السهم يخترق القلوب بريشته، كالسيف يبتر رءوسنا فى أفكاره.
يكفى أن نذكر اسم هذا الرجل هكذا «حجازى» دون أن نعرفه، فيعرفه الجميع، ولدى الجميع صورة لكاريكاتير ملتصقة بجدران ذاكرته، يقفز اسمه إلى أذنك، فتقفز رسومه فى عينيك، لذلك سيظل الأستاذ حجازى خالدا ولخلوده سر، فسر الخلود لا يعرفه الناس إلا عبر الأساطير، وكان الرجل أسطورة.
لم يكن يوما مجنون شهرة كصلاح جاهين العبقرى، ولم يكن مجنون سياسة كعمنا العظيم بهجت عثمان، وبالطبع لم يكن مجنون مال ككثيرين الآن، بل كان الرجل مجنون فن، خالص الفن، وخالص الجنون به، ومخلص لفنه ولجنونه، ذات يوم كنت فى زيارة لبيت عم بهجت عثمان رحمه الله وكنت برفقة صديقى الجميل عمرو سليم تلميذ الاثنين، حجازى وبهجت، وكان ميعادنا فى السابعة صباحا، كنت منبهرا بهذا اللقاء، أخيرا سأجلس لعم بهجت وجها لوجه، وهو رجل طيب القلب حاد المزاج والطباع، وقد تحدثنا كثيرا وجاءت سيرة حجازى، وكنت أنا صاحب السؤال، بل كنت متحفزا جدا فى معرفة هذا الرجل، وما أن نطقت اسم حجازي، حتى راق وجه عم بهجت وابتسم ابتسامة عذبة، ظهر وجهه الطفولى فيه، وكان قد أرسل خياله وعينيه للماضى، وقال: حجازى ده حاجة تانية خالص ده الألفة مجنون بفنه، الريشة فى يده أشك أنها ترسم وحدها، الريشة تقرأ أفكاره وترسم هى، حجازى كل رسوماته من عقله وريشته دون وسيط، حجازى فنان من يوم ولدته أمه، خلق ليرسم، وهو كان يعرف ذلك جيدا، لا وظيفة له سوى الفن، كان مبهرا لأقصى درجة، غير راض عن نفسه لأقصى درجة متصالحا مع نفسه لأقصى درجة، ديكتاتورا فى فكرته لأقصى درجة، وتلاحظ أننى قلت أقصى كثيرا، فهو كذلك لا يعرف سوى الأقصى، وأضاف عم بهجت: حجازى.. إلا حجازي، أنت جاى تتكلم عن حجازي، ده فوق الكلام وفوق التوصيف ده عبقرية لوحده يا ابنى، وقد كنت انتهينا من اللقاء. ورحلت ورحت أردد كلمات عم بهجت عن حجازي، وتذكرت علاقتى طفلا بهذا الرجل، فوجدت أن وجدانى ووجدان كل من فى سنى ممن كانوا يتابعون مجلة «ماجد» الإماراتية للأطفال قد صنعه الأستاذ حجازى وترك بصمة ريشته على صفحات ذكريات الطفولة التى تنطوى، لكنها لا تقطع بفعل الزمن.
(2)
انظر بفرحة لأعمال حجازى وانظر بحزن وباكتئاب وبحماس وبشك وبغيرة وبحب وبعقل إلى رسومات الأستاذ حجازى، شعور واحد فقط هو الذى ستنتهى إليه، الصفاء، وهى كلمة لو تعلمون لا يعرفها الكثيرون.
لا تتواجد مع الإنسان إلا فى حالات الصلاة والصوم والجنس وشرب المياه بعد عطش، وكلها حواس تمس القلب دون وسيط، فيشعر الجسد بالصفاء الذهنى والرضا العام، هذا ما تشعر به، وأنت ترى رسومات هذا الأستاذ العظيم.
فجأة دون سابق تفكير، وجدت أن رسومات حجازى مثلها مثل تمثيل نجيب الريحانى، تبتسم ولا تضحك بالقهقهة، لكنك تفكر، وتتعجب من سلاسة الأسلوب وبساطة الفكرة، وعمقها النافذ فى عمق الشخصية المصرية، تسخر بحب وبرفق دون أن تترك على وجهك تكشيرة، بل ابتسامة ذات معنى، غالبا لا تعرف معناها أو توصيفا لها، لكنك ستجد نفسك وقد انتقلت من مرحلة فكرية إلى مرحلة فكرية أخرى، وتجد نفسك كذلك، تتمعن فى اللوحة لفترة، وترى كل جوانبها وتركز فيها وتعيد قراءة تعليقه مرة أخرى، وتشعر بأنك تحمل طفلا صغيرا بين يديك، فتضعه على المائدة برفق دون أن تقذفه بعيدا.
قيمة فى يديك لا يمكن أن تهينها، لذلك لا يمتد إلا لبعض دقائق، هى وقت مشاهدتك لأعمال حجازى وكذلك الريحانى، كلاهما يتمتع بالبساطة والعمق والمغزى الفنى المتقن والإخلاص فى العمل والإخلاص إلى الناس وهنا سر خلود حجازى، الإخلاص إلى الناس.
(3)
الفن، أى فن إن لم يكن جميلا ومفيدا وصالحا ومهما، فلن يدخل إلى قلوب المصريين ذلك الشعب العظيم المخلوق فى جيناته منذ خلقه الفن، هناك شعوب مخلوق فى جيناتها العمل كاليابانيين والألمان، وهناك شعوب مخلوق فى جيناتها العنف كالبدو والفرس، وهناك شعوب مخلوق فى جيناتها المتعة كالأمريكان.
أما الشعب المصرى فالفن جين مهم فى تركيبته البدائية، كذلك لم يبن المعابد إلا وعليها رسومات فنية، لم يبن الأهرامات وأبوالهول إلا والمغزى الفنى موجود بجوار المغزى الدينى والجغرافى، هكذا ولد المصريون، لذلك فهم شديدو الحساسية تجاه أى فن قد يتلقونه «صدفة أو عن طريق عمد»، الفن وحده يقيمه المصريون بميزان حساس، ميزان إلهى وضعه فى قلوبهم، لذلك صنعنا المثل العام العبقرى ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب، وهنا مرة أخرى خلود حجازي، فهو يرسم بقلبه بعدما يفكر عقله فى الفكرة، فتدخل صافية إلى عيوننا وتنفذ للقلب مباشرة دون حواجز إنسانية، وتوقف أمام أى لوحة من لوحات حجازى، ستجد فيها أهم شىء فى الفن: الحياة، فى كل رسوماته تجد حياة حتى لو رسم دجاجة أو حماراً أو حصاناً أو قطة أو كلباً، يضخ حجازى من روحه الجميلة، الحياة فى كل رسوماته، فتجد الدهشة والضحكة والغضب والحب والسخرية والشكوى كلها حقيقية كأنها منقولة من الواقع لا رسوم خيالية كاريكاتيرية لاتعبر إلا عن الفكرة بل اللوحة كلها متكاملة العناصر، الرسم والتعليق والأشياء الصغيرة فى اللوحة، كتلة واحدة متكاملة أمامك، وضعها هو أمامك وكأنه يقول لك، تفضل قطعة من جسدى وبعضاً من دمى وعقلى أمامك فلا يمكنك إلا أن تندهش من جمال ما رأيت فى اللوحة، فهو يرسم بكل قطعة فى جسده.
كنت قد جمعت بداخلى الشجاعة واتصلت به فى بيته القديم بالمنيل، وكنت قد تمردت على نفسى بأنى لن أقترب من فنان أحبه كى لا أفقد الدهشة التى أتلقاها بمجرد النظر لأعماله، كأحمد زكى ومحمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وبهجت وحجازى وقد قابلت كل هؤلاء وجها لوجه لا أفعل شيئا سوى النظر إليهم مشدوها منبهرا مندهشا، أسأل فى جملة قصيرة وأستمع باقى الجلسة وأنا أراقب حركة اليدين والأصابع والعينين اللامعتين دوماً والملابس والحذاء، وكلهم متشابهون تماما فى الطريقة والإحساس وإن اختلفت التفاصيل، لأنهم جميعا يمثلون الحقيقة المجردة، وتوسطت لدى صديقى عمرو سليم أن يتحدث إليه ويستأذنه لأكلمه، وقد حدث أتذكر دقات قلبى السريعة، توترى وأنا أمسك بسماعة التليفون وقلت بصوت مبحوح ألو، فسمعت أهلا صوت راق صاف تماما، تشعر بأنه مصحوب بابتسامة خجل قلت أزيك يا أستاذ يا عظيم قال أهلا وسهلا وكان قد سمع اسمى من عمرو سليم فقال أزيك يا طارق قلت تمام قال أخبار صباح الخير إيه أنت الأمل فى الصبوحة أنت تعرفنى قلت وهل يخفى القلم، أنا مفتون يا أستاذ بكل رسوماتك وقد تربيت عليها صغيراً فى ماجد، قال كمان وأكملت كل رسوماتك فى صباح الخير وروز اليوسف فضحك الأستاذ ضحكة صافية وقال ياه ده أنا مشهور بقى وأنا معرفش قلت طبعا قال اسمع أنا راجل بسيط أعمل ما أحب ولا أحب أن أدخل فى تفاصيل كثيرة فى العمل والحياة والعلاقات التى تعرفها، أنا مرة عرض على الانضمام للأهرام وطلبنى الأستاذ هيكل بنفسه، واعتذرت إليه مشكورا، عارف ليه أنا بأحب صباح الخير وروز اليوسف ده بيتى يا أخى حد ممكن يأخدك من بيتك وذكرياتك وحنينك رغم عرض هيكل المغرى ماديا لكن المؤسسة بتاعتكو دى أغلى من أى حاجة فى الدنيا عشان كده بقولك خلى بالك من صباح الخير، فاهم قلت فاهم وضحك ضحكة عالية الصوت وقال أنتم الأمل ربنا يوفقك قلت: مع السلامة قال بأدب جم، أتفضل يا حبيبى مع ألف سلامة، عاوز أشوفك يا طارق قلت ياريت وتوالت بيننا التليفونات وقد وصل إلى شعور واحد عن هذا الرجل الفلتة الفريد.
شعورى كان يتأكد مع كل مكالمة، طويلة أو قصيرة بأنه يعيش عالمه الخاص الذى صنعه لنفسه، وراح يبنى تكوينه رويداً رويداً، حتى اكتمل عالمه كان يعيش بين رسوماته وأشخاصه ومدنه ومقاهيه وشوارعه وحاراته ونسائه وأطفاله، وسمائه وشمسه، عالم خاص يعيش فيه ولا أحد يشاركه فيه، ففى البيت يمكنك أن تتكعبل فى فضولى، أو ترى حبيبين يجلسان تحت شجرة أو تجد شمسا وسماء صافية، لذلك لم يتزوج الأستاذ إلا أياما معدودة من سيدة فاضلة، لم يتزوج هو بعد فراقه عنها، ولم تتزوج هى بعد فراقها عنه فهو لا يستطيع أن يعيش عالما آخر غير الذى رسمه فى لوحاته، فهو جزء من التكوين الكونى كالقمر والسماء والشمس والشجر والعصافير والناس صورة مكتملة لذلك لم يرسم نفسه أبدا، لأنه هو ذلك التكوين الكونى، ولا يمكن لهذا التكوين أن يرتبط بعلاقة زواج يدخل فيها بمسئوليات الزوج والأب.
صحيح كانت له صداقات نسائية كثيرة أهمها سعاد حسنى، لكنه كان يحافظ دوما على المسافة التى تجعله يعيش عالمه الخاص به ولا أحد يتخطى تلك المسافة وإلا قد اعتدى على جسده هو، لذلك كان الرجل راهباً فى محراب فنه الخاص، أختار أن يعود لبلدته ويترك القاهرة ويترك الرسم الكاريكاتيرى يأسا من نظام مبارك العقيم، وعاش بين رسومات الأطفال حيث يجد الصفاء والطهارة والبراءة فيه، أما ما تركه من فن كاريكاتيرى فانظر لأى لوحة رسمها إما فى الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات ستجدها ملائمة تماما للوضع الراهن الذى نعيش فيه وهو لا يدل إلا على شىء واحد كما قلنا أنه جزء من مصر، من التكوين الكونى، فهل تتغير الشمس أو القمر أو السماء أو الشجر أو العصافير بالأحداث لا يمكن أن تتغير أو لا تصلح فائدتها فى أى عصر، هكذا رسوم الأستاذ الجميل حجازى، وهذا اسم خلوده، فنان خالد على لوحة الفن المصرى، أسطورة سنحكى عنها ونروى ويبقى فنه المرسوم بعقله وقلبه ودمه وإحساسه سلام عليك يا أستاذ.. سلام يليق بفنك، سلام يليق بك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى