آخر المواضيع

آخر الأخبار

16‏/09‏/2011

هيكل في حوار بصراحة مع الأهرام‏:‏ الــــــــوطـن في محـــــــنة

image

هذا ليس حوارا مع‏'‏ الأستاذ‏'‏ هيكل بقدر ما هو قراءة في عقل وفكر كاتب ومفكر ومؤرخ مهموم بالمستقبل الذي لن يشارك فيه‏'‏ وفق تعبيره الخاص‏',‏ غير أنه لا يملك ترف الصمت عليه أمام ما يحدث من ارتباك في المشهد السياسي في مصر بعد ثمانية أشهر من الثورة‏.

ليس غريبا, وقد التقينا الأستاذ في مكتبه الذي يزدان بعدد هائل من خرائط مصرالنادرة, أن تكون الخريطة حاضرة في الحوار الذي أجريناه مع الكاتب الكبير, وفيه يقرأ المشهد المصري والمشهد الإقليمي والمشهد العالمي علي إيقاع الخريطة.
عندما أشار الأستاذ إلي محاولات إعادة فرض الهيمنة في المنطقة أمسك قلما وراح يرسم خريطة للمشهد, والقوي الفاعلة فيه.
والأمر نفسه تكرر عندما جاء الكلام عن فلسطين وأهميتها بالنسبة للأمن القومي المصري, حيث عاد الكاتب الكبير إلي طريقته المفضلة, وهي التفكير بالخريطة, وهو منهج عقلي لايجيده سوي الذين يتقنون قراءة الثابت الجغرافي والمتغير التاريخي ويعرفون سر الخريطة ودروسها والعلاقة الوثيقة بين التاريخ والجغرافيا.
ويعرف الأستاذ أن الإجابات سابقة التجهيز لم يعد لها محل من الإعراب السياسي بعدما انفجر المشهد في صخب لم يحدث من قبل, ولذلك تجيء كلماته هنا- وهو يقوم بالإجابة عن الأسئلة- فواتح لأسئلة أخري, لأنه يؤمن بالمقولة الشهيرة إن السؤال الصحيح هو نصف الطريق للإجابة..
ولذلك يحرضنا في حديثه علي طرح مزيد من الأسئلة, ربما ندرك الحقائق بدلا عن الأوهام التي سادت بعد انتصار الثورة بسبب النصر السريع الذي تحقق.
الأستاذ يعود كعادته إلي التاريخ, إذ لا يؤمن بالقطيعة الكاملة, وربما الجاهلة, مع معطيات التاريخ وتراكم التجربة الإنسانية.
كما قلنا في البداية هذا ليس حوارا بقدر ما هو قراءة متسائلة تتم علي مستويين: الأول, رؤية يطرحها الأستاذ هيكل علي الوطن وعنه. من خلال الأهرام كمقدمة لحوار نعتقد أنه سوف يستمر طويلا, والمستوي الثاني, هو الحوار الذي نحاول فيه طرح أسئلة عليه لتوضيح ما قد يستغلق من رؤي حول المشهد.
الأستاذ قدم رؤية شاملة وعميقة وتحدث وفتح بوابة الأسئلة علي فضاء المشهد المصري والإقليمي الراهن وتداعياته..
في مكتبه الأنيق المزين بلمسات جمال راقية تضفي علي المكان دفئا زاده دفء اللقاء وعلي مرأي ومسمع من نهر النيل الذي يبدو مطمئنا من شرفة المكتب.. جري نهر الحوار متدفقا وبدا الأستاذ في لياقة جسدية و ذهنية يحسد عليها, وتجلت لأسرة الأهرام إضاءاته العقلية أكثر وأكثر عندما بدأ مقدمة الحوار قائلا:
قبل أن أبدأ بالحديث معكم في قضايا اللحظة الراهنة, أريد أن ألفت نظركم إلي أنني أقتصد إلي أبعد مدي ممكن في الكلام لسببين:
السبب الأول: إنني لا أريد أن أقاطع نقاشا يجريه أطراف جيل جديد مع بعضهم, وإنما أعترف دون تحرج بأنني أتابع عن قرب أحوال العصر, لكني ببساطة من جيل آخر, وهذه حقيقة عمر, وأنا رجل مهتم بمستقبل بلدي, ولكني أعرف أنني لست طرفا في هذا المستقبل, خصوصا سياساته, فالسياسة تدبير, والتدبير لا يكون إلا لمستقبل, وكل مستقبل له أحوال وتضاريس ومناخ, والذين يعيشون فيه هم الأقرب إلي حقائقه, والأقدر علي رسم خرائطه.
والسبب الثاني: إنني لا أريد أن ألح علي التواجد في الصحافة المصرية إلا بقدر وبحد, وكثيرون منكم يعرفون وأولهم صديقي القديم وزميلي السابق لبيب السباعي أنني عندما تركت الأهرام سنة1974 لخلاف مع الرئيس السادات حول الإدارة السياسية لنتائج حرب اكتوبر, كنت أعرف من حقائق الأشياء ومن طبائع الأشياء أنني لا أستطيع أن أمارس حريتي في مصر إلا في إطار ما تسمح الطبائع والحقائق, وكذلك فإنني مع بقائي طول الوقت في مصر مارست عملي وبالتالي حريتي بالكتابة والنشر في الصحافة الدولية خارجها, وكذلك كان!!
ثم حدث مع التحولات الكبري في السياسة المصرية, وأيضا الخارجية أنني وجدت نفسي مشدودا للحديث والكتابة في مصر, وتحدثت وكتبت مرة أخري في مصر وقت الرئيس السادات, وكتبت معارضا ملحا في المعارضة لسبب لم ينتبه إليه كثيرون, وهو ظني بأنني قمت بدور أساسي في مجيء السادات رئيسا بعد رحيل عبد الناصر, وبدور كذلك في تأييده في ظروف أحاطت بمصر أيامها, ثم إن ذلك جعلني أستشعر مسئولية أدبية ألحت علي بداع أو بغير داع, وكذلك فإن معارضتي لسياسات الرئيس السادات كانت ظاهرة, ومن سوء الحظ أن بعضهم تصورها تصفية حسابات, بينما الحقيقة أنه لم يكن بيني وبين الرجل حسابات تصفي, فقد كان علي المستوي الشخصي والإنساني صديقا حميما, وكنت بالنسبة له كذلك, وأشهد أنه حاول والسيدة قرينته شاهد أن يحتفظ بي قريبا منه بكل الطرق, ولكن المستجدات في سياسته كانت فجوة أكثر اتساعا من أي شيء آخر, وانتهي الأمر به بعد سبع سنوات من معارضتي لسياساته إلي وضعي في السجن مع نخبة من ساسة مصر ومفكريها ضمن حملة اعتقالات مشهورة في( سبتمبر1981).
ويستغرق الأستاذ هيكل في لحظة سكون كأنه يستجمع سبل الدخول إلي عصر مبارك ويستطرد قائلا:
حين جاء الرئيس حسني مبارك خلفا لـ السادات, فإن واحدا من أول قراراته كان الإفراج عن المعتقلين, ولقاء جماعة منهم حين خروجهم, ولقاء بعضهم فرادي معه بعد ذلك, وكنت واحدا ممن انتقاهم وجلست معه بمفردنا يوم السبت الثاني من ديسمبر1981 لمدة ست ساعات متواصلة, وقد تحدثت معه بقلب مفتوح في كل ما سألني عنه, وكان الرجل للأمانة راغبا في صلة بيننا, وكان بين عروضه تساؤل: إذا كنت لا تريد أن تعود للصحافة المصرية, فلماذا لا تجيء للعمل في الحزب الوطني؟! وأدهشني كلامه, وقلت له: إن اختلافي مع الرئيس السادات لم يكن شخصيا, وإنما خلاف جوهري عن السياسة المصرية وتوجهاتها الطارئة في حرب أكتوبر, وهذه السياسات مستمرة لم تتغير, وكذلك لم يتغير موقفي, وقلت له إنني وربما غيري نريد أن تترك له الفرصة ليدرس بنفسه ويتقصي ويتخير ما يري, لأن كثيرين بقلوبهم معه يرون أن البلاد بعد عاصفة الدم التي أدت إلي اغتيال الرئيس السادات, وصاحبته, وموقف الاغتيال ترتب له حقا في فترة سماح يتيح له ما تحتاجه مصر من تهدئة تحافظ علي السلم الأهلي وتحمي الوحدة الوطنية في كافة مواضعها.
وظللت بعدها علي اتصال ودي متقطع به, وأغلبه علي التليفون, أو عن طريق أسامة الباز الذي كان ضمن هيئة مكتبي لزمن طويل, ثم أصبح مدير مكتب الرئيس حسني مبارك ومستشاره فيما بعد.
وبعد مرور عام كامل أي في سبتمبر1982 طلب مني رئيس تحرير المصور وقتها وصديقي وزميلي الأستاذ مكرم محمد أحمد أن أكتب عن مبارك بعد سنة, وكتبت بالفعل مجموعة مقالات علي شكل خطابات مفتوحة, وجاءني أسامة الباز باسم مبارك يسألني عن تأجيل النشر, لأن النشر يحرج الرئيس بشدة في هذه الظروف, ووافقت, وإن كنت سألت أسامة إذا كان الرئيس قرأها, فرد بالإيجاب, وقلت إن ذلك يكفيني لأنه عرف رأيي, ورأي ما أتحدث فيه من وجهة نظري, وفي كل الأحوال لست أطلب إحراجه.
وقد بقيت هذه المقالات الست محظورة حتي نشرتها في جريدة المصري اليوم, وكانت محاولة تقييم لسياسات الرجل, وفيها تحدثت عن ملامح فساد يزيد, وعن تصرفات وأخطاء تتراكم, وعن بطء في القرار له خسائره, وعن صلاته بالعالم العربي مضطربة, وعن علاقاته بالعالم الخارجي ينقصها التوازن.
ولزمت الصمت فترة, ثم عدت بدعوة من الأستاذ إبراهيم سعدة فكتبت مجموعة مقالات لـ أخبار اليوم, وقد أخذت أتحدث فيها عن صنع القرار في مصر في عهد مبارك.
وأثارت المقالات وقتها غضبا توجه معظمه إلي الأستاذ إبراهيم سعدة, وأوقفتها بعد مقالين, حرصا علي الرجل, وقد كانت أمامه في ذلك الوقت فرصة لتولي رئاسة مجلس إدارة الدار.
ولزمت الصمت مرة أخري.
وفيما بدت بعض علامات الأسي علي وجه الأستاذ قال:
كان اعتقادي يتزايد مع الأيام بأن حركة وثورة العصر الحديث تطرح مستقبلا جديدا مع جيل آخر في زمن مختلف.
لكن تردي الأحوال مع تراكم السنين وأثقالها في عهد مبارك كان يدعو كل مواطن إلي أن يقول كلمة إذا واتته فرصة, وكذلك كتبت, ثم حدث أن بدأت الرقابة تطول بعض ما كتبت بالحذف سطرا هنا وسطرين هناك.
وتصادف وقتها أنني تعرفت مباشرة علي السرطان, وبسببه أجريت عملية جراحية كبري في الولايات المتحدة الأمريكية, لكني بعد الجراحة تأكد لي ما كنت لمحته, ورحت أراقب من أول سنة2000 أن ملامح توريث قادمة علي الأفق, ورأيت أن أطرحها صراحة في محاضرة في الجامعة الأمريكية يوم14 أكتوبر2002, وأذيعت المحاضرة وتكررت إذاعتها علي قناة دريم, ولم ينتبه أحد في البداية, لأن الكل كانوا في مناسبة افتتاح مكتبة الإسكندرية, وحين تنبهوا للمحاضرة انقلبت الدنيا رأسا علي عقب, وأغلقت كل المنافذ والنوافذ, وكذلك رأيت أن أعلن علي الناس اعتزالي الكتابة والصحافة في مصر, ثم انهمكت بعدها في أحاديث عن تجربة حياة, رحت أتحدث فيها من قناة الجزيرة.
وخلال أحاديث تجربة حياة لم يكن هناك مفر من إشارات كثيرة إلي الواقع والراهن في مصر, وشدني ذلك بين الحين والآخر إلي أحاديث مع صحف مصرية كثيرة.
وكان واضحا أمامي مع تقدم السنوات الأولي من الألفية الجديدة أن الأوضاع في مصر علي طريق مسدود, فالسياسة المصرية في السنوات العشر الأخيرة لم يعد لها مطلب غير التوريث, وقد تكيفت كل السياسات طبقا لهذا المطلب, وتعطلت مصر إلي درجة أصبح فيها التغيير واجبا, وبدا فيها أن التغيير قادم.
وفي شهر نوفمبر2009 أجريت حديثا مطولا مع الأستاذ مجدي الجلاد نشره المصري اليوم, وكان الحديث عن الترتيب لانتقال السلطة, لأن النظام أحكم الأمور, واقترحت مجلس أمناء للدولة والدستور يستوفي ترتيب الانتقال من زمن إلي زمن, ومرة أخري وليست أخيرة ثارت العواصف, ومرة أخري وتلك ظاهرة مستجدة علي الصحافة المصرية بدأت مع نهايات عصر السادات لم يكن هناك رأي يرد علي رأي, أو حوار يدور علي فكرة, وإنما تجاوزات يفقد بها الحوار قيمته, وتنتحر فيها الأخلاق والمعاني وحتي الألفاظ!!
وحينما خرج الشباب في مطلع ثورة25 يناير2011, وحين خرجت كتل الجماهير معهم وحولهم تعطي لبشائر الثورة حجمها الحقيقي, وحين اتخذت القوات المسلحة موقفها الأصيل, وجدت نفسي أكتب كل يوم تقريبا, وما كتبته وقلته لايزال ماثلا في الذاكرة لا داعي للعودة له بالتفصيل.
وبعدها وجدت من الحق ترك المستقبل لأطرافه والمتابعة من بعيد.
وبرغم طلبات متكررة من أصدقاء من نجوم الصحافة والتليفزيون, فقد آثرت أن أترك الشهور دون مقاطعة, بل إنني طوال شهر أغسطس, وقبله, وبعده بأيام آثرت أن تكون متابعتي للشأن المصري من بعيد, وقضيت خمسة أسابيع كاملة, متنقلا بين مدن وعواصم أوروبا حتي انتهيت في الجزء الأخير من رحلتي أن أقصد إلي لندن, وهي في ظني أهم مركز للمراقبة والاستماع والحوار في كل شئون العالم في هذه الساحة الدولية الحافلة.
ثم عدت قبل أيام وطرح الأستاذ لبيب السباعي فكرة لديه بحوار مع الأهرام, يستكمل حوارا سابقا مطولا أجريته معه قبل خمسة أشهر, وكان قد طرح الفكرة قبل سفري, ورجوته تأجيلها إلي ما بعد عودتي.
ولقد رأي الأستاذ لبيب السباعي ورأيت معه أن يكون الحوار موسعا, وذلك يسعدني, وها أنا معكم اليوم وإن علي استحياء, والسبب كما قلت لكم من الأول, وهو أن المستقبل له أصحاب أولي بالحديث عنه, من رجل مثلي, قالوا ويقول إن مستقبله وراءه, فهو ليس طرفا فيه, لكن هذا المستقبل يعنيه.
بهذا المنطق أتحدث معكم فيما تشاءون!!
وبتواضعه المعتاد قال: بإذنكم أقدم إيضاحا أقول فيه إنني مبكرا قصدت أن أبتعد عدة أسابيع من الصيف خارج مصر وذلك ما فعلته, وضمن طلبي أن أطل علي الصورة من بعيد, وأن أقابل آخرين غير من نقابلهم في مصر, ونختبر ما يفكر فيه من هم خارج الصورة, مع ما نفكر فيه, نحن من داخلها.
وحين عاتبني بعض الأصدقاء متسائلا عما إذا كان ذلك هو الوقت المناسب للغيبة, كان ردي أن وسائل العصر الحديث لا تفرض الغيبة علي أحد حيثما كان, لأن الساحات كلها مفتوحة, والطرق كلها واصلة, والأخبار والأحداث والتصورات تسافر بأسرع مما تسافر الطائرات.
ثم إننا يجب أن نستكشف جوانب أخري من الصورة يعرفها غيرنا بأكثر مما نعرفها نحن.
وكنت أضيف أنه في أغلب الأحيان لن يطرأ جديد, لأن الأحوال في مصر معوقة, داخلة في شبه مأزق يحتاج إلي جسارة فكر وفعل.
وحين عدت بعد غياب ستة أسابيع, رحت أتقصي وأبحث ما فاتني, وتبدي لي أن ما جري كان قريبا مما توقعته, مع إضافات في التفاصيل لا تغير كثيرا من الصورة العامة, ولعل أهم ما حدث في غيابي, وقد شاهدته كما شاهده الملايين غيري علي شاشات التليفزيون هو ظهور الرئيس السابق حسني مبارك في قاعة المحاكمة, ممددا علي سرير طبي, ويداه معقودتان علي وجهه معظم الوقت, يريد تغطيته قدر ما يستطيع, وعيناه تلتفتان خلسة للنظر إلي ما حوله.
وساءلت نفسي عشرات المرات وأنا جالس أمام التليفزيون في أحد فنادق سردينيا: لماذا قبل الرجل لنفسه هذه المهانة؟! وكان في مقدوره أن يمتنع عن حضور المحاكمة؟! ثم لماذا رضي لنفسه أن يجلس علي هذا السرير؟! وأنا أعرف أنه والحمد لله قادر علي المشي, وعلي الجلوس بما يلائم وضع رجل حكم مصر ثلاثين سنة, كذلك أدهشني أن الرجل عندما رد علي المحكمة, رد كأي متهم عادي, كموظف سابق متهم بالاختلاس مثلا, ولم يحاول والميكروفون في يده أن يقول كلمة مشرفة للتاريخ, يعتذر يشرح يسجل ينطق بكلمة يحترم بها نفسه.
ولم أجد تفسيرا إلا أن الرجل يتصرف في إطار معين في ذهنه لا يحسن إليه, ولا يحسن إلي غيره.
إيضاح أردت أن أمهد به لما أعرض عليكم, باعتباره وقفة أمام مشهد كبير من موقع رجل يتابع من مسافة يريدها, عن اعتقاد بأنه في البداية والنهاية مستقبل وطن يهمه أمره, لكنه هو نفسه ليس فاعلا في هذا المستقبل, بوضوح لأن هذا المستقبل له أصحابه الأكثر اتساقا مع زمانه!!
>>>
وعقب لحظة صمت بادرت الأهرام بسؤاله.. بماذا تعلق علي وصف المجلس العسكري أن مصر في محنة ؟
ورد الاستاذ:
' المجلس الأعلي للقوات المسلحة' وأنا أفضل هذه التسمية علي الوصف الشائع بأنه' المجلس العسكري' علي حق تماما حين قال في آخر بياناته إن الوطن في محنة, وهذا صحيح لسوء الحظ, ولنأمل وندعو أنها محنة من نوع موجات الخماسين. والخماسين موعدها الربيع في الطبيعة كما نعرف والآن في السياسة كما نري.
لكني أتوقف لحظة أمام أوصاف هذا المجلس, وأعتقد بوجوب التوقف طويلا وطويلا جدا أمامها! للتدقيق والتساؤل, لسبب أساسي واضح هو أن وصف' المجلس الأعلي للقوات المسلحة' يوحي بأنه تكليف بمهمة, ووصف' المجلس العسكري' يوحي بأنها قبضة سلطة!!
وهذه ليست مسألة ألفاظ, ولكنها مسألة نافذة في العمق, لأن اللفظ دلالة معني.
أي أنه إذا كان المجلس مكلفا بمهمة وليس ممسكا بقبضة سلطة, فلابد هنا من تحديد لا يحتمل الالتباس. ومن وجهة نظري فإن التكليف بمهمة أصدق وأدق في وصف المجلس, واعتقادي أن المهمة هي أمانة شرعية الدولة بتوجيه من الشعب في لحظة من تاريخه شديدة الخطر وشديدة التأثير في المستقبل.
وفي ظني أيضا أنه حدث في وقت من الأوقات علي مسار الثورة خلط قاد إلي مشكلة نحن فيها الآن.
المشكلة التي أتحدث عنها هذه اللحظة ليست الاضطرابات التي وقعت ليل الجمعة الماضي, وتناقضت مع مليونية' تصحيح المسار' كما وصفها أصحابها, فقد سارت تلك المليونية كما أريد لها, نظيفة عفيفة حتي نزل الليل, فإذا غيرهم يخرج من المجهول, وإذا الأحوال تنقلب!!
والمشكلة ليست في الاعتصامات والإضرابات والمطالب التي زاد عددها, وأربكت العمل الوطني وعوقت حركته.
ولا هي في كل هذا الهدر العقيم في تيه الفضائيات, وصخب الأحزاب في الاجتماعات والمؤتمرات, وبهرجة عناوين الصحف بالأسود والأحمر والأخضر, وهدير المظاهرات في الشوارع والميادين.
كل ذلك من أعراض خلط بدأ أساسا في التفكير والتوصيف, قبل أن يظهر في الفعل والتصرف.
وإذا أردنا تحليل المقصود فإن الأمر يقتضي عودة إلي ما جري, وذلك ما يقول به العقل من أنه إذا اختلطت علي الناس أمور, فإن أول الحل تفكيك الموضوع إلي عناصره الأولي, ومن بداية وقوعه, وهذا يقتضي عودة إلي ما جري بالضبط, وكيف جري؟! وكيف تشابك وتعقد حتي وصل بعد مائتي يوم من قيام الثورة إلي هذا الحال الذي نراه حولنا ويقلقنا, ومن الحق أن يقلقنا إلي درجة الرعب من تداعياته إذا نحن تركنا تفاعلاته دون درس وفحص.
دعوني أطرح عليكم محاولة رؤية, ثم نتناقش كما تشاءون.
أولا: أتصور أننا جميعا متفقون علي أن مصر شهدت في يناير وفبراير من هذه السنة(2011) حدثا لا مثيل له في روعته وجلاله, فقد ظهرت فيها وتجلت ثورة مدهشة للعالم وللأمة ولها أعني لمصر نفسها وكانت حركة هذه الثورة مما لا يصدق, وكان أطرافها الفاعلون مباشرة ثلاثة:
> أولا: شعب كان يتململ ضيقا بأحواله, وبما يري حوله من آثام ومظالم ويبحث عن خلاص, لكنه حائر في كيف يتحرك؟! وبمن؟!!
> ثانيا: هذا الشعب وجد طلائع من شبابه تتحرك بما لم يتحوط له أحد وسط مناخ أطبق عليه الظلم والظلام, فإذا هو يكسر الحواجز, ويعبر أرقي التعبير عن إرادته.
> ثالثا: هذا الشعب وجد القوة التي يحسب حسابها, وهي القوات المسلحة تنحاز إليه, مدركة أن الشرعية هي إرادة الشعب الحرة, وأن السلطة الحاكمة لم تعد تعبر عنها, لأن صاحبها الأصلي وهو الشعب سحبها منه, وبما أن القوات المسلحة هي سند الشرعية وأداتها, فإن القوات المسلحة حددت موقفها, متوافقا مع مصدر الشرعية وإرادته.
أي أننا كنا أمام3 قوي بالتحديد هي الأعمدة الرئيسة للثورة:
شعب في حالة ثورة شباب في حالة جسارة ثم قوات مسلحة في حالة اختبار نجحت فيه عندما تبينت موضع الشرعية, واختارت وحسمت.
وبذلك كله وقع النجاح.
لكن كل نجاح في دنيا الناس له منافعه وله أوهامه في نفس الوقت.
والشاهد أن سلامة الأوطان خصوصا أثناء فترات الانتقال لحظات في التاريخ حرجة, لأن الفارق بين النجاح والفشل يكمن في الفرز الدقيق بين الحقائق والأوهام بعد النجاح الأولي ونشوته.
والمشكلة أن نشوة النجاح مثل نشوة النصر مثل أي نشوة تغري بالانسياق مع الأوهام, أكثر مما تدعو إلي النظر في الحقائق.
وهذه ظاهرة واجهت ثورات كثيرة, من أول كبري الثورات في التاريخ الحديث, وهي الثورة الإنجليزية أيام' ويليام الأول' في القرن السادس عشر, والتي قفز فوقها المؤرخون الإنجليز, لكي تظهر إنجلترا وكأن تطورها إلي الديمقراطية كان سلميا لا تشوهه بقعة دم, في حين أن ضحايا تلك الثورة في أيام' ويليام' زادوا علي ربع مليون إنسان بالقتل والسحل وتقطيع الرءوس, وبعدها آثر المؤرخون أن يبدأوا بالثورة الأمريكية.
ومنها إلي الثورة الفرنسية ثم إلي الثورة الشيوعية في روسيا وفي الصين, إلي غيرها من الثورات الكبري.
كل الثورات واجهت هذه المشكلة مشكلة الأوهام, أو نوعا منها.
لكن كل الثورات الكبري تنبهت بسرعة إلي مزالق الأوهام, وحاولت تداركها, ولذلك احتفظت بالقيم الجوهرية للثورة, وحافظت عليها, وهذا ما فعلته الثورة الإنجليزية التي حافظت علي فكرة الملكية الدستورية رمزا مع البرلمان فعلا رغم كل التقلبات حتي في عهد وصاية' كرومويل'.
وهذا أيضا ما فعلته الثورة الأمريكية, خصوصا في رئاسة' يفرسون' الذي لم يتردد في القول بأن مشكلة الديمقراطية أن الدساتير تصوغها أفضل العقول, ولكن تطبقها أسوأ الغرائز, وذلك عندما تصل الديمقراطية إلي المنافسات الانتخابية علي الأصوات وأساليبها, وهذا ما حاول' يفرسون' أن يتلافاه بكم هائل من التوازنات والضوابط في نصوص الدستور الأمريكي عند صيغته النهائية, وهذا ما حدث للثورة الفرنسية بقوانين' نابليون', وإن كان ذلك القائد الأسطوري ابن الثورة قد وقع بعدها في وهم الإمبراطورية لنفسه وأسرته!!
>>>
وانتقل للحديث عن ثورة مصر وأوضح أن نوعا من الخلط جري عندنا في كل المحاولات الثورية, وآخرها هذه الثورة العظيمة يناير.2011
وضاعف من خطورة الوهم في ظروف الثورة المصرية, أن هذه الثورة لم تكن انتقالا من دولة احتلال مثلا إلي سيادة بلد مستقل.
ولم تقع من نظام انحرف بمقاصده وأساليبه إلي نظام آخر أكثر صلاحا.
وإنما جاءت الثورة ضد نظام تنازل عن كونه' نظام حكم' إلي' ميراث عائلة', وهي تحكم مع أقارب وأصدقاء ومنتفعين وصلوا بالدولة إلي مجرد جماعات مصالح تباشر السلطة اعتمادا علي قهر الأمن, مع انهيار كامل في قوائم نظام لم يعد دولة ولا شبه دولة, وإنما أصبح بالتعبير السياسي' أوليجاركي'( مجموعة مصالح تستند إلي أمن حديدي), ولذلك فإن إزاحة قمته تركت بعده أطلالا تتهاوي, وأرضا خلاء, وأكاد أقول خرابا, حتي علي الناحية الاقتصادية التي كان الحكم السابق يدعي أنه أحدث فيه تغييرا ملحوظا, وعندما نصل إلي حديث الاقتصاد بالتفصيل إذا شئتم, فسوف نكتشف أن هذا الذي يسمي فكرا جديدا كان سياسة تشبه ما صنعه رجل مثل' برنارد مادوف' الذي أنشأ في الولايات المتحدة نوعا من بيوت تلقي الأموال تعطي أرباحا سخية, علي طريقة بيوت الأموال الإسلامية المشهورة التي ظهرت في مصر, وبأسلوب أن تأخذ من هنا لتغطي هناك, إلي أن ينكشف المستور بالضرورة وتنفضح الحقائق, ويكتشف الذين صدقوا ما سمعوا أنهم خسروا كل ما عندهم, والحقيقة أن كل ماسمي بالانفتاح جري بتسييل الأصول الوطنية, ومثل خطف التوكيلات التجارية, ومثل نهب أراضي الدولة, ومثل التفريط في القطاع العام بسوء نية وسوء فعل, ثم بالاقتراض والديون حتي أصبح حجم الدين العام في مصر أكبر من حجم الإنتاج السنوي فيها.
وفيما أشتعلت الرغبة في طرح الأسئلة بادر الأستاذ هيكل بالحديث عن3 أوهام تعيشها مصر فلم نملك إلا الصمت وطرح فكرته بإسهاب قائلا:
ومن واقع المشكلة أن الانتقال لم يكن من دولة إلي دولة, أو من نظام إلي نظام, وإنما كان من شراكة عائلة وجماعات مصالح إلي بنيان دولة, في أجواء ثورة.
فإن ذلك ساعد وإن لم يقصد علي غواية الوهم.
كان أول الوهم: أن الشعب الذي صنع الثورة بملايينه قدر أن الثورة تحققت, وأوان توزيع أرباحها قد وصل وحل, والشعب معذور لأن الحقائق بعيدة عنه, ثم إن أحوال معظم طبقاته دون المستوي بكثير, كما أن صبره طال حتي تقطعت الحبال!!
والوهم الثاني: أن الشباب الذي فجر الزناد الثوري بجسارة واقتدار وقع في تصوره أنه وليس كتل الملايين من صنع الثورة, ومن حقه الآن أن تكون كلمته الأعلي.
وكان يمكن أن يكون شيء من هذا إلي حد ما مفهوما لولا عدة أسباب:
> أولها: أن هذا الشباب لم ينظم نفسه, وإنما دفعه سباق الأوهام إلي التفرق علي أكثر من مائتي جماعة, كل منها تحسب نفسها الأقوي والأكثر فعلا في الميدان.
> والثاني: أن اعتماد جماعات الشباب كان أساسا علي وسائل الاتصال الحديثة, وهذه لها حدود, ذلك أن شبكات' الإنترنت' و'الفيس بوك' والـ' تويتر' تصلح وسائل حركة, لكنها ليست صانعة فكر, والحركة قد تكون لها دوافع وروافع, لكن استيعاب التاريخ قبل الحركة وبعدها مسألة ضرورية, لأن الثقافة التاريخية لازمة للفعل السياسي.
وأكثر من ذلك:
> والثالث: أن الشباب لم يتوقف بشكل كاف للتعرف علي الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في البلد, وإنما أخذته النشوة إلي حد اعتبار ما يريده قانونا واجب النفاذ, حتي علي واقع الأحوال.
> والرابع: ثم أن الشباب أخذ بمقولات جري صكها في ملابسات سابقة عن دور القوات المسلحة في مجتمعات العالم الثالث بالتحديد طوال القرن العشرين, بداية من أمريكا اللاتينية في أوله وانتهاء بالعالم العربي قرب أواخره, فتصور أن القوات المسلحة مجرد مخزنجي لشرعية السلطة وفي أحسن الأحوال فإن عليه أن يصرف من المخزن بمجرد إذن صرف يكتبه صاحب الحق, وإذا لم يفعل معناها أنه يصادر الشرعية لحسابه أويوشك, وكذلك فقد كثر الكلام عن' حكم العسكر',أو جماعة اللواءات وتعبيرات من هذا النوع ليست دقيقة وليست مفيدة, ثم إنها تنتمي إما إلي عصر الاستعمار, أو إلي عصر الحرب الباردة, وحتي الآن في عصر لاحق لابد من دراسته بجد وعمق!!
ومن المهم هنا أن يتذكر الأطراف جميعا أن القوات المسلحة المصرية هي في هذه اللحظة قوة وحيدة تقف حاجزا بين مصر وبين الفوضي الشاملة, والحفاظ علي الكيان الوطني سابق في جدول الأولويات عما عداه!!
>>>
وثالث الأوهام: يخص المجلس الأعلي للقوات المسلحة, ذلك أن هذا المجلس وقد آلت إليه أمانة الشرعية وقع في تناقض.
فهو يتصور في بعض الأحيان أنه سلطة الدولة, وهذا واقع في جزء منه, لكنها سلطة الانتقال, أي سلطة التمهيد لما هو قادم.
ثم هو يعلن في أحيان أخري أنه لا يستطيع أن يتصرف خارج حدود معينة, لأن مسئولية القرارات الكبري ليست عنده, وإنما في انتظار سلطة مدنية تجيء فيما بعد.
وما بين حيازة سلطة الدولة فعلا, وما بين التردد بمقولة انتظار سلطة مدنية قادمة حدث كثير من التردد والتناقض والتخبط بين القرار والانتظار.
وإلي حد ما كانت للأطراف الثلاثة أعذار.
أولها: أن الأطراف الثلاثة: كتل الجماهير وجموع الشباب المجلس الأعلي للقوات المسلحة فوجئوا بما لم يكن, ولم تكن المفاجأة باندلاع الثورة فقط, ولكن بما بان لهم من الواقع المتردي الذي تكشف معها, وهكذا راح كثيرون يوظفون غير الممكن في طلب غير الموجود, وهو وضع بالغ الحرج!!
وثانيا: أن أحدا من الأطراف الثلاثة لم يكن مهيأ للتعامل مع هذا الواقع, لا بالتصورات ولابالسياسة ولابالتنفيذ.
وثالثا: أن طبائع الأحوال في هذه الظروف صنعت شكوكا بين الأطراف لم يتصد لها أحد بحوار متكافئ عميق ومستنير.
وكذلك وقع التباعد, والتناقض بين الأطراف الثلاثة!!
وبعد لحظات من الصمت استطرد:
ومع الشكوك بدأ نوع من الإحباط يزحف علي الساحة السياسية المصرية لتباين الطرق:
1- الشعب يشعر أن مطالبه لا تلقي العناية الكافية, والملايين التي خرجت وصنعت الثورة فعلا ثم عادت إلي حياتها الطبيعية بدأت تري أن العمل السياسي الذي يجري في العاصمة سباق قوة مشغول بما هو فيه, دون التفات إلي موجبات دخول الجماهير الواسعة إلي الساحة, بما أدي إلي سقوط السلطة القديمة وقيام سلطة جديدة, وفي غياب الحقائق لا يتحدث بها أحد إلا بالتهويل فيها أو بالتقليل منها, وفي الحالتين لقصد أو لغرض فإن هذه الجماهير أصابها نوع من ضيق الصدر ونفاد الصبر وبان قلقها.
2- ثم إن الشباب حتي وهو يقع في شراك التشرذم في صفوفه وبين فرقه راح يتصور أن هناك إنكارا لدوره, وتجاهلا لقوته وهو صانع الثورة, ناسيا حقيقة مهمة وهي أنه ليس هناك عنوان له يستطيع من يريد مخاطبته أن يدق علي بابه ويتشاور معه.
وقد كانت هناك في البداية ظاهرة استجابة سريعة لكل مطلب من مطالب الشباب, لكن الاستجابة خفتت عندما زادت المطالب, وتوزعت جهات المطالبة علي مواقع كثيرة ومتفرقة, وأحيانا متباعدة ومتباغضة.
3- وكانت مشكلة الطرف الثالث وهو المجلس الأعلي للقوات المسلحة أصعب, فقد راوده الشعور بأنه يواجه حالة إنكار للجميل, لأنه لولا حمايته للثورة لما استطاعت حماية نفسها, وكانت في هذا التصور مبالغة!!
صحيح أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة وفر الحماية للشباب وللجماهير, لكن المجلس الأعلي للقوات المسلحة يذكر علي لسان كل عضو فيه كما هو منشور وذائع أنه كان يعارض التوريث, وأنه أعد العدة لمواجهته ومنعه, عندما تجيء لحظته, واتخذ قراره بأن يتحرك ضده.
ولو أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة تحرك وحده ضد السلطة القائمة وقتها, لكانت حركته نوعا من الانقلاب العسكري- أو كذلك يمكن أن يقال.
لكن خروج جموع الشباب وحولها في كل أرجاء مصر كتل الجماهير, وفر للمجلس الأعلي غطاء مشروعا يسمح له أن يحقق فعله بالاعتراض علي التوريث, دون أن يكون ذلك بانقلاب, وإنما ضمن ثورة شعب!!
وإذن فإنه إذا كانت القوات قد أعطت لحركة الشباب والجماهير أمانا, فإن حركة هذا الشباب وكتل الجماهير وفرت للمجلس الأعلي مشروعية قانونية.
ثم تزيد هنا إضافة مؤداها أن العلاقات توترت بين الشباب وبين المجلس أكثر حين جرت إحالات إلي القضاء العسكري دون مبرر, أو علي الأقل دون مبرر يمكن تقديره وقبوله.
وإحالة مدني إلي القضاء العسكري في حد ذاتها, وبصرف النظر عما يجيء بعدها قرار سياسي, لأنه ينطوي علي اعتبار أن المخالفة موضوع القضية جري نقلها من حيز الإساءة المجتمعية إلي حيز الإضرار بالأمن القومي.
وهذا في حد ذاته قرار سياسي في وقت جري فيه استبعاد منطق الحساب السياسي من الأساس, حتي في شأن جرائم كبري أثرت فعلا في الأمن القومي, وأنا أتفهم الرغبة في الحسم السريع, لكن مثل ذلك كان لابد له من حل آخر غير الإحالة للقضاء العسكري, إلا إذا ثبت أن هناك ضررا فعليا بالأمن القومي يمكن شرح وقائعه وتوثيقها.
علي أنه وبسبب عدم الاعتراف فإن الاعتماد كان متبادلا, والفضل في قيام الثورة ونجاحها وحمايتها مشاع بين الجميع.
فإن المجلس الأعلي للقوات المسلحة كان معاتبا حيث لا داعي للعتاب, متضايقا حيث لا موجب للضيق. والحقيقة أن هذا المجلس كان يواجه في ناحية أخري ما لا يشعر به غيره, لأنه في وضع يسمح له بالمعرفة الأدق, وكذلك فإن هذا المجلس كان الطرف الوحيد من الأطراف الثلاثة الذي يواجه الحقائق عارية كما هي علي الطبيعة:
> يواجه موقفا اقتصاديا واجتماعيا في منتهي الصعوبة, ولا يري الموارد التي تسد الاحتياجات العاجل منها والآجل.
> يري الانفلات الأمني وهو طبيعي في حالات التغييرات الكبري, وتهاوي سلطة وظهور سلطة أخري, ولا يجد لديه أهلية التدخل فيها, بمنطق أن سلاح القوات' سلاح قتال', وليس' سلاح أمن', وإذا تدخل بسلاح القتال فهو' قتل', وذلك ما تتحاشاه القوات, وسوف تتحاشاه مهما تكن الظروف, فواجب القوات المسلحة حماية الناس وليس قتلهم, وفي دول العالم كلها فإن الأمن عند الشرطة ووسائلها, وليست عند الجيش وعتاده!!
> ومن ناحية أخري فإن الشرطة ومن وقت مبكر أقحمت ربما بقصد في علاقة عداء مع الناس, وقد استحكمت العقد بين الطرفين, وكان لابد لها من نهاية, إنصافا لفكرة الشرطة وضروراتها وحقوقها, بصرف النظر عما أقحمت فيه ومصائبه.
لكن ذلك تأخر في حركة صراع القوي, خصوصا مع وجود قضية هي في الواقع أخطر قضايا هذه اللحظة وأصعبها, تلك هي أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة حدد فترة الانتقال بعدة شهور: ستة شهور زادت إلي ثمانية, في بلد جف فيه بحر السياسة, وماتت الحيوية السياسية فيه, ثم حدث الفوران فجأة, واندفع الطوفان يريد أن يلحق الأجل ويسبقه إن استطاع, وفوق وجه الموج المتدافع عوالق كثيرة ورواسب مما كان قائما علي القاع خفيا أو كارثيا.
وحدث ـ وهو ما يحدث عادة في مثل هذه الظروف- أن عناصر كثيرة متفرقة ومتباعدة ومختلفة ومعظمها طاف علي السطح بلا جذور في العمق, هرولت تتسابق بأقصي سرعة لتلحق بأجل محدد وقريب, ولم تتردد في استعمال كل الوسائل لكي تسبق غيرها إليه, وكذلك دخل التخويف سلاحا, والإرهاب سلاحا, والتخوين سلاحا, والشتم سلاحا, بل ولسوء الحظ فإن الدين دفع به إلي الساحة ضمن الأسلحة, ولولا لمحة من العقل تجلت في وثيقة الأزهر الشريف لوقعت إساءة إلي الجلال الذي يجب أن يحيط بقدسية الدين ورسالته الهادية والتنويرية.
> بالإضافة إلي ذلك كله فقد كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة هو الأقرب إلي مواجهة أوضاع إقليمية في منتهي الصعوبة والتعقيد, وإلي أوضاع دولية في منتهي الخطورة والتهديد.
(وهذه صورة نعود إليها فيما بعد بالتفصيل).
وكانت المشكلة أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة وجد نفسه أمام تحد لم يستعد له أو يخطط, والجيوش عادة مؤسسات نظامية ترتب نفسها علي احتمالات معروفة لديها سلفا, وتضع في خزائنها السرية خططا جاهزة لمصادر التهديد التي تتحسب لها, لكنها لا يمكن أن تكون مطالبة بالتحسب والتخطيط لمجهول لم يكن في حسابها ولا حساب غيرها.
وهنا فإن بعض الظواهر تحكمت واستحكمت:
1- إن المجلس الأعلي- كما يبدو لمراقب مثلي من بعيد- لا يريد أن يبت في مشكلة حقيقية, وإنما يعتمد سياسة تأجيل المشكلات أو ترحيلها, بمقولة انتظار من يملك شرعيا ودستوريا مسئولية القرار فيها عندما يجيء وقته.
2- إنه لا يكف فيما يقول به عن تعجل الأيام لتسليم السلطة, لأنه لا يريد للقوات أن تتصل بالحياة المدنية وليونتها وتفقد قدرتها علي خشونة شن الحرب.
3- إنه ينتظر من المدنيين إذن أن يتحملوا مسئوليات كثيرة في التعامل مع الظروف ومستجداتها وطوارئها.
والمأزق أنه يريد من المدنيين أن يتحملوا بذلك, دون سند وكذلك دون غطاء, فالمجلس يقول ويعلن كل يوم أنه سوف ينسحب في الأجل المحدد, لكن المدنيين المطالبين بتحمل المسئولية عليهم أن يفعلوا ما هو مطلوب وبعضه خطر, ثم أن يتحملوا وحدهم عواقب الخطر بلا غطاء ولا حماية ولا ضمان من مبدأ دستوري أو قانوني ملزم ومحترم, أو من قوة ضامنة وحامية, والمفارقة أن زمن' مبارك' كان يعطي الضمان والحماية للفساد, والآن ليس هناك ضمان أو حماية للإصلاح!!
ثم هنا قضية أخري من أخطر قضايا اللحظة, مؤداها أن كثيرين من المؤهلين علي أعلي مستوي, والقادرين بالتجربة والكفاءة اعتذروا حين عرضت عليهم الخدمة العامة في هذه الظروف, لأن المطلوب منهم كما قلت خطير, لكن عليهم أن يقوموا به دون سند أو غطاء أو حماية, وإذا كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة نفسه سوف ينسحب بعد شهور, فكيف يمكن لمدني أن يؤدي دورا بالجسارة المطلوبة- إذا كان بعد شهور قليلة سوف يواجه سلطة لا يعرفها من قوي معظمها بلا جذور, وفي ظروف عاصفة لا أحد يعرف مصادر رياحها, ولا سرعة حركتها, ولا طبيعة المسئولين عنها!!!
تتصل بذلك نقطة مهمة وهي أن الظروف التي مرت بها مصر في السنوات الثلاثين الأخيرة علي وجه الخصوص, لم تؤد إلي جفاف بحر السياسة فحسب, وإنما أدت إلي ضحالة شديدة في كل شيء, بما في ذلك كفاءة الإدارة التنفيذية.
وفي العادة فإن بعض البلدان في مواجهة فترات التحول تستعين بخبرة أجنبية.
كذلك فعل' محمد علي' في مشروع القناطر الخيرية مثلا- وكذلك فعل' جمال عبد الناصر' في مشروع السد العالي في مثال آخر.
والخبرة الأجنبية في هذه الظروف الدولية قد تكون موضع شك أو شكوك, لكن السؤال هل كان ممكنا تعويضها بمصريين من الخارج؟!
وفي تجربتي شخصيا فقد حضرت ذات يوم مؤتمرا للخريجين العرب من الجامعات الأمريكية عقد في' شيكاجو', وهناك عرفت أن في الولايات المتحدة وحدها قرابة ربع مليون رجل وامرأة يحملون شهادتي الدكتوراه والماستير, وقد بقوا هناك ولم يعودوا بسبب ظروف طاردة أحسوا بها في الوطن المصري, لكنهم هناك موجودون في أرقي الجامعات, وبعضهم في أرقي المناصب, ولديهم أعلي مستوي من الخبرة, وبعضهم علي استعداد لأن يخدم وطنه الأم, لكن بعض الناس في الوطن لا يريدون, بدعوي ازدواجية الجنسية, أو بدعوي الزواج من أجنبية, وهذه بالضبط حالة رجل مثل' أحمد زويل' وغيره آلاف وعشرات ألوف علي بقاع الدنيا, وذلك مدد إنساني وذخيرة بغير حدود, لأن معظم هؤلاء يتمنون لو استطاعوا أن يردوا الجميل للوطن الأم!!
والملخص أننا في حاجة إلي خبرة من الخارج, تعوض تآكلا في الداخل أصبح مخيفا!!
لكننا لا نستطيع استخدام خبراء أجانب.
ثم إننا لا نريد مصريين من الخارج.
ثم إن الأكفاء داخل مصر عرايا من غطاء مدني أو سياسي يسند ويحمي.
وتلك معادلة غريبة, مؤداها أن تظل أحوال الفراغ تدور حول نفسها حتي تصاب بالدوار وتقع علي الأرض!!
وتلك كلها وغيرها مسائل لا يريد المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يبت فيها أثناء فترة الانتقال, بفهم أن فترة الانتقال عابرة, في حين أن فترة الانتقال في أي مفهوم طبيعي- هي فترة تؤسس لما بعدها, وتمهد طرق التحول, وهو بداية طريق جديد.
كل ذلك شكل أزمة, لكن الأزمة زادت عليها مضاعفات أشد خطورة, فقد كانت الأزمة ثلاثية الأطراف, فإذا هي تصبح مضاعفة عدة مرات, لأن أطرافا إضافية دخلت إلي الساحة وزادت من أثقال حمولاتها.
ويستكمل الأستاذ صورة اللحظة الراهنة قائلا:
كانت هناك ثلاثة أطراف تتحرك في الحالة الثورية المصرية وتعقيداتها, وزاد عليها بعد الثورة أطراف مستجدة, وكان الأمل أن تكون زيادة عدد الأطراف بالإيجاب, لكنها لسوء الحظ أضافت إلي العقد أكثر مما ساعدت علي حلها.
أولي الزيادات التي جاءت إلي الموقف المعقد وزادته تعقيدا كانت أوضاع السلطة التنفيذية.
كانت الظروف والضرورات تستدعي أقوي الوزارات في تاريخ مصر لمواجهة واحدة من أصعب مراحل تطورها, لكن الوزارات التي جاءت أقل من المطلوب, دون إغفال لقدر أحد من المشاركين فيها.
الأولي: كانت وزارة' أحمد شفيق', والرجل صاحب همة أقدرها له بصرف النظر عن اختلاف المواقف, لكن الرجل جاء متأخرا فلم يعط ما عنده, ثم إنه بدأ حين جاء بصرف وقته في أحاديث ولقاءات صحفية مستفيضة, وفي مقابلات ومداخلات تليفزيونية بالساعات, وقد كنت أتساءل مرات متي يكون لديه وقت للعمل, والغريب أنه بقدر ما اعتمد علي التليفزيون ليؤثر به, كان التليفزيون هو الموضع الذي تعثر فيه وسقطت عليه وزارته, ثم إن الرجل كذلك لم يكن موفقا في خياراته لمعاونيه, وربما لم يكن له دخل في اختيارهم, وربما, وربما, لكن العهد لم يطل به, والرجل ـ برغم كل ما يشاع عنه صاحب تجربة عسكرية ومدنية لها قيمتها, ثم إنه ليس صنيعة' مبارك' كما يتصور كثيرون.
ولعل تاريخه السياسي كان يختلف لو أن الفرصة التي واتته لرئاسة الوزارة وصلت إليه في ظرف مختلف, وفي كل الأحوال فإن الرجل لم يبق في الرئاسة غير أسابيع, ثم نزل الستار فجأة, وانطفأت أضواء التليفزيون, واختفت وزارة' شفيق'!!
وجاء الدور علي وزارة الدكتور' عصام شرف', وقيل للناس وفي بعض القول مسحة صدق إنه جاء من الميدان, أي ميدان التحرير, ومع أنه ليس من شأن الميدان أن يختار رؤساء الوزارات, فقد أشيع أن جماعات من الشباب رشحته للمجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي علم واستجاب.
وأنا شخصيا لا أعرف الدكتور' عصام شرف', وإن سمعت الكثير عن دماثة خلقه, لكني في نفس الوقت أستطيع من بعيد قياس أداء وزارته, ورغم وجود عدد من الشخصيات لها قدرها في نظري ضمن فريق فإن الأداء في مجمله غير مقنع, خصوصا في مثل هذه الظروف.
وفي كل الأحوال فإن السلطة التنفيذية التي كان عليها أن تعوض أوجها للقصور في الصورة العامة أصبحت هي نفسها جزءا من المشكلة, بدلا من أن تكون جزءا من الحل.
ولست أريد أن أظلم الدكتور' شرف' بغير داع, فأنا لا أعرف ما هي علاقته مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة, ولا درجة الانسجام بين وزرائه, ولا سلطة مجلسه في رسم سياسات المرحلة, وما يبدو لي من بعيد أنها هي الأخري تحت وهم أن مرحلة الانتقال مساحة فراغ بين ضفتين, وذلك خلاف لمنطق الانتقال حين يكون المطلوب هو بناء جسور للتحول.
ولكي تزداد الصورة اتساعا وعمقا فتح الأستاذ ملف الاعلام وقال:
وأصل إلي زيادة أخري نفذت الي صميم الأزمة, وأقصد هنا الإعلام, وأريد أن أقول بوضوح إنني لم أعرف لنفسي طوال حياتي وعلي امتداد عملي- مهنة أخري غير الصحافة, ولم أرض بديلا عنها, حتي لو كان أكبر المناصب في الدولة, وإذن فإنني منحاز للمهنة ولحريتها بغير حدود- لكن أمانة المهنة حتي قبل أمانة الحقيقة تفرض علي أن أقول أن الإعلام المصري ليس موجودا حيث يتمني له أصدقاؤه وأحبابه, والدليل دون مكابرة أن قوة التأثير فارقته, وتوجهت إلي غيره, وقد ساعد عصر' مبارك' علي ذلك الفراق رغم وجود مساحة من الحرية ـ لابد من الاعتراف بها ـ صنعت نجوما يستحقون إعجاب قرائهم ومشاهديهم.
لكن هناك مشكلة غائرة لا يريد أحد أن يتحدث فيها, وهي ملكية وسائل الإعلام.
ما يسمي بالإعلام القومي مرئيا ومسموعا ومقروءا واقع في أزمة, لأنه لا يعرف لنفسه صاحبا, وعندما تقدم إليه من ادعي بالملكية- مثل مجلس الشوري مثلا في وقت من الأوقات- فإن الاقتراب من الإعلام جاء فجا, وأحيانا بذيئا!!
ومن ناحية أخري فإن الإعلام الخاص- مع درجة من الفوران لا يصح إنكارها- مملوك بالكامل- تقريبا- لرءوس أموال لها مصالحها, وأستحيي أن أذكر الأسماء, فقد يكون في ذكرها شيء من الاستعداء أو الإساءة, لكن علينا أن نتذكر مقولة شهيرة ملخصها:' قل ما هي مصالح أي رجل, وأنا أقل لك ما هي أفكاره!!'.
أي أنهم جميعا أصحاب مصالح يريدون حولها سورا واقيا من النفوذ والتأثير.
ويشير بعضهم في صدد مناقشة هذا الموضوع إلي' روبرت ميردوخ' صاحب شبكة' سكاي', وصاحب أكبر الجرائد في أمريكا وأوروبا, لكن علينا أن نتذكر هنا مسألتين:
الأولي: أن' ميردوخ' لا يستثمر أمواله في غير الإعلام بأنواعه, من الحرف إلي الصورة, ومن الصحيفة إلي الشبكة, وإذن فقصاري مصالحه هو الترويج, ومع ذلك فقد دفع به طلب الترويج إلي حافة الجريمة بجرائد يملكها وتحقق سبقها بالتنصت علي شبكات التليفون المحمول لنجوم السياسة والمجتمع والرياضة, وهو داخل اليوم للمساءلة القانونية لهذا السبب, كما دخل من قبله أحد كبار ملاك الصحف وهو اللورد كونراد بلاك- أحد أصحاب مجموعة التلجراف.
وفي المقابل فإن الإعلام المصري الخاص بغالبيته الساحقة مملوك لاستثمارات تعتبره وسيلة لمصالح أخري, وبصراحة فإن' ميردوخ' ليس داخلا لا في أراض, ولا في صناعة, ولا في مقاولات, ولا في الصادر والوارد, وإنما استثماره في رواج وسائله الإعلامية.
الثانية أنه مع أن' ميردوخ' متورط إلي أبعد مدي في التأثير علي القرار السياسي خصوصا في الولايات المتحدة وفي بريطانيا بهدف النفوذ السياسي, فإن رجال الأعمال في مصر ممن يهتمون بالإعلام يفعلون ذلك لتعظيم مكاسبهم وأرباحهم في تجاراتهم وصناعاتهم الخاصة, وكذلك طلبا لنفوذ يحمي المصالح وأصحابها.
وذلك أمر يحتاج إلي مراجعة, لأن الإعلام الخاص- كما الإعلام العام- دخل طرفا في تعقيدات الأزمة ومستجداتها, وأضيفت إلي الخلط المتراكم شحنة أخري, واصلة للناس بحمولاتها كل صباح, مؤثرة عليهم بذات الهم كل مساء, والهم آخره كابوس مخيف حتي وإن بدا في أوله حلما جميلا!!
ولست أريد قيدا علي الإعلام الخاص, ولكني أتمني أولا شفافية معلنة في الملكية, ومسافة واضحة بين الملكية والتحرير- مسافة محققة وقانونية وعاقلة, وهذه مشكلة واجهتها الصحافة البريطانية وغيرها, في الفصل بين الملكية والتحرير, وبين مصالح المال وقرار السياسة!!
وربما أن التجربة الإنجليزية تستحق الدرس!!
وأتذكر أنني حضرت اجتماعا أول الستينيات في مقر جريدة التايمز, وفي مكتب دنيس هاميلتون رئيس التحرير في ذلك الوقت. وكان بين حضوره هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا وقتها واللورد روي تومسون الذي كان يتفاوض لشراء صحف التايمز والصنداي تايمز. وأتذكر أن رئيس الوزراء البريطاني وهو هارولد ماكميلان راح امامنا يقول لتومسون: أن الرأي العام البريطاني لن يقبل أن تكون جرائده مجرد ملكية رأسمال وإنما سوف يسألنا الناخبون عن القيم والقواعد التي تتصل بالتأثير علي الرأي العام ودقة معلوماته. ونظر ماكميلان الي اللورد تومسون وهو يخاطبه باسمه الأول: روي.. الصحافة ليست سوقا. ثم كرر القول بقصد التأكيد مرتين.
ولاأريد أن أتزيد ولكن قد أتجاوز وأقول إن هناك نشاطا واسعا بشأن ملكية وشراكة وسائل الإعلام المصرية يجري الآن في لندن, بل وهناك اشارات من أصحاب الصحف من داخل طرة.. هل أضيف أيضا أن3 رجال وليس أكثر يتحكمون الان في الاعتمادات التي تخصص للاعلان في مصر وحجمها يقارب المليار جنيه.
وهذه الاعتمادات الاعلانية وفي غيبة مقاييس علمية لتخصيص الاعلانات تستطيع انجاح صحف وفضائيات وتستطيع اعدام صحف أخري وفضائيات, وهذه قضية تحتاج إلي حسن تقدير قبل أن تحتاج الي تسرع في الاجراءات وحملات كراهية ضد المسئولين عنها بلا لزوم.
ويبقي الجانب القانوني بشقه السياسي الذي لم ينسه الأستاذ وقال:
هناك عنصر آخر شديد الحساسية وهو يتمثل في الإسراع إلي تصدير دور القانون, حيث كان الواجب أن يتصدر, لأن السياسة حاولت أن تتجنب الحرج.
والذي حدث أنه حين وقعت الثورة كان قانون التاريخ قبل أي قانون يفرض حسابا وجزاء, لأن ما تعرض له هذا البلد من أهوال كان من صنع السياسة, وكذلك كان الحساب والجزاء المطلوب قبل غيره هو الحساب السياسي. وكان مطلوبا من السياسة أن تدقق في جوانب ما جري في الداخل وفي الإقليم والخارج. وكلها مجالات مرشوقة بجرائم كبري, وكان يجب بعد التدقيق أن يحدث فرز يحيل ما هو سياسي إلي هيئة قادرة ومخولة لمناقشته وطرحه علي الناس, وتبيان أوجه الخلل فيه, والحساب عنه كجرائم سياسية, بما في ذلك جريمة تطويع القوانين والتلاعب بها, وتفصيلها لحساب غرض وهوي.
وفي الوقت نفسه فإن ذلك لا يمس ولا يصح أن يمس كل الوقائع المحققة جنائيا, أي التصرفات التي تورطت في الفساد واستباحت حرمة المال العام, وتعودت استغلال النفوذ, ونهب الموارد, وانتهاك حقوق الإنسان وغير ذلك من الآثام والخطايا.
كل تلك جرائم جنائية يتصرف حيالها القانون, وبالإجراءات العادية والطبيعية.
بمعني أن العدوان علي قيم النظام الجمهوري أكبر من أن تكون المحاسبة عليه بدعوي ملكية بيت هنا أو بيت هناك.
ما يمس النظام الجمهوري في حيز السياسة, والفساد وإلافساد حتي إن تغطي بنص في حيز النيابة وتحقيقاتها وسلطاتها.
لكن المجلس الأعلي فيما يبدو أراد إعفاء نفسه من مشكلة الحساب والجزاء, وكذلك جري ترك كل شيء إلي النيابة العامة, وإلي جهاز الكسب غير المشروع, ووجد النائب العام وزميله في جهاز الكسب غير المشروع أنفسهم أمام طوفان من البلاغات, بعضها جدي وبعضها كيدي, وهو أمر طبيعي في مثل تلك الأحوال.
ثم إن بعضها سياسي ليس في اختصاص من أحيلت إليه, كما أن كثيرا منهم ارتكب جرمه الفادح في حماية نص قانوني مصنوع لهذا الغرض.
وإذا كان قرار السياسة قد أراد إعفاء نفسه من الحسم, في هذه المسألة الكبري فإن النيابة العامة وغيرها من أجهزة التحقيق القانوني لم تجد بدا من حماية نفسها بالنظر في كل شيء خصوصا وهي تريد أن تنفي عن أجهزتها شبهة ممالأة النظام السابق وتضمن توسيع وتسرع الإجراءات لتجنب الوقوع في الخطأ مع لحظة بدا فيها وكأن ما يجري مطاردة للساحرات كما يقولون في تاريخ أوروبا قبل النهضة, عملية Witchhunt, وكانت هذه العملية فادحة التكاليف علي مؤسسات كبيرة وعلي اعصاب رجال ونساء وعلي سمعتهم, وربما أنها كانت من الأسباب الرئيسة في تعطل صدور قرارات كثيرة في مجالات بعيدة, سواء في مجالات الأمن أو الاقتصاد, لأن كثيرين لم يرضوا لأنفسهم أن يعيشوا تحت سيف بلاغ يتصرف فيه من يتلقاه بالإجراءات أولا, ثم يجري تعليق مصيره حتي يجيء دور التحقيق في شأن ما وجه إليه.
ثم زادت حمولة أخري.
في هذه الأجواء وما حولها فإن عناصر كثيرة وجدتها فرصة لتستولي علي الشارع, جماعات ذات أهداف سياسية متباينة, وأيضا ذات مقاصد ونوايا مختلفة, لكن الأخطر أن هذا الزحام أوجد مسرحا لانفلات أمني كما يقولون وحتي لجرائم من النوع العادي, وفيه قطع الطرق, والسطو المسلح, والابتزاز, واستبيح الشارع لأغراض متصارعة, وهذا كله طبيعي عرفته الثورات, بل إن هذا الانفلات كان هو سبب ظاهرة' نابليون' التي جاءت لوضع حد للفوضي, وكانت نتيجة تدخل' نابليون' هي الاستيلاء علي الجمعية الوطنية الفرنسية ذاتها, لأن هذا المحفل العريق سيطرت عليه في النهاية مجموعات متشددة- إرهابية- دموية- انتهازية, وأصبحت قاعة الجمعية الوطنية ذاتها مسرحا ضاع فيه الصالح مع الطالح, وذاب فيه الثوري مع الدموي, وتصدر فيه الفاسد وهو ضد الثورة عمليا, لكنه بالصوت العالي أخذ منبر الجمعية الوطنية واحتكره, وأبعد عنه كل صوت للحق والمبدأ.
ولقد شاهدت بعيني سواء علي الطبيعة أو في الصور مشاهد لا تصدق مما يجري في الشارع المصري, وكان شعوري أن القائمين بها لا ينتمون إلي الثورة, وأخف الضرر فيما يفعلون أنهم يعطون الذريعة والمبرر لكل المطالبين بالقمع والقهر, بمقولة الاستقرار والأمن.
وفي هذه الأجواء لم تكن مصر داخل أنبوبة معقمة, كان العالم حولها مليئا بالقوي, التي وجدت في حالة السيولة والفوضي- فرصة تمد إليها أصابعها, تحاول أن تأخذ, أو تحاول أن تبث, أو تحاول أن تطوع.
بعض التدخل الخارجي جاء من قوي كبري وجدت في الربيع العربي الذي فاجأها في' تونس' و'مصر' فرصة نادرة للاستغلال, وكذلك فعلت أمريكا وفرنسا وإنجلترا, وكلها رفعت ألوية حق يراد به باطل, ثم جاء هذا التدخل أيضا من الإقليم, فقد كان في الجوار المباشر وغير المباشر من المتدخلين كثيرون, وأعرف لسوء الحظ أن ملايين من الدولارات وصلت إلي من لا أعرف, وملايين أخري أشك أنه وقع' دسها في جيوب ناقليها' قبل أن تصل إلي عناوينها, وذلك فصل من أغرب الفصول في قصة الربيع العربي.
وان كان لايصح معها القاء التهم جزافا, وعلي أي حال فقد عرف التاريخ الانساني من قبل تجارة في دم الناس وفي بيع وتهريب السلاح وتجارات في فضائل العفة والاخلاق باغراءات الجنس, كذلك عرف التاريخ تجارة في عواطف وآمال وطموحات الشعوب والأمم.
اننا استعرضنا معا صورة لملامح المشهد العام ودعونا نتذكر مرة أخري ونحن نناقش مناخ الربيع المصري والربيع العربي أنه حتي وإن بدا لنا أن مانراه الآن ليس ربيعا بالضبط فلنذكر أن الخماسين- عواصفها ورمالها وترابها وعتمة الليل عند الظهر أثناءها- هي ظاهرة موعدها الربيع ولذلك فلنقل انه الربيع لايزال.. لكنها هذه اللحظة موجة خماسين.
والآن ما العمل؟! وهنا أترك لكم الحوار تديرونه كما ترون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى

ADDS'(9)

ADDS'(3)

 


-

اخر الموضوعات

مدونة افتكاسات سينمائية .. قفشات افيهات لاشهر الافلام

مدونة افتكاسات للصور ... مجموعة هائلة من اجمل الصور فى جميع المجالات

مدونة افتكاسات خواطر مرسومة.. اقتباسات لاهم الشعراء فى الوطن العربى والعالم

مدونة لوحات زيتية ..لاشهر اللوحات الزيتية لاشهر رسامى العالم مجموعة هائلة من اللوحات

من نحن

author ‏مدونة اخبارية تهتم بالتوثيق لثورة 25 يناير.الحقيقة.مازلت اسعى لنقلها كاملة بلا نقصان .اخطئ لكنى منحاز لها .لايعنينى سلفى ولا مسلم ولا اخوان يعنينى الانسان،
المزيد عني →

أنقر لمتابعتنا

تسوق من كمبيوتر شاك المعادى