمل والسعى فى مناكب الدنيا، وهو كذلك السر الكامن وراء أنهم ظلوا أقوياء أسوياء لم ينحرفوا أخلاقيًا ولم تصبهم أمراض النفس الاجتماعية عندما انتهى الوضع الرئاسى وأخرجوا من بيتهم الذى تربوا فيه، وانهالت أقذع الاتهامات الباطلة والإدانات ومحاولات الانتقام على أبيهم وثورته ومبادئه وإنجازاته.. ثم وهو الأهم بقوا أطهار اليد، فلم تمتد يد واحد منهم إلى ما ليس له من مال أو عقار، رغم كل محاولات الإفساد التى مورست معهم وربما من أقرب المقربين ممثلا فى أشرف مروان.
إنه مشهد لا يخلو من مفارقات صارخة، فالرجل الذى مضى على رحيله عن دنيانا واحد وأربعون سنة يبعث من جديد فى كل لحظة، سواء فى ميدان التحرير وميادين الثورة المصرية الينايرية المجيدة، أو فى كل الأحاديث السياسية على الشاشات وصفحات الصحف.. ثم فى جنازة ابنه الذى كان هو كنية أبيه «أبوخالد.. نوارة بلدى».. أما الرجل الذى جثم على صدر المحروسة قرابة أربعين سنة منذ كان نائبًا عام 1957 إلى أن خلع عام 2011 ملقى فى قفص الاتهام يمارس التمثيل والاستهبال ويواجه اتهامات ترقى إلى الخيانة العظمى.
ثم إن ابن الرجل الذى رحل منذ أربعة عقود يرحل شريفًا طاهرًا مودعًا بدموع عشرات الألوف وبآيات القرآن الكريم تتردد فى جنبات فضاء شارع الخليفة المأمون، بينما أبناء المخلوع تذكروا فجأة أن هناك قرآنا يمسكونه بأيديهم فى قفص الاتهام، وكأنهم لا يدركون ولا يعلمون أن الأصل هو العمل بما يحتويه المصحف من آيات وأحكام والالتزام بما فيه من أوامر واجتناب ما به من نواهٍ، وليس مجرد حمله ككتاب مجلد.
إنه الفرق بين حاكم عرف المضمون الحقيقى لشرع الله وحاول أن يطبق العدل فى ربوع وطنه، وبين حاكم كان لا يطيق الحديث عن وجود الفساد وغياب العدل، لأنه كان أصلا لا يعرف الكثير عن شرع الله!
لقد قال العرب قديما مثلهم السارى «الولد سر أبيه».. وقد صدقوا، فخالد كان سر أبى خالد.. وجمال وعلاء هما سر أبى علاء، ولله فى خلقه شئون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى