28/10/2011
من هو الرسام الرائع حجازى
القاهرة ـ وائل عبد الفتاح: .."في سيارة النقل التي تحمل كل متعلقاتي الباقية.
سألت نفسي: هل فشلت؟ استرجعت شريطاً عمره 50 سنة تقريباً.. وقلت: لا أنا خلصت". ضحك حجازي نصف ضحكة وهو يحكي لنا رحلة العودة من القاهرة الى طنطا.
حجازي هو: احمد ابراهيم حجازي في الاوراق الرسمية.
وهو: "حجازي الرسام" كما يعرفه قراء الصحف والمثقفون ومحترفو السياسة. رسوماته موجودة الآن في كل الصحف التي تبحث عن "تاتش" معارضة للحكومة.. رغم انه اعتزل رسم الكاريكاتير منذ اكثر من عشر سنوات.. وكان خبر اعتزاله "حدثاً سياسياً.. باعتباره اشارة احتجاج من رسام ظل اكثر من 20 سنة يرسم النكتة السياسية في اشهر مجلات القاهرة "روزاليوسف" و"صباح الخير".. وكان واحداً من مدرسة صحافية كاملة أنشأتها ممثلة مسرح شهيرة (فاطمة اليوسف).. ومعها صحافي لامع (محمد التابعي) وكانت تعتمد على الرسم باعتباره اسلوباً صحافياً يؤكد طابع "المشاغبة".
نحن الآن في المسافة من طنطا الى القاهرة.. عم فؤاد معوض صاحب الكتابة الساخرة عن حياة نجوم السينما وراء الكواليس والشهير منذ السبعينات بفرفور.. ومحمد جمعة.. وأنا.. ثلاثة أجيال مختلفة في رحلة الى عالم حجازي.
فرفور كان الوسيط الذي أقنع حجازي باستقبالنا.. كانت له مصلحة في الوساطة.. تلبية نداء الحنين الذي يلعب بقلبه وعقله كثيراً هذه الأيام.. أنه يحن الى أيام زمان.. وفن زمان.. ويحكي عن حجازي متبوعا بكلمة واحدة.. "..ياسلام...."... وحركة من الشفاة تعني التلذذ باسترجاع الصورة الهاربة.
أما جمعة فهو الجيل الاحدث حركته غواية تصوير فنان يرى لوحاته في البيت منذ أن كان في الثامنة.
ثلاث رغبات في رحلة واحدة كنا نبحث فيها عن متعة كاملة.. زيارة حجازي.. والسفر.. وربما قليل من الفطير والعسل والجبنة في الطريق.
هناك قابلنا حجازي بملذات أكثر.. اقلها الفستق.. والبطارخ (قال لي: ".. كل منها إنها مقويات صحافة.."..). وأكثرها حكاياته.. هو الرجل الذي استقبلنا بجلباب رمادي وسيجارة في منتصفها.. وأحضان وقبلات.. رغم انها اول مرة بالنسبة لي أنا وجمعة.
رغم هذه الحميمية شعرت بسور شفاف يحمي به حجازي نفسه.. يختفي خلفه حتى عن أعز الأصدقاء من أيام القاهرة وحتى الآن.. حماية لنفس خجولة.. تخاف من اللمس القاسى.
هذا رغم أنه "مقاتل" في الرسم يستيقظ في السادسة ويذهب الى المجلة قبل السعاة.. ويرسم كأنه في مهمة حربية.. ثم يغادر المجلة قبل أن يأتي أحد من المحررين.. ليبدأ حياته على هواه.
مقاتل.
ترك القاهرة. ويعيش الآن في طنطا. تبدو بدانته ملحوظة. لكن نظرته الحادة تعيدك الى رشاقته الدائمة.. وخفة روحه.. وأولاً وقبل كل شيء الى غرامك به قبل أن تراه.
وهذا كان أمتع ما في الرحلة الى حجازي.
الملك والكمبيوتر
تغير حجازي تماماً بعدما رضخ لصفقة فتح جهاز التسجيل قبل أن نترك بيته بعد سهرة استمرت 7 ساعات.
كان يحكي ويلقي النكات ويطارد القفشات من هنا وهناك.. رفض أن يدور التسجيل.. "ماذا سأقول..؟!.. وهل أفعل مثل النجمات التي يسألها الصحافي: "ما هي عيوبك..".. فتقول: ".. الكرم والصراحة.." (..نضحك ويكمل)...: "..إحنا قاعدين قعدة حلوة.. لماذا ستفسدها بهذا الجهاز..".
هذا التعليق قادنا الى حوار حول التكنولوجيا.. وهل يعرف استخدام الكومبيوتر.. والمحمول.. وكان تعليقه لافتاً: ".. تعرف أن التخلف فيه حاجة فنية برضه.. تخيّل أنك تصور إمراة حديثة الآن.. لن تجد في الصورة سوى واحدة تقف أمام مربع ابيض هو البوتوجاز.. لكن إذهب الى الست في الريف امام الفرن البلدي سترى ثراء في تفاصيله وتصميمه والأشياء التي تستخدمها وملابسها.. و.. صورة ستكون تفاصيلها غنية جداً..".
التخلف أحياناً يكون اكثر فنية.. "حاولت تعلم الكمبيوتر هنا من أقاربي الصغار لكى ألعب معهم ألعاب مثل الفيفا.. احتجت ثلاث ساعات لكي أعرف كيف يمكن أن أضغط على الأزرار.. هم يتعلمون ذلك في خمس دقائق".
"طفل.. كبير".
خرجنا بالتوصيف من حكاية العاب الكومبيوتر.. وتلال الصحف وشرائط الفيديو التي تباع الآن على الأرصفة لأفلام الكاراتيه والعنف والمغامرات الكوميدية.. هل يتابع حجازي ما يحدث في العالم؟ أم يكتفى بملعب عزلته هنا بعيداً عن القاهرة بـ90 كيلومتراً تحيطه الأجيال الجديدة من العائلة.. عرفت أنه يتابع كل ما يكتب.. ويتقصى كل تفصيله.. وله رأي لماح: "..تعرف.. الآن ليست المشكلة فقط في أن رؤساء التحرير لا يملكون موهبة.. لكنهم أراذل..".
ليس رؤساء التحرير فقط.. بل كل الذين يحاصرونك صباح مساء في واجهات الصحف والفضائيات.. أراذل.. لا يتمتعون بخفة دم ولا روح..: "..تخيل كانوا يقولون الملك فاروق فاسد.. وإذا دققت ستجد أن كل فساده أنه يلعب قمار.. ويطارد النساء.. أي أنه رجل يحب الحياة في النهاية.. لكن الفساد هذه الأيام رذل... وجوه اصحابه شرسة... لايعرفون الاستمتاع بمتعة واحدة إلا جمع المال أو سرقته بتعبير أدق..".
يحكي عن يوسف السباعى الذي كانت تنتظره المراهقات هو وإحسان عبد القدوس في مدخل مبنى روز اليوسف.. فقط ليروا كل منهما وهو يصعد الى مكتبه.. ".. هذا يوسف السباعي رمز ثقافة السادات كان ظريفاً وإنسانياً.. فى أول يوم تولى فيه رئاسة التحرير طلبت مقابلته.. قلت له أنا فلان وأريد الموافقة على سلفة 500 جنيه.. اندهش وقال لي أنا لم أعرف بعد ظروف المؤسسة لكنني أستطيع أن أحلها لك بشكل شخصي.. وأمر سكرتيره بأن يمنحني 500 جنيه ويجعلني أوقع على أقساط شهرية حددتها أنا.. حسب ظروفي.. والأعجب أن دهشته زادت عندما بدأت أسدد الأقساط.. لأنه على مايبدو تعوّد ألا تسدد الناس..".
تختلف معه لكن لا يمكن أن تكرهه.. أو تشعر أنه بلا روح أو إنسانية.
الدم الأزرق والدم الكاكي
رغم أن صفقة الكاسيت اقتصرت على 20 دقيقة فقط إلا أنها كانت كفيلة تغيير مزاجه في الكلام. توتره ظهر على السطح. كلامه أصبح خالياً من الحكايات. وإشاراته مسيسة أكثر.
سألته عن نظرته الى لحظات تحول فن الكاريكاتير.
قال: "صلاح جاهين هو الذي أحدث النقلة الحقيقية في الكاريكاتير من الأنماط السائدة الى كاريكاتير اجتماعي يدخل الحياة الشعبية ويرسم ناساً حقيقية مش أنماط مثل المصري أفندي ورفيعة هانم والسبع أفندي وسكران أفندي طينة.. لأنك تعرف أن أسوأ حاجة حتى في المسرح أنك تعمل نمطاً. وكلما خرجت عن النمط يكون الفن أجمل.. ولهذا كان ظهور ناس عادية بحكايات عادية نقلة في الكاريكاتير.. ناس بتشترى ساندويتشات فول أو بتقلي طعمية. صلاح جاهين له الفضل في هذه النقلة.... وكل الرسامين اتعلموا من صلاح جاهين وابتدوا يفهموا أن الكاريكاتير مش مداعبات ولا خفة دم من غير سبب. بدأوا يلتفتوا الى أن الكاريكاتير ممكن يبقى عن ناس عايشين في المجتمع وعندهم مشاكل. وقتها كان رسامون مثل جورج البهجورى وبهاء اهتموا بفكرة الاسلوب كيف يرسم الكاريكاتير. وليسوا كيف يفكرون.لكن صلاح جاهين حرك المسألة وجعل الناس تنتبه الى أن تعمل كاريكاتير اجتماعي بالمعنى الحقيقي. الى أن جاءت الأحداث السياسية الكبرى في مصر بداية من عدوان 56 أي بعد الثورة بأربع سنين ثم بعدها وغيرها 67,. وكان فيه نوع من الغليان السياسي.. عمل كاريكاتيراً سياسياً فكل الناس اشتغلت على فكرة الكاريكاتير الاجتماعي والسياسي على اختلاف المستويات. لكن يبقى صلاح جاهين ألمع هذه المدرسة. بعد سنين اصبح هناك ناس تانية موجودة جنب صلاح جاهين أنا وصلاح الليثى وبهجت عثمان ثم أتى بعد ذلك جيل اصغر مثل جمعة فرحات ورؤوف عياد ودخل في هذه المدرسة تقريباً.... واصبحت "صباح الخير" و"روز اليوسف" منظومة من الشغل السياسي والاجتماعي بنغمات مختلفة. صلاح جاهين.. صلاح الليثي.. زهدي.. إيهاب. ولهذا كان في روز اليوسف حالة توحد.. أضف طبعاً الكتّاب أحمد بهاء الدين وكامل زهيري وفتحي غانم.. كانت حدوتة كبيرة.. وكنت تشعر وأنت تقرأ صباح الخير أو روز بصلة حقيقية بين الناس وبعضها.. مش زي دلوقت بتحس في الجرايد أن الحاجات مخاصمة بعضها.. أو أن الناس بيبعتوا الشغل من برة.. مافيش روح واحدة.. إحنا كنا في فترة جمعت أجيال كثيرة.. زهدي أكبر من صلاح جاهين.. وبهجت عثمان وجورج البهجورى في سن أصغر.. ثم أنا ورجائي ونيس.. أصغر.. لكن كنت تحس إن فيه روح واحدة حاكمة المجلة...".
..عرفت انه تعلم السياسة على يد حسن فؤاد (رسام وصانع صحف وواحد من الآباء الروحيين في الصحافة والثقافة والسياسة).. كان قد قرأ بيرم التونسى أول ما قرأ في طنطا.. لكن حسن فؤاد أعطاه كتاب "مشكلات الفن" من تأليف زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ.. وكان من المدهش أن يؤلف زعيم مثل ماو تسي كتاباً في الفن "..ربما هذا ما يجعلني أتذكر الكتاب حتى الآن..".. كانت "روزاليوسف" وقتها هي بوصلة اليسار بالمعنى الثقافي قبل السياسي؟ سألت.. وأجاب حجازي: "آه كان فيه الفكرة دي.. وكان المجتمع كله بشكل عام متجهاً الى اليسار.. ليس بمعنى أنه يبقى مجتمعاً شيوعياً.. لكن يسار بمعنى أنه باستمرار مع التقدم.. أنك خارج النظام شوية.. ومع فكرة التقدم. لأن النظام باستمرار عاجبه الوضع الحالي. "روز وصباح.. كان فيهم قلق على المستقبل وعايزين الدنيا أحسن من كده.... الأنظمة باستمرار بتبقى راضية عن الوضع الحالي لأنه لو اتغير هايتغيروا.. روز اليوسف وصباح الخير كانت في هذا الزمن تنادي بفكرة التقدم والتغيير... المجلة كلها.. الرسامون والكتاب.. ولم يكن هناك نغمة نشاز..".
وقال أيضاً: .."الصحافة أيامها كان فيها فكرة الهوى.. أنك بتروح المجلة وإنت فرحان.. عايز تشتغل.. عايز تشوف اللي جنبك بيشتغل إيه.. وفيه حلم كده يخصك بجانب الحلم القومى اللّي كان عند كل الناس.. الذي كان وكأن فيه سكة للوطن.. قدامهم مستقبل وولادهم هايتعلموا ويتخرجوا ويشتغلوا ويتجوزوا... كان فيه حلم الى جانب حلم القومية العربية. هذا الحلم الخرافي الجميل... كان فيه حالة شحن عامة في الصحافة وعلى مستوى الناس في الشارع. كان فيه نوع من الحماس وليس كذب وتدليس. وحتى عندما قال صلاح جاهين في غنوة "..عايزين تماثيل رخام على الترعة وأوبرا..".. كان هذا بصحيح. كنا مصدقين أن ده صحيح حلم فيه شكل الأسطورة شوية أو الخرافة لكن معناه أنه هايحصل تقدم في القرية. لأن القرية هي رمز التقدم.. وكان الحلم الحقيقى بجانب حلم القومية العربية التي لن تتحقق هو "تمدين الريف". ولهذا فالانكسار الحقيقى ليس في أن الحلم ضاع لكن في أنه بعد هذه الثورة "المباركة.." بدلاً من "تمدين الريف" حدث "ترييف المدن.." أصبحت المدن تشبه الارياف بالمعنى القديم.. عشوائيات وزبالة.. ولو حسبت نسبة المناطق العشوائية في القاهرة مثلا ستجدها 80%... هذا الترييف للمدن خلاصة ورمز لما حدث.."
هذا هو التقدم الذي صنعه ضابط بعد ضابط.. الفقراء بدلاً من أن يجلسوا حول طبلية ولمبة كاز.. أصبحوا يلتفون في العشاء حول القنوات الفضائية ويلبسون الجينز.. لكنهم فقراء أيضاً. وما زال سؤالي لم يتغير: ".. ما الذي يجعلنا فقراء جداً؟..".
يقول حجازي: "سافرت الى القاهرة من 50 سنة تقريباً.. وعدت الآن الى طنطا.. إيه اللّي حصل في 50 سنة..؟.. اللّي حصل انه عندنا شيكولاتة ايكا بس.. دلوقت عندنا 200 نوع شيكولاته. التقدم الوحيد في الحاجات الاستهلاكية غير الضرورية.. ده بس التقدم اللّي حصل في خمسين سنة. اليابان اللي بدأت نهضتها معانا عندها الآن تقدم وعندها أيضاً لبان وشيكولاته وبسكويت.. إحنا ما عندناش إلا الشيكولاته والبسكويت والشيبسي. في خمسين سنة لم يحدث شيء. مازالت مفردات الشكوى منذ أيام الملك فاروق كما هي بالضبط.. أي أن الحلم بأن أوضاع الناس تختلف من زمان الى الآن لم يتحقق.. ولم يحصل المواطن المصري على مرتب يكفيه أبداً.. وتسأل نفسك.. إيه التقدم اللي حصل الثورة قامت ليه؟!... فيه حاجة أسوأ. وقت قيام الثورة.. وأنا كنت فرحان جداً مثل معظم المصريين.. وقتها قالوا أن الثورة قامت ضد فساد الحكم.. و..الى اخر المبادئ الستة... قبل الثورة كان اللّي بيدخل الجيش يحتاج الى واسطة.. الآن أيضاً لا أحد يستطيع دخول كلية الشرطة أو الطيران إلا بواسطة.. ورشوة.. ويمكن أيضاً الآن أن نتكلم عن فساد يصل الى عمولات سلاح وفساد في مؤسسات كبيرة جداً... أنا لا أتكلم كلام ضد الثورة.. لكنني أقول بأن الثورة أخفقت في كل ما بشرت به.. شالت ملك فاسد.. وعملت الآن مليون ملك فاسد في مصر.. وبدلاً من الدم الازرق للملوك أصبح فيه الآن دم كاكي أهم بكثير من دم الملوك..".
"حلوة حكاية الدم الكاكي دي..".
كدت أن اقول له..
لكنه فاجئني: ".. كفاية كده تسجيل..".
وبدأت أستعيد الحكايات.
الرسام والأحلام
يحكي حجازي..: ".. اشتغلت مرة 3 اشهر في "الأخبار"... وفى يوم فوجئت بمصطفى أمين يناديني.. وقبل أن أخطو الى المكتب سمعته يضحك بصوت عال.. نظرت إليه فوجدته غارقاً في ضحك متواصل.. ابتسمت وقالي إيه رأيك ترسم جمل.. وفوقه الملك حسين (ملك الاردن).. ونكتب تحتها تعليق: خيبة الأمل راكبة جمل كنا وقتها في أزمة بين عبد الناصر والملك على ما أتذكر.. المهم استمر مصطفى أمين في ضحك اهتز معه وكاد يستلقي على ظهره.. ضحكت أكثر.. وخرجت من مكتبه وهو ينتظر أن أعود الى مكتبه بالرسمة.. لكنني خرجت من مكتبه الى الأسانسير.. الى الشارع ولم أرجع الى "أخبار اليوم" تاني..".
حجازي.. يوضح: ".. رغم هذا مصطفى أمين كان راجل ظريف...موهوب.. يمكن أن تختلف معه.. وكان هو متعود وقتها على أن ينفذ الرسام فكرته.. لأن كان نجم هذه المرحلة في "الأخبار" الرسام الأرمني اللامع صاروخان.. لم يكن يعرف العربي وكان يمكن أن يطلب منه مثلاً أن يرسم سفينة في بحر متلاطم الأمواج ويكتب على البحر.. القومية العربية.. وعلى السفينة.. بريطانيا.. وهكذا..".
لم يكن في خطط حجازي أن يصبح رسام كاريكاتير. كان يحب رسومات عبد السميع في "روز اليوسف" لكنه كان يريد أن يكون رساماً في الصحافة. اكتشف أنه يعرف يرسم من مدرس في مدرسة الأحمدية بطنطا..: ".. لاحظت أنه بيحب يتفرج عليّ وأنا أرسم.. وفي الحصة التالية يصطحب معه مدرسين آخرين.. بدأت أحب اللعبة.. خصوصاً أن المدارس وقتها كانت مهتمة بفكرة النشاط والمواهب... كنت أنا أرسم وصديق لي اسمه إسحاق قلادة.. يكتب روايات.. لكن روايات من الأنواع الضخمة.. لم يكن يكفيه كراسة واحدة.. وكان يضطر الى تدبيس أكثر من كراسة لتكفي رواية واحدة تفوق ملحمة "الحرب والسلام".. صديقي كان يعتبر نفسه أديباً مهماً.. وعندما اقترح عليه أن يكتب قصة قصيرة يقول لي يا راجل عيب دي القصص القصيرة دي.. قلة قيمة..".
إسحاق قلادة سيكون بطل حكايات كثيرة مع حجازي.. لكن قبلها لا بد أن نرى كيف كان يعيش حجازي الشاب الذي عبر المراهقة قبل سنوات.. وقرر وهو في الثامنة عشرة أن يترك طنطا قبل امتحان شهادة التوجيهية (أي الثانوية العامة بمصطلحات أول الخمسينات) بأيام ليصبح رساماً كبيراً في القاهرة: "...لم أكن اعرف من أين يأتي هذا اليقين... كنت أتصور أن الأبواب ستفتح لي فوراً... وسأكون رساماً.. تركت رسالة لعائلتي قلت لهم فيها أنني أريد تحمل مسؤولية نفسي..".
حجازي هو واحد من بين 11 طفلاً. أبوه سائق قطار. وبيته على ضفاف شريط السكة الحديد في كفر العجيزى بطنطا. في هذه الأماكن تبدأ التجمعات ببيت أو اثنين للعاملين في السكة الحديد. بعد ذلك تتكاثر البيوت حولها بشكل سرطانى تصبح بعده مركزاً سرياً لمتع الفقراء البعيدة عن أعين البوليس والناس المستريحة.
هناك تعلم حجازي البحث عن متع الحياة وسط ركام الحياة التعيسة... ورأى وعرف كيف تعيش فقيراً.. تأكل على طبلية.. فى إضاءة لمبة كاز.. وفى بيت مزدحم بأحلام ورغبات 13 شخصاً.
كانت الرسالة واضحة: لا أتحمل أن أكون عبئاً. أرى أن أبدأ الآن حياتي ولا أنتظر حتى أدخل كلية الفنون الجميلة. هو مولود في 1936,. والآن الثورة عمرها عامان.. والأحلام تفتح أبوابها ونوافذها.. قال لإسحاق قلادة..: "غداً سأسافر للقاهرة..".
إسحاق قال له: ".. وأنا معك..".
عائلة إسحاق كانت تستطيع أن تصرف على بقية مراحل تعليمه.. لكن "نداهة" القاهرة نادته مع صديق عرف معه مغامرات المراهقة في عالم البنات والحب... وسحرهما معاً عالم الأدب والفن.
..كانت الصدمة الأولى في "روز اليوسف".. يحكي حجازي: "..سألت البواب عن إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وعبد السميع... قال لي: كلهم فوق اطلعلهم.. لم يطلب بطاقتي ولم تكن هناك بوابة إلكترونية تمر عبرها مثل الآن.. صعدت.. لكنهم قالوا لي نحن نريد كاريكاتير.. لا نحتاج رسوم.. كان معي وقتها رسوم تعبيرية وبوتريهات لمصطفى كامل وعرابي... لم أكن مهتماً بالكاريكاتير.. عدت الى اللوكاندة.. كانت في القللي وندفع لها أنا وإسحاق جنيهاً في اليوم.. واليوم انتهت الثلاث جنيهات التي كانت معنا.. وسنضطر الى النوم في الحدائق العامة... نمنا على ورق الجرايد.. ومنه التقطت طريقة رسم الكاريكاتير ونفذت أكثر من رسمة وحملتها معي وذهبت أنا وإسحاق الى دار التحرير.. كنت مراهقاً وملابسي غير مكوية لأنني أنام بها في الشارع.. الحارس أوصلني الى باب مكتب سامى داوود رئيس تحرير مجلة التحرير.. الذي كان مشغولاً لكنه رأى رسوماتي ولا أعرف لماذا ربّت على كتفي. ربما أكون صعبت عليه.. وأخذني من يدي الى مكتب آخر.. وهناك كان الفنان حسن فؤاد.. تركني معه.. وبعدما رأى الرسومات ربّت على كتفي هو الآخر.. فأشرت الى إسحاق وملاحمه... فقال لي نحن لا نحتاج الآن الى كتاب.. نحتاج رسامين.. وأنت موهوب.. سأعينك هنا بمرتب 10 جنيهات.. لكن هذه العشرة جنيهات لك انت وإسحاق.. وليست لك وحدك..".
ابتسمنا.. وهز "فرفور" رأسه وهو ينظر الى حجازي: "..شفت الزمن..".
أنا.. والموت
فرفور كان في حالة عاطفية. حنين الى "زمن جميل"... كنت مندهشاً من فكرة العودة الى طنطا.. ومعجباً بها في الوقت نفسه.. أعاد علينا وأمام حجازي هذه المرة حكاية صاحب العمارة الذي وجد حجازي أمامه يسلمه مفاتيح شقته (بالمنيل...) ويقول له: اتفضل.. فسأله صاحب العمارة: ".. كده من غير فلوس.. فقال له حجازي:.. وهل أخدت مني فلوس عندما أجرتها منك.. حتى آخذ منك فلوس الآن..".
يختم فرفور الحكاية: "..شفت قد إيه الراجل ده جميل.. حد يعمل كده في الزمان ده..".
ويبدو أن حجازي كان يتابع الحكاية كأنه ليس بطلها.
وفوجئ بسؤال مباغت:.. "إنت ما اتجوزتش ليه..؟".
ضحك: "..أنا أتجوزت".
وأكمل: "...في أول مرة اكتشفت صعوبة أن تحب امراة.. ثم تصحو في الصباح تجدها مازالت في البيت.. كنت مندهشاً.. وربما لم أتحمل الوضع.. فى مرة ثانية كانت الزوجة تقول لي هاترجع إمتى.. فأقول لها: بعد الظهر.. وفعلاً أرجع بعد الظهر لكن بعد 5 أيام.. أنام فيها في بانسيون"..
يحب حجازي النساء. ولا يخلو حديثه من قفشة هنا أو إشارة الى فتنة امراة أو المتعة المختفية في ثناياها.
لكنه يحب حريته.
يتحرر حتى من الرسم. لا يترك الرسمة معه أكثر من الفترة اللازمة لإرسالها الى المطبعة أو الى البريد.. لا يتحمل لوحاته معلقة على الحائط.. وفى بيته بطنطا لم تكن سوى أعمال على الحرير للفنانة شلبية ابراهيم.. ولوحة لفنان سوري رسم فيها أبو زيد الهلالي.. وصورته عندما كان طفلاً...: "..شفتوا الصورة عاملة إزاي.. شفتوا أنا مخضوض قد إيه.. القميص ده كان بتاع أبويا ودابت ياقته.. ولم يكن هناك أفضل منه لاتصور صورة شهادة الثقافة..".
سخرية.. من نوع خاص.
تتبعتها في رده على السؤال الذي يبدو أنه تعود عليه: "..رجعت ليه لطنطا..".
"..وأعمل إيه في القاهرة.. هنا زي هناك.. إيه تفرق قعدتنا هنا عن قعدتنا في القاهرة.. أنا اكتشفت أنني خلصت اللّي عندي.. أيوه كل ما كنت أرسم أحس إنّي رسمت الرسمة دي قبل كده.. 50 سنة بنعيد في القضايا نفسها.. البطالة والفقر والقهر.. نفس المشاكل.. ونفس القضايا حتى بالنسبة لإسرائيل العرب لسّه بيدينوا نواياها العدوانية.. مازالوا يقولون أنها نوايا... والمسائل بتتكرر من أول الملك فاروق الضابط اللّي عمل الثورة وحتى الضابط الموجود دلوقت.. ماذا حدث؟ مجتمع راكد.. قضايا لا تحل.."
أسال السؤال بصيغة أخرى: "..هل اعتزالك لرسم الكاريكاتير كان نوعاً من الاحباط.. أو الاحتجاج"..
فيقول: ".. لا أنا بطلت كاريكاتير علشان خلصت الحبة بتوعي.. ولأني ما اعرفش أعمل حاجة تاني.. والرسم أكل عيشي اخترت أن أرسم للأطفال.. أولاً لأن رسم الأطفال يتعلق بالمستقبل.. والأنظمة الديكتاتورية تسمح لك بالاهتمام بالماضي والمستقبل.. لكن إذا تحدثت عن الحاضر.. تاكلك... ثانياً كل رسم للأطفال هايكون فيه عصافير وشجر وروح جميلة ممكن ترسمها.. لكن هارسم الحاجات نفسها التي بتترسم من أيام الملك.. لا أستطيع أن أكرر نفسي..".
يتذكر حجازي حكاية المخبر الصحافي الذي عينه إحسان عبد القدوس في "روز اليوسف".. وكان يمنحه أموالاً يلعب بها القمار مع يوسف وهبي وغيره من طبقة مدمني مغامرة اللعب بالمال.. كانت مهمته أن يحصل على أخبار وكواليس المجتمع المخملي كما كانوا يسمونه.. كان يرجع الى المجلة في الصباح عندما أكون أنا قادماً إليها.. في مرة ظل يفرغ ما في جيبه من أموال كسبها في سهرته.. ويقول لي انظر من الشباك.. فأجد سيارة فارهة تقف بشموخ امام الباب.. فيقول: كسبتها امبارح.. في يوم آخر يعود مفلساً تماماً.. المهم أنه في يوم تأميم الصحافة.. وصل المكلف بإبلاغنا بالقرار واجتمع معنا.. كان صاحبنا عائداً لتوه وأفرغ مكاسب الليلة في ادراج المكتب... وفي وسط كلام عن العهد الجديد الذي سيكون بعد التأميم.. ووسط مخاوفنا مما سيحدث عندما نصبح في يد دولة العسكر.. لم يكن هو مهتماً إلا بالأموال.. كان ينظر إليها بين حين وآخر.. يخاف أن يشملها قرار التأميم ويفاجأ بأنها أصبحت من أملاك الدولة..".
ضحكنا وأكمل فرفور حكاية مخبر السهرات المخملية: "..تعرف انني أراه حتى الآن.. يسير في الشارع وهو يحمل المنفضة التي تقتل الذباب.. يظل طوال الوقت يطارد الذباب.. تعرف حكايته مع زوجته.. أعتقد انها تخونه. ومن يومها يعتقد أن كل النساء ذباب.. ومع كل ذبابة يقتل زوجته..".
يعود حجازي مرة أخرى الى الحديث عن النساء: ".. تعرف أن في الرجل نذالة ممتدة المفعول.. يريد أن يحب ويجري بعيداً.. لكن المرأة تريد ان تصنع بيتاً.. وأولاداً..".
"لهذا عدت الى طنطا تبحث عن عائلة..؟".
ابتسامته هذه المرة كانت أكثر غرابة: ".. تعرف أن عائلتنا تحترم الموت كالفراعنة.. وأعتقد أن هذه عادة الفلاحين في مصر حتى الآن.. أقاربي من الشباب عندما عرفوا أنني سأرجع طنطا قالوا لي: بركة يا خالي إنك تموت وسطينا.. لم يقولوا تعيش.. قالوا تموت.. وربما هذا هو المهم بالنسبة لهم..".
حـجـــازى هـرم الكاريكاتـيـر
لويس جريس : لاأعرف بالضبط حقيقة ما حدث؟
ولكنى أقر وأعترف أننى انزعجت كثيرا بمعرفتى أن الإعلامى الكبير يسرى فودة قد علق برنامجه اليومى آخر كلام.
وكما سبق وذكرت فالزميل العزيز يمثل لى زهرة يانعة فى بستان حرية التعبير.
وإننى أشعر بالحزن الشديد تماما مثل حزنى على زهور كثيرة قطفها الموت من بستان الحرية.
وبستان الحرية فى بلدنا زرعناه ونحن نكافح الاحتلال والظلم وسقيناه بدمائنا ونحن نطالب بحرية التعبير وبالتغيير وبالعدالة الاجتماعية، ولن ندع أحدا يدوس بأقدامه على زهور الحرية التى زرعناها يوم 25 يناير 2011.
مهما كانت الأسباب والدافع الذى جعل يسرى فودة يعلق برنامجه آخر كلام فإننى أدعو المصريين الشرفاء الذين يقودون سفينة الوطن لبحث هذا الأمر فورا وعدم إرجائه، وذلك لأن مصر فى حاجة شديدة فى مرحلتها الانتقالية، وهى تبنى نظاما جديدا للحياة المصرية ألا يغلق أحد نافذة من نوافذ حرية التعبير، أو يطفئ طاقة النور التى تضىء للناس طريقهم بمهنية عالية، وانتقاء عاقل ورصين وبروح رياضية تعطى كل ذى حق حقه.
يسرى فودة زهرة من زهور بستان الحرية فى مصر وقطفها جريمة لا تغتفر.
وهذا الأسبوع لم يحرمنا القدر من برنامجه آخر كلام فقط، ولكن قضاء الله شاء أن يحرمنا من ملك توجه القراء على عرش الكتابة لسنين عديدة... الكاتب المبدع وصاحب الجولات الصحفية فى بلاد الله، حمل قلمه وطاف فى بلاد الدنيا، وفى إبداعات الآخرين من أبناء الإنسانية فى كتبهم التى حملت عصارة أفكارهم، وأحلامهم وأحزانهم ورؤاهم.. قرأها بشتى اللغات وأعادها إلى الناطقين باللغة العربية فى أسلوب سهل.. ممتع وشيق.
أنيس منصور يتركنا وهو على وشك أن يحتفل بعامه التسعين وقد ترك للمكتبة العربية ما يقرب من 200 كتاب مليئة بالفكر والفن والإبداع البشرى.
أنيس منصور موسوعة فكرية لا مثيل لها أنهك جسده بالكتابة وعاش بيننا متبسما.. ضاحكا.. ساخرا ومروجا لحق الإنسان فى المعرفة.. وفى سبيل ذلك أنهك جسده حتى الموت..
عرفته عن قرب وعشت معه وعايشته فى رحلتنا إلى موسكو وإلى كوبا ونمنا فى غرفة واحدة بفندق هيلتون كوبا، ولم يكن ينام.. يظل يقرأ أو يكتب طوال الليل وإذا أغمض عينيه فلنصف ساعة أو أقل ثم يستيقظ نشطا، فلا يترك نفسه حائرا بل يستغل يقظته فى القراءة أو الإبداع والكتابة.
وأنيس منصور جرب جميع أنواع الكتابة بما فيها المسرحية، وقد كتب مسرحية لمسرح التليفزيون بعنوان «الأحياء المجاورة» قام بأدائها حمدى غيث وسناء جميل وأخرجها جلال الشرقاوى وياريت التليفزيون المصرى يقدم لنا هذه المسرحية النادرة لأنيس منصور.
رحم الله زميلى وصديقى أنيس منصور وعزائى لزوجته الفاضلة السيدة رجاء حجاج، وابنته التى رعاها بالحب والحنان منى رجب الزميلة والصديقة الغالية.
لست من الذين يؤمنون بالصدف.
بل إننى من الذين يعتقدون أن كل ما يجرى لنا أو حولنا هو من تدبير رب حكيم وعادل، وهى أيضا رسائل علينا أن نقرأها ونفهمها ونعيها.
لماذا اختطف الموت منا أنيس منصور وحجازى فى نفس اليوم وربما فى نفس اللحظة؟ وما الذى يجمع أنيس منصور وحجازى؟
لا أعتقد أن حجازى عرف أنيس منصور شخصيا، ولا أعتقد أن أنيس منصور عرف حجازى شخصيا.
الذى أعرفه أن حجازى قرأ كل ما كتبه أنيس منصور فى الجرائد والمجلات أو فى كتب، فالرسام حجازى بهكذا كنا نناديه قارئ نهم تماما مثل أنيس منصور.. يقرأ جميع الجرائد والمجلات ويشترى ويقرأ كل ما تصدره المكتبة العربية من كتب.
وحجازى تماما مثل أنيس منصور يقرأ بسرعة ويهضمه ولا يهتم باقتناء الكتاب، وأصدقاء حجازى كانوا يأخذون الكتب منه ولا يردونها إليه، ولم يكن يطالبهم بإرجاعها.
وكان لحجازى عادة لا يغيرها يشترى الكتاب ويقرأه فورا ثم يتركه حتى يأتى صديق ويقول له: حجازى أنا هاخد الكتاب ده!
فيضحك ويقول خده!
إن الشىء الذى يربط أنيس منصور الكاتب والرسام حجازى أنهما قارئان لكل ما يقع بين أيديهما من صحف ومجلات أو كتب.
وإذا التقى الاثنان فى عالمنا الآخر فسوف يكتشف كل منهما أنهما تنافسا فى قراءة الكتب وفهمها وبسرعة لايجاريهما فيها أحد!
مات حجازى وأنيس منصور فى يوم واحد.. ومن بعدهما لن تجد الكتب الصادرة قراء مخلصين مثل حجازى وأنيس منصور.
فبموت أنيس منصور وحجازى مات القارئ المخلص للكتاب!!
وليسمح لى القارئ أن أصحبه معى فى رحلة قصيرة يتعرف من خلالها على شخصية مصرية فريدة لا يمكن وصفها أو الحديث عنها بالكلمات فهى أعمق من الكلمات وأكبر من الوصف ولا يستطيع أحد أن يسبر غورها أو يعرف مكنونها.
شخصية فريدة.. نادرة.. لها مواصفاتها ولها أسرارها، وتحيا فى هدوء، يتسلل إلى الحياة ويخرج منها كما لو كان غير موجود، ولكنه بالفعل موجود، وبفكره وبعمله موجود، وتأثيره فى المجتمع الذى يحيط به كبير وفاعل، بل إن أثره كان يهز المنغلقين والمنعزلين وأصحاب الفكر الضيق، وكان سيفا على الفساد فى كل صوره المادية والعاطفية والسياسية.
وكنا نناديه حجازى الرسام، واسمه بالكامل أحمد إبراهيم حجازى جاء إلى دار روزاليوسف التى كانت فى شارع حجازى المتفرع من قصر العينى والمجاور لمجلس الوزراء عام 1956.
شاب فى العشرين من عمره... دخل إلى الدار وروزاليوسف فى ذلك الزمان لم تكن تمنع أحدا من الصعود إلى مكاتبها.
كان الشباب الذين يريدون ممارسة الكتابة أو الرسم يذهبون إلى روزاليوسف ويمارسون هوايتهم، فإذا أعجبت المسئولين عن التحرير رحبوا بهم ونشروا لهم إبداعاتهم.
جاء حجازى الرسام إلى روزاليوسف ولم يكن يعرف أحدا جلس يرسم الكاريكاتير ثم قدمه إلى الأستاذ حسن فؤاد المشرف الفنى للمجلة الوليدة التى بشرت بها فاطمة اليوسف ووضع لها مؤسسها وأول رئيس تحرير لها أحمد بهاء الدين الشعار الذى تحمله حتى اليوم «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».
أعجب حسن فؤاد برسومات الشاب القادم من طنطا ولم يتعد العشرين ربيعا، وقام يحمل رسوماته إلى صلاح جاهين، وإلى جمال كامل وإلى إحسان عبدالقدوس وإلى أحمد بهاء الدين، وقام الأربعة إلى حيث يجلس ذلك الشاب الخجول أحمد إبراهيم حجازى، ومنذ ذلك اليوم المشهود وحتى وفاته يجىء الرسام حجازى كل صباح فى السادسة أو السابعة، يجلس إلى مكتبه ويرسم ويرسم ويرسم ثم يترك رسوماته مع الساعى ليقدمها لرئيس التحرير أو مدير التحرير أو سكرتير التحرير.
ومن يريد لقاء حجازى عليه أن يحضر إلى دار روزاليوسف مبكرا أو يتصل به ويمر عليه فى منزله.
كان حجازى غزير الإنتاج وكانت له قاعدة ومبدأ لا يحيد عنهما.
وهذه القاعدة هى أن تقبل رسوماته وتعليقاته كما رسمها وكما كتبها أو لا تنشرها.
حجازى لا يساوم، ولا يتفاوض ولا يناقش أو يسمح لأحد بأن يناقشه فيما فكر فيه ورسمه وكتبه.
وأى رئيس تحرير تعامل مع حجازى عليه أن يقبل ما يقدمه حجازى أو يرفضه، ولكن حجازى لا يسمح لأحد بأن يعدل أو يغير أو يبدل أو يحذف أو يضيف.. القبول التام أو الرفض التام. لا حلول وسط ولا مفاوضة.
وحجازى الرسام إنسان هادئ ورزين ولا تخرج العيبة من فمه إلا إذا حاول أحد أن يتدخل فى حياته.
ذات مرة تولى رئاسة مجلس الإدارة صديق للرئيس السادات وزميل كفاح معه منذ قضية أمين عثمان باشا الشهيرة وهو السيد عبدالعزيز خميس كان الأستاذ خميس رئيسا لتحرير مجلة روزاليوسف ورئيسا لمجلس الإدارة وكان معجبا برسومات حجازى.
وذات صباح اتصل الأستاذ عبدالعزيز خميس بالرسام حجازى وقال له: حجازى انزلى فى مكتبى فضحك حجازى وقال له: طب ما تطلعلى أنت فى مكتبى.
كان مكتب الأستاذ خميس فى الدور الخامس ومكتب الرسام حجازى فى الدور السابع.
ثم أغلق حجازى مكتبه وانصرف.
غضب الأستاذ خميس وأراد أن يعاقب الرسام حجازى فذهبت إلى مكتبه وقلت له: أستاذ خميس أرجوك نسيان هذا الأمر.. لا أحد يستطيع عقاب حجازى الرسام نحن نحتاج إليه وإلى فنه وإلى إبداعه، أما هو فليس فى حاجة إلينا يستطيع أن يكسب أضعاف ما ندفع له هنا، ولكنه يستمر هنا بالمحبة وأن نترك له حريته فى العمل والتعامل.
هذا هو حجازى يا أستاذ خميس.
إنه يتقاضى من روزاليوسف مرتبا يصل إلى 200 جنيه، ولكنه يكسب من خارج روزاليوسف ما يصل إلى خمسة آلاف جنيه شهريا فى رسوماته للأطفال فى مجلات الأطفال بالخليج العربى.
أستاذ خميس لا تحاول معاقبة الفنان حجازى الرسام... إنه هو الذى يمكن أن يعاقبنا بحرمان روزاليوسف وصباح الخير من إبداعاته ورسوماته التى لا يجاريه فيها أحد.
وفعلا تمت تسوية الأمر ولم يلتق حجازى مع الأستاذ خميس حتى مماته.
ويكذب من يقول إنه عرف أو فهم حجازى الرسام.
حجازى عالم خاص فريد ووحيد.
حبه الأول والأخير مصر وفى رأيى المتواضع أن حجازى الرسام هو هرم الكاريكاتير فى مصر وإلى الأسبوع القادم لأروى لكم حكايتى مع الرسام حجازى هرم الكاريكاتير المصرى.
حجازى.. قوة المستغنى!!
لم أقابل فى حياتى كلها شخصا مثل هذه الشخصية الفريدة فعلى قدر بساطته على قدر غموضه وعمقه... هكذا كانت رسوماته، وهكذا كانت شخصيته التى يتعامل بها مع الناس.
كان حجازى على قدر عظمته وعبقرية رسوماته شخصا شديد التواضع.. لم أسمعه يوما «يٍنظر » أو يلقى بالأحكام جزافا مثلما يفعل كثيرون، كانت آراؤه فى الدنيا والسياسة والحب كلها عبارة عن رسومات ينتظرها عشاقه ومريدوه.. نعم كان له مريدوه.. ينتظرون منه السماح من الحين للآخر، فلم يكن من الشخصيات التى تمتلك المزاج لمقابلة أى شخص فى أى وقت، بل إنه هو الذى كان يحدد الوقت والمكان، لم يكن يستجيب إلا لمن يشعر بالفعل أنه صديق ما بحاجة إليه، لم يكن يترك نفسه لاكتئاب البشر أن يدمره، حيث إنه كان شخصا شديد الحساسية وعلى الرغم من ذلك فقد كان هناك شبه اتفاق بين عشاقه على الاستجابة لمزاج الأستاذ العظيم، وعلى الرغم من ذلك - أى من السماح للبعض بزيارته - إلا أنه كان لا يتحدث، بل كان يستمع فقط، فإنه بئر غويط لأحزان وأفراح وأسرار كل من حوله وفى ذات الوقت لا أحد يعلم عنه شيئا، ففى حياة حجازى أسوار وأسرار لم يبح بها إلا عندما تعتمدك هذه الشخصية المتميزة كصديق بدرجة مقرب جدا.
ومثلما صنع مساحة بينه وبين كل من حوله فإنه وضع نفس المساحة حتى فى وفاته فقد قالت لى «منى» ابنة شقيقته لقد كانت وصيته ألا أبلغ أحدا من أصدقائه إلا بعد أن يتم دفنه، وبناء عليه لم أعلم إلا فى الثانية عشرة أى بعد وفاته بأربع ساعات فكان رد فعلى ما بين الثاثرة عليه وما بين إحساس أنه دائما كان يخاف على البشر الذين حوله من مشقة السفر إلى طنطا.
وعلى قدر البساطة والعمق على قدر القوة فلم أره يوما يلجأ إلى بشر لقضاء شىء ما، لم يسأل أحدا ولم يحتج لأحد بمعنى أنه لم يستمد بقاءه من بقاء من حوله بل كان دائم الاعتماد على نفسه حتى عندما كان يمرض، لذلك نقله صديقه الشاعر العظيم فؤاد قاعود وزوجته إلى مستشفى عين شمس التخصصى وذلك بالقوة عندما أصيب بالتهاب رئوى، ولم يطرق باب طبيب أو يلجأ إلى أى إنسان بل إن فؤاد قاعود قد كسر باب الشقة واستدعى الإسعاف لنقله فورا للعناية المركزة، وبعد نقله هل أبلغ حجازى أحدا بمرضه؟ لا على الإطلاق بل كانت مجهودات شخصية بالبحث فى المستشفيات عن اسمه حتى وجدناه فى عين شمس التخصصى وعندما ذهبنا إليه طلب منى الرحيل لسبب بسيط أنه لا يريد إزعاج أحد.
أعود إلى يوم سألته من أين تأتى بكل هذه القوة وكل هذا الاستغناء قال لى أنها قوة المستغنى ومعناها قوة إنسان لم يترك مقدراته فى يد شخص آخر، فكل خيوط اللعبة فى يده.
كان أهم شىء فى حياة حجازى هو شيئان أن يرسم ويرسم فقد كان يستيقظ مبكرا على الرغم من أنه كان ينام متأخرا وفى الصباح الباكر أى فى الخامسة مثلا تأتى إبداعات حجازى وشخصياته الكاريكاتيرية الخالدة، كنت أتعجب كثيرا من كمية النمنمات الموجودة فى رسوماته وخاصة التى رسمها مؤخرا قبل أن يعتزل رسم الكاريكاتير إلى رسومات الأطفال، كان يجلس بالساعات يرسم فى ثوب سيدة مصرية بعيون واسعة ووجه مستدير وجمال ربانى، كان أولا يكتب الفكرة فى ورقة وهذه مرحلة قبل مرحلة الرسم كانت تتم هذه المرحلة أثناء النهار بعد أن تنقضى ساعات العمل أو الرسم.
أما الشىء الثانى والذى دافع عنه باستماتة فهو حريته فقد قرر أن يعيش وحيدا دون زوجة أو ابن، لم يكن يقتنع بهذه الفكرة أى فكرة الاستقرار التى يصنعها الزواج كان يرى استقراره فى أن يبقى بمفرده معظم الوقت، وكانت هذه هى أمتع أيام حياته وساعاته. لم أسمعه يوما يتحدث عن أحد بشكل سيىء أو يلوم على أحد فى شىء حتى ألد خصومه السياسيين أو حتى على المستوى الاجتماعى، كان زاهدا طوال عمره كان حديثه فى رسوماته كما سبق وذكرت.
وفى السنوات الأخيرة عمل حجازى فى مجلة ماجد ولفترة طويلة، فمن رسومات الأطفال بدأ وبها أنهى مشواره لتدرك فلسفة رسام يخاطب الأطفال، كانت خطوطه بسيطة، لينة، ناعمة، منسابة، لذلك كانت شخصياته التى ابتكرها من أكثر الشخصيات والمسلسلات التى أقبل عليها القارئ الصغير.
رحل حجازى عنا عندما أدرك أن الدنيا لم تعد تسمح له بكل هذا النبل، رحل عندما أكمل مسيرته وقال كلمته وبوضوح، ترك لنا ميراثا من الأعمال تكفى لسنوات وسنوات وآراء فى قضايا لم تعد معلقة لم تحل فالمتتبع لأعماله سيدرك أنه كم من قضايا ومشكلات طرحها حجازى فى رسوماته لم تحل ولم يطرأ عليها جديد لذلك قرر أن يرحل... ولم يرحل عندما مات إنما رحل عندما قرر ألا يرى أحدا ولا يراه أحد، حتى عندما كنا بعض أصدقائه وأنا نزوره فى طنطا لم نكن نمكث سوى دقائق قليلة رغم بعد المسافة فلم تعد روحه الطيبة الشفافة تتحمل أن يراه أحد أو يرى هو أحدا.
كانت رحلتى الأخيرة إلى طنطا بطعم السواد، سواء الملابس ومرارة فى الحلق وحزن عميق فى القلب وكذلك سواد الواقع، فالوجوه من حولى فى محطة مصر وفى الميكروباص الذى ركبته لم تعد هى الوجوه البشوشة التى كان يرسمها حجازى بل تحولت إلى وجوه حزينة، وأرواح متطرفة فى كل شىء فى الملبس وردود الأفعال.
لم يرحل عنا حجازى يوم الجمعة 21 أكتوبر فى الثامنة صباحا بل إنه رحل قبلها بكثير عندما لم يتحمل قلبه مجاراة الواقع.
حجازى إنسان وفنان يحمل قلب عصفورة وعقل فيلسوف ووجها مصريا أنهكه البقاء. رغم أن الموت كان متوقعا... إلا أننى سأظل أفتقده طالما حييت.
حجازى.. ولد مع «صباح الخير» وعاش معها وفيها
هكذا يمضى فقيراً كالصلاة.. وحيداً كالنهر فى درب الحصى.. ومؤجلاً كقرنفلة.. هكذا يعبر حجازى جسر الحياة فى صمت بلا ضجيج.. يختار ليلة الجمعة الأخيرة فى حياته فيبيت ليلته الأخيرة فى المستشفى.. ويؤجل الرحيل إلى صباح الجمعة.. فى تمام الثامنة يمضى حجازى ويوصى أخواته البنات ألا يخبروا أحدا برحيله إلا بعد أن يوارى جسده التراب.. يرقد مستكيناً بعد رحلة طويلة فى حياة غنية وثرية.. وبعدها عرفنا جميعاً أنه دفن ولم يمنحنا حتى شرف تشييعه لمثواه الأخير.. أو توديعه الوداع الأخير..
كان يحب الصمت ويعشق الهدوء.. فذهب فى صمت ورحل بهدوء.. إنه حجازى.. خسرته الصحافة المصرية منذ سنوات بعد أن أحس أنه لا جدوى من الرسوم الكاريكاتورية مادامت هى لا تستطيع أن تغير الواقع.. وبفقدانه صباح الجمعة الماضية خسرته كل الصحافة المصرية فلم نفقده وحدنا نحن أسرة صباح الخير.. وروزاليوسف بل فقدته مصر والأمة العربية كلها. عندما جاء مع حسن فؤاد قادماً من مجلة التحرير التى نشر فيها أول رسوماته.. كان الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين يضع اللمسات الأخيرة لإطلاق مجلة صباح الخير من ضلع روزاليوسف الأعوج.. فهى مجلة اللوع.. والتمرد والخروج على المألوف.. ويقول حجازى القادم من طنطا منذ شهور: عندما دخلت روزاليوسف وصباح الخير «التقيت بالناس الجامدة قوى فى الكاريكاتير.. صلاح جاهين.. وجورج البهجورى ورجائى ونيس»، ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة حجازى فى الصحافة المصرية ليصبح بعد سنوات قليلة من أشهر رسامى الكاريكاتير فى مصر والعالم العربى.
وبدأ حجازى ينتظم فى صفوف المدرسة المصرية الحديثة للكاريكاتير ليصبح أحد روادها العظام.. فقد كانت مجموعة المواهب الشابة التى احتشدت فى ذلك الوقت على صفحات «مجلة صباح الخير».. التى صدرت لتحقق شعاراً براقاً: «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».. وكان الهم الرئيسى لذلك الحشد غير المسبوق فى تنوع اهتماماته ومواهبه هو: «مصر» التى تحررت بعد الثورة من الإقطاع واستكملت استقلالها الوطنى بالجلاء.. ثم تأميم قناة السويس ثم حرب 1956. فى مثل هذا الجو الرائع بدأ حجازى يستكمل أدواته الفنية.. وقد أخذت خطوطه طريقها نحو التبلور.. وتحددت ملامح أسلوبه الخاص المتفرد.. وفى زمن قصير للغاية نجح حجازى فى تحقيق المصرية الشديدة فى الشكل والفكرة والتعبير.. واستطاع أن يصور الشخصية المصرية بريشة كاريكاتورية متميزة، فرصد ملامحها جيداً.. وتابع بقلب حميم كل تصرفاتها وسلوكياتها المصرية.. فتعرض لأدق تفاصيل مشاكل المرأة.. الشباب.. الحب.. الزواج.. زيادة النسل.. المواصلات.. الموظفين.. الفن وغيرها من القضايا المصرية الصميمة.
وبرع حجازى فى الكاريكاتير الاجتماعى الذى لم يكن فى جوهره بعيداً عن السياسة.. خاصة هذا النوع الجديد الذى ابتكرته مدرسة صباح الخير الكاريكاتورية.. فقد وجد أمامه الفرصة المتاحة للنقد والسخرية اللاذعة.. وخلال رؤية حجازى الخاصة للأمور.. بدأ يقدم مجموعة من السلاسل الكاريكاتورية الجديدة تحت عناوين متعددة مثل:
(ضحكات منزلية).. و(البحث عن عريس).. و(ضحكات نسائية).. و(أولاد وأزواج).. ومن خلال هذه السلاسل استطاع حجازى أن يسجل الأحداث العامة والخاصة من خلال رؤيته هو لانعكاسها على الإنسان المصرى البسيط.. وكما سجل «الجبرتى» و«ابن إياس» و«المقريزى».. تاريخ المصريين من خلال الملوك والحكام وأعوانهم ــ سجل حجازى عبر آلاف الرسوم الكاريكاتورية التاريخ السرى للإنسان المصرى.. وإعادة قراءة التاريخ المصرى على هذا النحو متعة لا يضارعها سوى الجلوس مع حجازى نفسه للاستمتاع بتصوراته عن الحياة والواقع الإنسانى.
قد يكون حجازى رحل عن عالمنا.. ولكنه لا يمكن أن تكون روحه قد غادرت شارع قصر العينى ومجلة صباح الخير.. أعتقد أن حجازى سيظل دائماً بيننا طالما رسوماته ما زالت تزين الجدران والصفحات.
ومازالت رسومه قادرة على إثارة الدهشة ورسم الابتسامات العذبة فوق الشفاه لن نقول لك وداعاً حجازى.. سنقول لك دائماً إلى
سعاد رضا حكايتى مع حبيب العمر حجازى
هو فعلا حبيب العمر النادر، الجميل، النقى، المرح، الخجول، متقدرش تعرف إيه نوع الحب ده.. مش زمالة عمر ولا صداقة.. ولا الحب اللى الناس بتغنى له.. لكنه حب لا يوصف لأنه إنسان مختلف.. أنا كنت باقول له هو وجمال كامل إن ربنا نزل كل الأديان والرسل والأنبياء ليتصف الإنسان بصفاتكم.. بالنبل.. والعطاء..
والفن والإبداع والبعد عن كل مظاهر الزيف والشهرة والنفاق والتسلق.. كنت بروح المجلة الساعة سبعة الصبح وأطلع على حجرته فى الدور السابع يكون هو بقاله ساعة بيشتغل يطلب لى القهوة ونقعد نتكلم فى كل حاجة فى الدنيا.. زى ما قال علينا علاء الديب تطلع الصبح بدرى تلاقى سعاد رضا قاعدة مع حجازى ومتعرفش دول زمايل ولا صحاب ولا حبايب ولا إيه حكايتهم. ولما كان يحتاج فلوس من مرتبه قبل الشهر يكتب ورقة يقول: لو كان ممكن تدينى إيصال مؤقت بـ 100 جنيه يبقى كويس قوى لو مش ممكن مش مهم خالص ويوقع على الورقة: حجازى أحمد حجازى المدينون العرب. من هم أقوى منى على تقييمه إن استطاعوا....
إلى اللقاء يا حبيب العمر.
حجازى.. الضحكات النبيلة لا تعرف الاستقالة!
هذا الحوار النادر مع فنان الكاريكاتير حجازى أجراه الزميل رشاد كامل فى أواخر الثمانينيات ونشره عندما تولى رئاسة التحرير فى 5 سبتمبر 2003
لا يحتاج الفنان الكبير «حجازى» إلى بضعة سطور تقليدية كمقدمة للكلام معه أو عنه! وريشة الفنان «حجازى» واحدة من أبسط وأعمق وأجمل وأذكى الريشات فى عالم الكاريكاتير المصرى والعربى.
كل مطبوعة مصرية أو عربية منحها «حجازى» رسوماته العبقرية كانت بمثابة القنديل الذى يضىء عتمة الصفحات بالألوان المبهجة والضحكات الطالعة من أعماق القلب.
فجأة قرر الفنان حجازى اعتزال الرسم والكاريكاتير، وترك القاهرة عائدا إلى «طنطا».حيث يعيش الآن بعيدا عن الصخب الصحفى والسياسى والإنسانى أيضا.
استقال «حجازى» من الكاريكاتير، لكن الكاريكاتير الذى أبدعه «حجازى» طيلة نصف قرن لا يعتزل ولا يستقيل!
ريشة «حجازى» صالت وجالت فوق صفحات «صباح الخير»، ومنحت صفحاتها ابتسامات ذكية صافية منذ أعدادها الأولى وحتى سنوات قريبة مضت!
نحن لا نعترف باستقالة «حجازى» أو اعتزاله، فلايزال إبداعه يملأ الدنيا والصفحات بالجمال. وهذه صفحات من حوار طويل أجريته معه ذات عام مضى، ولا أدرى سبب عدم نشره وقتها.
؟ قلت: نعود للبدايات الأولى؟!
- قبل المجىء للقاهرة كنت أعيش فى مدينة «طنطا» مع الأسرة وقتها كنت لا أزال طالبا فى مرحلة الدراسة الثانوية وكان أكثر ما يبهجنى فى المدرسة هو حصص النشاط.. كان ملحقا بالمدرسة فناء كبير نمارس فيه بحق التربية الرياضية، أيضا كان بالمدرسة فريق تمثيل وآخر للخطابة والصحافة والرسم.
فى تلك الأيام أحسست باحترام حقيقى للعلم والتعليم، وشعرت بامتنان عميق واحترام أعمق لهؤلاء المدرسين الذين جعلونى أحب حصة اللغة العربية والقراءة.. كذلك فإن مدرس التربية الفنية جعلنى أحب الرسم بشكل غير عادى.. فى نفس هذه الفترة كنا مجموعة من الشبان لها محاولات فى الرسم والكتابة وأذكر أننا كنا نطبع ونصدر كتبا تتضمن هذه المحاولات.
عندما كنت فى «طنطا» تفجرت قضية الأسلحة الفاسدة على صفحات مجلة «روزاليوسف».. فكنت أقرأ مقالات إحسان عبدالقدوس عنها.. فى نفس الوقت كنت أرى وأشاهد ما يرسمه كل من الفنان صاروخان ورخا وعبدالسميع.
رسوم «رخا» كنت أنبسط منها كرسم وألوان.. ولكن لأنى تربيت وعشت وسط ظروف فقر رهيب، كانت فكرة السياسة تشغلنى أكثر وتدفع فى داخلى بعشرات التساؤلات حول الفقراء والفقر، وهنا أقول إن كاريكاتير عبدالسميع على صفحات «روزاليوسف» هو الذى هزنى وحركنى، فقد كانت رسومه عن الملك فاروق والحذاء الذى يقبله الوزراء شيئا غير عادى.. والذى جذبنى بشكل محدد لما كان يرسمه فى تلك الأيام أنه كان يتصدى لقضية حقيقية، وهى فساد الملك والنظام والاحتلال، وتواطؤ الكل ضد الشعب، وضرورة أن يحدث تغيير جذرى.
ربما فى تلك الفترة بالضبط كنت قد اتخذت قرارى بالرحيل إلى القاهرة، وكان حلمى المستحيل وقتها هو العمل رساما. وبالتحديد فى «روزاليوسف».
الكتابة بالكاريكاتير!
؟ قلت للفنان «حجازى»: روى لى الأستاذ حسن فؤاد رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» السابق أنه استقبلك بمجرد وصولك من محطة باب الحديد قادما من طنطا، وكان وقتها يشرف على الإخراج الفنى لمجلة «التحرير» التى أصدرتها الثورة ويرأس تحريرها الأستاذ أحمد حمروش، وأنه كان يكلفك برسم بعض «الموتيفات الصغيرة».
- قال الفنان «حجازى»: هذا صحيح.. وأذكر أيضا أنه خلال فترة بسيطة تتابعت على رئاسة مجلة «التحرير» أسماء كثيرة من بينها ثروت عكاشة، سامى داود، أحمد قاسم جودة، على الدالى، وكان حسن فؤاد مسئولا عن تطوير المجلة، فى تلك الفترة كنت أرسم حاجات بسيطة، ولم يكن عندى تكليف ما بالرسم، ولكنى كنت أحضر يوميا للمجلة، وبعد فترة ترك حسن فؤاد مجلة «التحرير» وذهب إلى «روزاليوسف» لإصدار مجلة «صباح الخير» كان ذلك عام 1956، وأنا لا أذكر بالضبط ظروف ذهابى للعمل فى مجلة «صباح الخير»، ولكنى مازلت أذكر أن حسن فؤاد طلبنى ثم قدمنى لكل من أحمد بهاء الدين رئيس تحرير «صباح الخير» وإحسان عبدالقدوس اللذين قدمانى بدورهما إلى السيدة «روزاليوسف» ثم اتعينت.
؟ قلت للفنان «حجازى»: منذ ذلك التاريخ تعاملت مع عشرات الأسماء الفكرية والصحفية اللامعة، تولت رئاسة تحرير «صباح الخير» مثل: إحسان عبدالقدوس، أحمد بهاء الدين، فتحى غانم، صلاح جاهين، محمود السعدنى، حسن فؤاد، لويس جريس.. ما الذى يميز كلا منهم كرئيس تحرير يتعامل معك كرسام كاريكاتير؟
- بحسم قال الفنان «حجازى»: كل هذه الأسماء التى ذكرتها تمتلك ميزة رئيسية وهى القدرة على تجميع الناس حولهم وتفهمهم، وكل هؤلاء يؤمنون تماما بمجرد أن يدخلوا باب مبنى «روزاليوسف» أن الكاريكاتير شىء مهم جدا فى تلك المؤسسة بصرف النظر عن الضغوط التى يواجهونها أو يتعرضون لها بسببه!
فمثلا كنت أرسم كاريكاتيرا ما، فكان د. عبدالقادر حاتم يكلم إحسان عبدالقدوس عن هذا الكاريكاتير فأجد إحسان عبدالقدوس غير ثائر على أو غضبان منى، بالعكس كان موقفه يتسم بالود الشديد، بل إنه يبقى زعلان مثلا أن هذا الكاريكاتير تسبب فى هذه «الدوشة» أو «الزيطة» إنما عمره ما كان ضد الكاريكاتير أو ضدى أنا.
شىء آخر مهم وهو أن الفكرة الرئيسية التى بنيت عليها مؤسسة «روزاليوسف» أنها مؤسسة رأى فالمقالة رأى.. والخبر يحوى وجهة نظر.. والكاريكاتير رأى كذلك، والذى حدث أن التغييرات التى حصلت وأدت إلى انحطاط فكرة الرأى فى «روزاليوسف» ليست نتيجة أن الناس لا تفهم الكاريكاتير ودوره أى أنها تفهمه وتفهم دوره .. لا.. ولكن كانت هناك ضغوط رقابية أو حكومية هى التى حدت من قدرتهم.
؟ سألته: هل تحدث مساومات بينك وبين رئيس التحرير حول مضمون ما ترسمه؟!
- قال: علاقتى برئيس التحرير هى دائما علاقة غير مباشرة.. بمعنى أننى أرسم دون ضغط منه أو خوف من جهة ما.. فإذا جاء رئيس التحرير وأحس بأن هذا الكاريكاتير سيسبب له مشاكل، فهو يعلم أننى لن أغير كلمة فيه.. ولكنه بحكم مسئوليته، أو بحكم الضغوط الواقعة عليه سواء من الحكومة أو الرقابة فمن حقه ألا ينشر لى ما أرسمه.. ولا يزعجنى إطلاقا أن أرسم عشرين رسماً كاريكاتيريا مثلا فلا ينشر منها شىء.. فالنشر من عدمه ليس قضيتى.. وكل من تعاملت معهم من رؤساء التحرير يفهمون تماما هذه المسألة.. وكما قلت أنا لا أغضب أو أزعل من أى رئيس تحرير فى أنه لا ينشر لى ما أرسمه.. لأن هناك ظروفا تضغط عليه تجعله يفعل ذلك، أما بالنسبة لى فأنا لا أسمح مطلقا بأى ظروف أن تضغط علىَّ ربما لأننى حر أكثر، ولست مسئولا.. إننى أعبر عن رأيى فى رسم ثم أمشى! يمكن لو كنت رئيس تحرير أو رقيبا كان قد اختلف الأمر.
؟ قلت للفنان حجازى: بعض رسامى الكاريكاتير لا يتضايق إذا رسم عشرة رسوم كاريكاتورية وقام رئيس التحرير بوضع تعليقات غير التى كتبها الرسام؟!
- ابتسم ثم قال بهدوء: من المحتمل أن يكون هذا الرسام فى الأساس ليس مهتما بقضية.. ولكنه فقط مهتم بمسألة النشر وحسب، النشر ليس قضيتى على الإطلاق وليس اهتمامى فى المحل الأول، إننى أرسم ما أفكر فيه بينى وبين نفسى بشكل صادق تماما.. فأنا مثلا لا أقول فى المساء آراء ثورية وفى الصباح أنسى ما قلته.. وأرسم رأى تانى.. مفيش عندى الحكاية دى.. لأنى زى ما قلت أنا لست رئيس تحرير.. أنا أكثر حرية.
؟ ضحكت قبل أن أقول: سمعت بأذنى مرة أحد رؤساء التحرير يقول لرسام كاريكاتير: عاوزينك ترسم حاجات لطيفة كده.. بنات حلوة.. وستات دمها خفيف.. وبلاش الكاريكاتير اللى فيه نكد ووجع دماغ.. وسؤالى: ما تصورك لوظيفة الكاريكاتير فى المجتمع؟
- قال بابتسامة ودودة: دون أن تجرجرنى لذكر أسماء، وذكر بطولات وهمية، فى تصورى أن الكاريكاتير مثله مثل أى فن لابد أن يعبر عن قضية، وقضية الكاريكاتير فى نظرى هى التعبير عن السلبيات فى المجتمع.. لذلك تجد المسئولين دائما مفزوعين وزعلانين.. فالكاريكاتير ليست له علاقة بالإيجابيات.. لأن الإيجابيات مسألة طبيعية جدا فى المجتمع.. ولا تذكر!
مثلا لو أن سيدة ترتدى فستانا أنيقا لونه أبيض هذا طبيعى.. أما لو كان هذا الفستان به بقعة حبر مثلا ستجد أن الناس تلتفت إليها.
من هنا فإن الكاريكاتير يركز على العيوب، لذلك تجد كبار المسئولين فى الدولة فى حالة فزع منه لأنه ببساطة يهز من تلك الهيبة المفتعلة فى داخلهم.ويشكك فى المنظرة الاجتماعية التى يعيشون بها ولأجلها!
الكاريكاتير فن مباشر!
؟ وأسأل الفنان حجازى: أتفق معك فى أن للكاريكاتير دورا فى المجتمع.. فهل تتفق معى على أن المثقف العربى بشكل عام والمصرى بشكل خاص لعب دورا من ثلاثة خلال السنوات الأخيرة.. فهو مرة كان ناقدا ومرة كان متفرجا على ما يجرى ومرة كان مبررا لما يجرى؟!
- قال ببساطة: أتفق معك فى هذا التصور!
؟ سألت الفنان حجازى: منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن ما الفترة التى شعرت فيها أن الكاريكاتير النقدى لعب دوره كاملا وبدون أدنى تدخل من السلطة أو الرقابة أو رئيس التحرير؟
- قال بعد فترة تأمل: كلها محاولات.. لم تتحقق بشكل مطلق أو كامل.
؟ قلت للفنان حجازى: للكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين رأى محدد يرى أن الكاريكاتير السياسى المصرى كان أقوى ما فى صحافة مصر ثم ضعف وهزل وأصيب بالخرس وأصبح شبيها ببلاغ رسمى مصور! ما رأيك؟
- قال: يمكن الدور الحقيقى الذى لعبه الكاريكاتير بشكل كامل ونقدى مطلق كان أيام الأحزاب.. فى مصر ما قبل الثورة، وعندما قامت الثورة الكل فرح بالثورة.. الناس البسطاء وكذلك المفكرون والكتاب والصحفيون.. وهذه الفترة لم تتضمن نقدا لأشياء تحدث، وكان هناك حماس وتصفيق وإشادة لأشياء ولابد من الاعتراف أن ذلك لم يكن نفاقا!
وفى تصورى أن أخطر فترة فى تاريخ مصر كان من الممكن أن يلعب فيها الكاريكاتير - وأيضا الفكر عموما - دورا نقديا هى الفترة التى تم فيها طرح القرارات الاشتراكية لثورة يوليو! ؟
قلت: ولماذا هذه الفترة بالذات؟
- قال الفنان حجازى: لأن القرارات الاشتراكية التى صدرت فى أوائل سنوات الستينيات نزلت من فوق وكانت عبارة عن «دوجما»، وكانت بالفعل محتاجة من المفكرين تفسيراً وتبسيطاً وشرحاً وتحليلاً لكى تصل عن اقتناع للناس.. ثم نقدها ضمنا أثناء التطبيق، ولكن ما حدث أن الفكرة نفسها - وهى الاشتراكية - غابت عن كل الناس، لا الاشتراكى قدر يتابعها بصحيح، لأنه حتى الاشتراكيين عندما كانوا ينادون بالاشتراكية قبل الثورة كانوا ينادون بها كحلم وشعارات.. أما بعد الثورة فقد كانت الأفكار والقرارات الاشتراكية فى حاجة إلى متابعة حية، وأيضا فى حاجة إلى نوع من الحرية لكى يستطيع الاشتراكى الحقيقى أن يتابع مراحل تحقيق الشعار..
؟ وأنت ماذا كان موقفك؟!
- قال: كانت نسبة كبيرة من الكاريكاتير الذى أرسمه نقدا وتعليقا على ما يحدث فى الجمعيات الزراعية فى الريف أو المدينة، كانت أيضا هناك هوجة اسمها أهل الثقة وأهل الخبرة وأسلوب قيادة العمل فى مرحلة التحول الاشتراكى، فكانت رسومى تتناول هذه الموضوعات.
أيضا فى تلك الفترة ظهرت بدعة اسمها «الثورة المضادة»، ومادام هناك حكم ديكتاتورى وحكم فردى فلابد أن يوجد اختراع ما حتى لا يكون لأحد رأى أو موقف، فإذا انتقد أحد موظفا فى الجمعية التعاونية لأنه سرق مثلا كأنه يهاجم وينتقد الثورة نفسها!
؟ قلت: عندما كانت تشتد فترات الرقابة هل كنت تصمت عن الرسم أم تحاول الإفلات من المأزق؟
- قال الفنان حجازى: فى بعض الفترات كنت أرسم، وكان جزءاً من الكاريكاتير الذى أرسمه لا ينشر، ولكن أيضا كان هناك بعض الأعمال تنشر، لأنها كانت أبسط.. ومش مشكلة أنها تنشر.. ولكن كانت المشكلة الحقيقية هى غياب مناخ الحرية الذى يسمح لك بالتفكير الحر على كل المستويات ويعنى حتى اللى يكتب رواية عاطفية يبدع فيها.
؟ قلت: عاصرت الصحافة قبل وبعد صدور قرارات تنظيمها فى عام 1960، فهل كانت الحرية نسبية فى الحالتين؟
- قال: قبل وبعد تأميم الصحافة مكانش فيه حرية قوى.. وعندما كانت الصحافة مملوكة للأفراد كانت هناك حرية صحفية أكثر من ناحية حرية الحرفة.. يعنى إحسان عبدالقدوس كان يسمح لكاتب اشتراكى بالكتابة فى «روزاليوسف» من منظور حرفى وليس بمعنى وجوده فى المجلة عشان يتكلم عن الاشتراكية.. أو ييجى رئيس تحرير مثلا واهتماماته ليست كروية إنما يجعل غلاف المجلة لاعب كرة مثلا.. إذن صاحب الجريدة كان قلبه على المؤسسة ويفكر من ناحية الحرفية بشكل صح، ولكن مكانش فيه الحرية السياسية الكاملة لا قبل ولا بعد التأميم.
قلت للفنان حجازى: ما رأيك فيما يثار أحيانا من قضايا مثل الفن للفن.. والفن للحياة؟
- قال وهو يضحك: حكاية الفن للفن.. والفن للحياة.. فى تصورى أنها قضايا وهمية لا أكثر ولا أقل.. وخناقات طريفة الهدف منها إيجاد مادة تسلى القراء وتشغلهم فى نفس الوقت، لأننى ببساطة أتصور أن كل شىء للحياة.. السمك للحياة.. الجبنة للحياة.. البطيخ للحياة.. وهكذا.. يعنى الفكرة أساسا مغلوطة.. فإذا سألتنى الآن: السمك هل يظل كما هو سمكا أم أنه من الأفضل أكله.. تبقى بتكذب على نفسك.. لأن السؤال مالوش معنى!
حكايتى مع الأطفال!
؟ قلت للفنان حجازى: ما الذى تذكره من أيام طفولتك فى مدينة السيد البدوى.. مدينة طنطا؟
- قال بلا خجل: كان والدى سائق قطار فى السكة الحديد.. كنا نعيش فى حارة فى طنطا هى خلاصة فقر العالم وبؤسه، وهذا الفقر علمنى أشياء كثيرة للغاية.. أيضا كان الظلم الموجود لا يتصوره مخلوق.. أذكر جيدا أننى كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية بملابس قيمة للغاية، وفى نفس الوقت أجد زملائى يرتدون أفخر وأغلى الملابس.. بل تأتى عربيات أسرهم لاصطحابهم إلى منازلهم عقب انتهاء اليوم المدرسى.. كانوا أطفالا مختلفين عنى وعن أطفال الحارة التى أعيش فيها مع أسرتى.. فى بعض الأحيان كنت أذهب لزيارة أحد زملائى فى منزله فأجد عالما خرافيا كالذى كنا نراه فى الأفلام الأمريكية وقتها.
؟ قلت: حكايتك مع الكتابة والرسم للأطفال؟
قال بود شديد: عندما بدأت كنت أكتب وأرسم فى نفس الوقت لسبب بسيط جدا هو أن معظم قصص الأطفال فى ذلك الوقت كانت مترجمة أو مأخوذة عن ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة.. أيضا كانت كل قصص الأطفال مليئة بأشياء رومانسية مثل الورود.. العصافير.. الحيوانات التى تتكلم، رغم أن هؤلاء الأطفال مثل الكبار يعانون مشاكلهم وعقدهم وهمومهم ولا يعيشون طفولة مرفهة مثل أطفال الخارج، لذلك تجدنى كتبت قصص أطفال تدور حوادثها حول سرقة فى جمعية تعاونية.. ورغم ذلك أحبها الأطفال جدا لأنه كان دمها خفيفا.. وحرصت على أن تتضمن المفردات التى يتعامل فيها الكبار - الذين هم آباء وأمهات هؤلاء الأطفال.
كانت فكرتى باختصار عندما كتبت ورسمت للأطفال أنى جعلت عالم الكبار بهمومه هو عالم الصغار بما يناسبهم من مفردات.
صعوبة الفن بشكل عام تأتى من احتقارنا لذواتنا فنفتش عنها فى الغرب.. والانبهار بالغرب بأمانة شىء فظيع للغاية.. لا مانع من احترامه ولكن لابد من وضعه فى مكانه الصحيح، وأن نبدع الجزء الخاص بنا!
والسبب قمع المرأة!
؟ سألت الفنان حجازى فجأة: لماذا حتى الآن لا توجد رسامة كاريكاتير فى الوطن العربى؟
قال: لسبب بسيط جدا أنها كم مهمل فى هذا العالم العربى.
؟ قلت مستوضحا: كيف؟
قال: فى البداية لابد من الاتفاق أنه إذا كان الرجل العربى مقموعا من السلطة، فإن المرأة مقموعة مرتين، مرة من الرجل ومرة من السلطة، هذا شىء، والشىء الآخر أن المجتمع والرجل يعتبران المرأة شيئا زائدا عن الحاجة والكل يضطهدها ويقمعها بشكل أو بآخر.. بمجرد أن تجىء المرأة للدنيا تظل الأوامر تنهال عليها من الذكور الأب والأشقاء ثم الأم، والكل يساهم فى إعدادها لكى تصبح ست بيت هادئة مكسورة الجناح ومطيعة، وعندما تتزوج فزوجها يعاملها كجارية ودائم الشخط فيها.. وفى مجال العمل تجدها مكبلة أيضا.
أضف إلى هذا كله أنها بطبيعتها فى مواجهة ذلك كله تهرب إلى عوالم الخيال.. فإذا تصادف وعملت فى مجال الرسم تجد رسومها حالمة ومفرداتها فى العصافير والورود والأشجار.. و.. و.. وهى تتفوق لذلك أيضا فى أشغال التريكو والإبرة والكانفاه، لأنها أعمال تحتاج إلى صبر والصبر هو الأب الروحى للمرأة العربية.
؟ قلت: ألمح فى كلامك تعاطفا شديدا وحبا للمرأة.. يؤكد هذا أن رسوماتك الكاريكاتيرية تضع المرأة فى موضع لائق ومحترم؟
قال: لأن المرأة منذ رأيتها فى الحارة التى ولدت فيها وهى مظلومة ومضطهدة.. صحيح أن الظلم والاضطهاد كانا واقعين على الجميع، لكن نصيب المرأة منهما كان أكثر وأكبر.
؟ قلت للفنان حجازى: ذكرتنى كلماتك بما قاله لى الكاتب الصحفى الكبير فتحى غانم عنك عندما يرسم حجازى المرأة فهو يرسمها أنثى ناعمة جدا ولكنه يبرز فيها أجزاء وقحة وفى منتهى القبح والشراسة.. لأن حجازى هو الريشة الطيبة الحانية الناعمة التى تتناول المشاكل بوقاحة وإصرار.. الإصرار لأنها تكرر «التيمة» باستمرار والوقاحة لأن فيها فضحا وقسوة.
ولم يعلق الفنان حجازى سوى بابتسامة!
المهم فى الكاريكاتير «صدق القضية»!
؟ قلت: ذات يوم قررت أن تترك «روزاليوسف» و«صباح الخير» لترسم فى «أخبار اليوم» لماذا؟
قال: انتابتنى حالة من الملل والزهق.. وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تولى رئاسة تحرير «أخبار اليوم»، فقررت الذهاب إلى هناك، ومكثت ثلاثة شهور لكن سرعان ما عدت إلى «روزاليوسف» و«صباح الخير».. لم أستمر لسبب بسيط أننى لم أعرف كيف أرسم، ليس فقط لظروف الرقابة، ولكن فى أخبار اليوم وجدت شيئا غريبا لم أعتده أو يخطر على بالى أن هناك من يفكرون لك وأنت تقوم برسم هذه الأفكار.
؟ قلت: ولكن هذه مدرسة أخبار اليوم فى الكاريكاتير.. أن تكون رساما لأفكار الآخرين؟
قال بحسم: ولكنى ضد هذه الفكرة أساسا، لأننى لست حرفيا أو «صنايعى» مهمته الرسم، لأن الأساس عندى أننى أريد أن أعبر عن شىء ولست أريد رسم شىء، وطبعا هناك فرق شاسع بين المفهومين! إننى لدى رأى فى مسألة ما أعبر عنه فى رسم كاريكاتيرى، وليست المسألة بالنسبة لى أن أرسم كاريكاتيرا! فيقال مثلا: يا سلام على الست اللى راسمها حجازى.. أو نسب الرأس لباقى الجسم صحيحة فنية.. أنا مش بارسم لوحة فنية عشان الناس تنبسط منها وتقول الله وتعلقها فى حجرة الصالون مثلا! هذه المسألة ليست قضيتى على الإطلاق!
؟ قلت للفنان حجازى: قال الأستاذ الصحفى الكبير «إحسان عبدالقدوس» إن الرسم الكاريكاتيرى نوعان: نوع يعتمد على الكلام الذى يكتب تحت الصورة، أى أن تكون الفكرة فى اللفظ لا فى الرسم والنوع الثانى يعتمد على الرسم نفسه، أى أن تكون فى الرسم نفسه لا فى الكلام الذى يكتب تحته، بحيث تستطيع أن تصل إلى هذه الفكرة حتى بدون كلام، وأنا أفضل النوع الثانى لأنه الأصل فى الكاريكاتير.. إلى أى حد توافق أو تختلف مع رأى إحسان عبدالقدوس فى الكاريكاتير؟
قال الفنان حجازى: بشكل عام.. أنا مع اللغة الأبسط والمباشرة مع الأسلوب البسيط جدا، لأننى بالدرجة الأولى ليست عندى ميول استعراضية فى الرسم بشكل عام والكاريكاتير بشكل خاص، ولا يكون فى ذهنى عندما أرسم أن أقول مثلا: إنى عاوز أرسم رسم يكسر الدنيا.. ويعقد العالم!
أنا أرسم الكاريكاتير بلغة وخطوط بسيطة تماما كما أدردش وأتكلم مع أصدقائى ببساطة.. والكاريكاتير فى تصورى هو اجتهاد إنسانى بسيط تقول من خلاله رأيك فى الأشياء، قد يكون هذا الرأى صوابا، وقد يكون خطأ.. ولكن فى الحالتين هذا اجتهادى الإنسانى، وهذا شكلى الذى أقدمه للناس، وفى كل الأحوال لا يجب افتعال شىء، لأنه كما أن الافتعال مفسد وضار فى علاقاتك بالبشر، فالافتعال فى الكاريكاتير كذب ودجل يكشفه القارئ بسهولة!
ضحك حجازى وأضاف: لنفترض أن شكلك ومواهبك وإمكانياتك تؤهلك لتكون «أحمد عدوية» فلماذا تصر على أن تكون «خوليو» مثلا؟
وأعود فأقول: إن المهم فى الكاريكاتير هو صدق القضية والرأى الذى يحمله للناس.. وليس مهما أن يكون بدون كلام أو بكلام! ومن حقى احترام رأى الأستاذ إحسان دون إلزامى به! ؟ قلت: ما الذى استفدته من الجيل السابق عليك؟
قال: أستطيع أن أقول إننى من ناحية الشكل استفدت من جميع الرسامين الذين سبقونى فى هذا المجال، ولكن كاريكاتير الفنان عبدالسميع الذى كان يهاجم فيه الملك فاروق هو الذى جعلنى أتأثر بشكل مباشر.. بهرتنى الفكرة نفسها وهى الهجوم على الملك بواسطة الرسم الساخر! بعد ذلك جاء صلاح جاهين وأنا أعتبره فعلا ساهم فى تغيير الكاريكاتير الاجتماعى فى مصر، لأن الكاريكاتير قبله كان يدور فى فلك الشخصيات النمطية التى رسمها الأستاذ رخا مثل «ابن البلد».. «رفيعة هانم».. السبع أفندى».. «سكران باشا طينة».. «الوفدى أفندى».. «حمار أفندى».. «ميمى بيه».. بل إن صلاح جاهين ظل لفترة وعلى صفحات «صباح الخير» ظل يرسم بعض الشخصيات النمطية مثل قهوة النشاط، وقيس وليلى بعد ذلك بدأ يرسم الكاريكاتير الشعبى والاجتماعى وعلى يديه أصبح يطرق أبواب المشاكل الاجتماعية بشكل مستنير، وحدث تطوير للكاريكاتير!
؟قلت بسذاجة: كيف ترسم؟
قال ضاحكا: بالقلم الفلوماستر!
؟ ضحكت وقلت: أقصد كيف يجىء الكاريكاتير؟ الفكرة أولا ثم الرسم أم العكس؟
قال: منذ بدأت رسم الكاريكاتير وحتى الآن لا أفكر فى الرسم كقضية منفصلة عن الرأى الذى أريد أن أقوله، وكل الذى يشغلنى فى حياتى أننى مواطن عربى مصرى بسيط مهتم بأحداث بلاده وعندى رأى أريد قوله.. وعندما أجلس أمام مكتبى لأعمل فإن الكلام والرسم يجيئان فى وقت واحد ولحظة واحدة!
؟ قلت: منذ بدأت ترسم الكاريكاتير فى منتصف الخمسينيات وحتى الآن ما الذى أضفته لحركة الكاريكاتير؟
قال وابتسامة ودودة تجىء مع كلماته: حكاية الإضافة دى محصلتش، وكل الذى حدث معنا جميعا فردا فردا أننا ننتقص من كل شىء له قيمة فى مصر، وليست هناك أيه إضافات بالمرة.. لأن الفن هبط بشكل عام.. القيم انحطت بشكل عام.. وإذا قال أحدهم لك إنه أضاف فلا تصدقه! ومع ذلك كل الناس عملت محاولات، وبعضها محاولات ناجحة.. ولكنها فى النهاية محاولات تجرى فوق مركب يغرق شيئا فشيئا!
؟ سؤالى الأخير للفنان حجازى: معنى كلامك أن الجيل الذى سلمكم راية الكاريكاتير منذ منتصف الخمسينيات وحتى الآن لم تنجحوا فى المحافظة على المستوى الذى وصلوا إليه بهذا الفن؟!
لأول مرة يضحك الفنان الساخر حجازى ويقول:
- أنا شخصيا ما استلمتش أى راية.. وعندك البيت فتش فيه إذا لم تكن تصدقنى! وانتهى الحوار.
حجازى.. سر الفن الخالد
السهم يخترق القلوب بريشته، كالسيف يبتر رءوسنا فى أفكاره.
يكفى أن نذكر اسم هذا الرجل هكذا «حجازى» دون أن نعرفه، فيعرفه الجميع، ولدى الجميع صورة لكاريكاتير ملتصقة بجدران ذاكرته، يقفز اسمه إلى أذنك، فتقفز رسومه فى عينيك، لذلك سيظل الأستاذ حجازى خالدا ولخلوده سر، فسر الخلود لا يعرفه الناس إلا عبر الأساطير، وكان الرجل أسطورة.
لم يكن يوما مجنون شهرة كصلاح جاهين العبقرى، ولم يكن مجنون سياسة كعمنا العظيم بهجت عثمان، وبالطبع لم يكن مجنون مال ككثيرين الآن، بل كان الرجل مجنون فن، خالص الفن، وخالص الجنون به، ومخلص لفنه ولجنونه، ذات يوم كنت فى زيارة لبيت عم بهجت عثمان رحمه الله وكنت برفقة صديقى الجميل عمرو سليم تلميذ الاثنين، حجازى وبهجت، وكان ميعادنا فى السابعة صباحا، كنت منبهرا بهذا اللقاء، أخيرا سأجلس لعم بهجت وجها لوجه، وهو رجل طيب القلب حاد المزاج والطباع، وقد تحدثنا كثيرا وجاءت سيرة حجازى، وكنت أنا صاحب السؤال، بل كنت متحفزا جدا فى معرفة هذا الرجل، وما أن نطقت اسم حجازي، حتى راق وجه عم بهجت وابتسم ابتسامة عذبة، ظهر وجهه الطفولى فيه، وكان قد أرسل خياله وعينيه للماضى، وقال: حجازى ده حاجة تانية خالص ده الألفة مجنون بفنه، الريشة فى يده أشك أنها ترسم وحدها، الريشة تقرأ أفكاره وترسم هى، حجازى كل رسوماته من عقله وريشته دون وسيط، حجازى فنان من يوم ولدته أمه، خلق ليرسم، وهو كان يعرف ذلك جيدا، لا وظيفة له سوى الفن، كان مبهرا لأقصى درجة، غير راض عن نفسه لأقصى درجة متصالحا مع نفسه لأقصى درجة، ديكتاتورا فى فكرته لأقصى درجة، وتلاحظ أننى قلت أقصى كثيرا، فهو كذلك لا يعرف سوى الأقصى، وأضاف عم بهجت: حجازى.. إلا حجازي، أنت جاى تتكلم عن حجازي، ده فوق الكلام وفوق التوصيف ده عبقرية لوحده يا ابنى، وقد كنت انتهينا من اللقاء. ورحلت ورحت أردد كلمات عم بهجت عن حجازي، وتذكرت علاقتى طفلا بهذا الرجل، فوجدت أن وجدانى ووجدان كل من فى سنى ممن كانوا يتابعون مجلة «ماجد» الإماراتية للأطفال قد صنعه الأستاذ حجازى وترك بصمة ريشته على صفحات ذكريات الطفولة التى تنطوى، لكنها لا تقطع بفعل الزمن.
(2)
انظر بفرحة لأعمال حجازى وانظر بحزن وباكتئاب وبحماس وبشك وبغيرة وبحب وبعقل إلى رسومات الأستاذ حجازى، شعور واحد فقط هو الذى ستنتهى إليه، الصفاء، وهى كلمة لو تعلمون لا يعرفها الكثيرون.
لا تتواجد مع الإنسان إلا فى حالات الصلاة والصوم والجنس وشرب المياه بعد عطش، وكلها حواس تمس القلب دون وسيط، فيشعر الجسد بالصفاء الذهنى والرضا العام، هذا ما تشعر به، وأنت ترى رسومات هذا الأستاذ العظيم.
فجأة دون سابق تفكير، وجدت أن رسومات حجازى مثلها مثل تمثيل نجيب الريحانى، تبتسم ولا تضحك بالقهقهة، لكنك تفكر، وتتعجب من سلاسة الأسلوب وبساطة الفكرة، وعمقها النافذ فى عمق الشخصية المصرية، تسخر بحب وبرفق دون أن تترك على وجهك تكشيرة، بل ابتسامة ذات معنى، غالبا لا تعرف معناها أو توصيفا لها، لكنك ستجد نفسك وقد انتقلت من مرحلة فكرية إلى مرحلة فكرية أخرى، وتجد نفسك كذلك، تتمعن فى اللوحة لفترة، وترى كل جوانبها وتركز فيها وتعيد قراءة تعليقه مرة أخرى، وتشعر بأنك تحمل طفلا صغيرا بين يديك، فتضعه على المائدة برفق دون أن تقذفه بعيدا.
قيمة فى يديك لا يمكن أن تهينها، لذلك لا يمتد إلا لبعض دقائق، هى وقت مشاهدتك لأعمال حجازى وكذلك الريحانى، كلاهما يتمتع بالبساطة والعمق والمغزى الفنى المتقن والإخلاص فى العمل والإخلاص إلى الناس وهنا سر خلود حجازى، الإخلاص إلى الناس.
(3)
الفن، أى فن إن لم يكن جميلا ومفيدا وصالحا ومهما، فلن يدخل إلى قلوب المصريين ذلك الشعب العظيم المخلوق فى جيناته منذ خلقه الفن، هناك شعوب مخلوق فى جيناتها العمل كاليابانيين والألمان، وهناك شعوب مخلوق فى جيناتها العنف كالبدو والفرس، وهناك شعوب مخلوق فى جيناتها المتعة كالأمريكان.
أما الشعب المصرى فالفن جين مهم فى تركيبته البدائية، كذلك لم يبن المعابد إلا وعليها رسومات فنية، لم يبن الأهرامات وأبوالهول إلا والمغزى الفنى موجود بجوار المغزى الدينى والجغرافى، هكذا ولد المصريون، لذلك فهم شديدو الحساسية تجاه أى فن قد يتلقونه «صدفة أو عن طريق عمد»، الفن وحده يقيمه المصريون بميزان حساس، ميزان إلهى وضعه فى قلوبهم، لذلك صنعنا المثل العام العبقرى ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب، وهنا مرة أخرى خلود حجازي، فهو يرسم بقلبه بعدما يفكر عقله فى الفكرة، فتدخل صافية إلى عيوننا وتنفذ للقلب مباشرة دون حواجز إنسانية، وتوقف أمام أى لوحة من لوحات حجازى، ستجد فيها أهم شىء فى الفن: الحياة، فى كل رسوماته تجد حياة حتى لو رسم دجاجة أو حماراً أو حصاناً أو قطة أو كلباً، يضخ حجازى من روحه الجميلة، الحياة فى كل رسوماته، فتجد الدهشة والضحكة والغضب والحب والسخرية والشكوى كلها حقيقية كأنها منقولة من الواقع لا رسوم خيالية كاريكاتيرية لاتعبر إلا عن الفكرة بل اللوحة كلها متكاملة العناصر، الرسم والتعليق والأشياء الصغيرة فى اللوحة، كتلة واحدة متكاملة أمامك، وضعها هو أمامك وكأنه يقول لك، تفضل قطعة من جسدى وبعضاً من دمى وعقلى أمامك فلا يمكنك إلا أن تندهش من جمال ما رأيت فى اللوحة، فهو يرسم بكل قطعة فى جسده.
كنت قد جمعت بداخلى الشجاعة واتصلت به فى بيته القديم بالمنيل، وكنت قد تمردت على نفسى بأنى لن أقترب من فنان أحبه كى لا أفقد الدهشة التى أتلقاها بمجرد النظر لأعماله، كأحمد زكى ومحمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وبهجت وحجازى وقد قابلت كل هؤلاء وجها لوجه لا أفعل شيئا سوى النظر إليهم مشدوها منبهرا مندهشا، أسأل فى جملة قصيرة وأستمع باقى الجلسة وأنا أراقب حركة اليدين والأصابع والعينين اللامعتين دوماً والملابس والحذاء، وكلهم متشابهون تماما فى الطريقة والإحساس وإن اختلفت التفاصيل، لأنهم جميعا يمثلون الحقيقة المجردة، وتوسطت لدى صديقى عمرو سليم أن يتحدث إليه ويستأذنه لأكلمه، وقد حدث أتذكر دقات قلبى السريعة، توترى وأنا أمسك بسماعة التليفون وقلت بصوت مبحوح ألو، فسمعت أهلا صوت راق صاف تماما، تشعر بأنه مصحوب بابتسامة خجل قلت أزيك يا أستاذ يا عظيم قال أهلا وسهلا وكان قد سمع اسمى من عمرو سليم فقال أزيك يا طارق قلت تمام قال أخبار صباح الخير إيه أنت الأمل فى الصبوحة أنت تعرفنى قلت وهل يخفى القلم، أنا مفتون يا أستاذ بكل رسوماتك وقد تربيت عليها صغيراً فى ماجد، قال كمان وأكملت كل رسوماتك فى صباح الخير وروز اليوسف فضحك الأستاذ ضحكة صافية وقال ياه ده أنا مشهور بقى وأنا معرفش قلت طبعا قال اسمع أنا راجل بسيط أعمل ما أحب ولا أحب أن أدخل فى تفاصيل كثيرة فى العمل والحياة والعلاقات التى تعرفها، أنا مرة عرض على الانضمام للأهرام وطلبنى الأستاذ هيكل بنفسه، واعتذرت إليه مشكورا، عارف ليه أنا بأحب صباح الخير وروز اليوسف ده بيتى يا أخى حد ممكن يأخدك من بيتك وذكرياتك وحنينك رغم عرض هيكل المغرى ماديا لكن المؤسسة بتاعتكو دى أغلى من أى حاجة فى الدنيا عشان كده بقولك خلى بالك من صباح الخير، فاهم قلت فاهم وضحك ضحكة عالية الصوت وقال أنتم الأمل ربنا يوفقك قلت: مع السلامة قال بأدب جم، أتفضل يا حبيبى مع ألف سلامة، عاوز أشوفك يا طارق قلت ياريت وتوالت بيننا التليفونات وقد وصل إلى شعور واحد عن هذا الرجل الفلتة الفريد.
شعورى كان يتأكد مع كل مكالمة، طويلة أو قصيرة بأنه يعيش عالمه الخاص الذى صنعه لنفسه، وراح يبنى تكوينه رويداً رويداً، حتى اكتمل عالمه كان يعيش بين رسوماته وأشخاصه ومدنه ومقاهيه وشوارعه وحاراته ونسائه وأطفاله، وسمائه وشمسه، عالم خاص يعيش فيه ولا أحد يشاركه فيه، ففى البيت يمكنك أن تتكعبل فى فضولى، أو ترى حبيبين يجلسان تحت شجرة أو تجد شمسا وسماء صافية، لذلك لم يتزوج الأستاذ إلا أياما معدودة من سيدة فاضلة، لم يتزوج هو بعد فراقه عنها، ولم تتزوج هى بعد فراقها عنه فهو لا يستطيع أن يعيش عالما آخر غير الذى رسمه فى لوحاته، فهو جزء من التكوين الكونى كالقمر والسماء والشمس والشجر والعصافير والناس صورة مكتملة لذلك لم يرسم نفسه أبدا، لأنه هو ذلك التكوين الكونى، ولا يمكن لهذا التكوين أن يرتبط بعلاقة زواج يدخل فيها بمسئوليات الزوج والأب.
صحيح كانت له صداقات نسائية كثيرة أهمها سعاد حسنى، لكنه كان يحافظ دوما على المسافة التى تجعله يعيش عالمه الخاص به ولا أحد يتخطى تلك المسافة وإلا قد اعتدى على جسده هو، لذلك كان الرجل راهباً فى محراب فنه الخاص، أختار أن يعود لبلدته ويترك القاهرة ويترك الرسم الكاريكاتيرى يأسا من نظام مبارك العقيم، وعاش بين رسومات الأطفال حيث يجد الصفاء والطهارة والبراءة فيه، أما ما تركه من فن كاريكاتيرى فانظر لأى لوحة رسمها إما فى الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات ستجدها ملائمة تماما للوضع الراهن الذى نعيش فيه وهو لا يدل إلا على شىء واحد كما قلنا أنه جزء من مصر، من التكوين الكونى، فهل تتغير الشمس أو القمر أو السماء أو الشجر أو العصافير بالأحداث لا يمكن أن تتغير أو لا تصلح فائدتها فى أى عصر، هكذا رسوم الأستاذ الجميل حجازى، وهذا اسم خلوده، فنان خالد على لوحة الفن المصرى، أسطورة سنحكى عنها ونروى ويبقى فنه المرسوم بعقله وقلبه ودمه وإحساسه سلام عليك يا أستاذ.. سلام يليق بفنك، سلام يليق بك..
الرسام الرائع حجازى ..؟
لم يكن حجازى رسام كاريكاتير عاديا.. ولكنه كان عصرا من الكاريكاتير.. كان النجم الأوحد بلا منازع.. هو أحد الذين صنعوا مجد «صباح الخير» منذ ولادتها.. كان قنبلة وثورة.. الصدق والتواضع كان طريقه لقلوب الناس.. كان كما يقال عنه.. اللى فى قلبه على ريشته..
ولذلك .. كان انحيازه الدائم للبسطاء والفقراء والمهمشين.. لذا لقب بفنان الحارة المصرية. وسيد درويش الكاريكاتير.. حجازى فنان سبق عصره بـ50 عاما.. حجازى فنان الكاريكاتير الخالد.. رحل عنا ظهر الجمعة... وكانت الصفحات التالية هى أقل ما يجب أن تقدمه صباح الخير لابنها صاحب أجمل ضحكات.. وطالما أن ضحكاته لن تموت.. فإن حجازى أبدا لا يموت
حجازى.. حين يغيب الفن الصح عن الزمن الخطأ
حين وجد الأستاذ حجازى نفسه مغتربا فى زمن لا يناسب نبل أفكاره وجمال قيمه.. قرر أن يبتعد بكامل إرادته.. تاركا وراءه إغراءات النجومية واحتياج المادة من دون ندم وبدون نظرة إلى الوراء.
كان ذلك فى أوائل التسعينيات حيث اكتشف ببصيرة الفنان رياح الفساد التى رأيناها بعد ذلك بعشر سنوات حين تجسمت وأصبحت عواصف.
لملم أشياءه القليلة عددا والعظيمة معنى.. وغادر زحام القاهرة إلى قريته فى طنطا.. ليعيش بعيدا عن التلوث الهوائى والثقافى.
كان الابتعاد قرارا يحفظ الكرامة فى زمن لم يفهم فيه الكثيرون أنها أغلى من وجع القلب فى تقليب الرزق وأهم من السقوط فى وهم الشهرة.
وكلما زادت سنوات الابتعاد اكتشفنا أن رسومات الفنان الاستثنائى حجازى تصلح للتعبير عن أحدث القضايا وأهم الأحداث.. لأن الزمن لم يتغير كما كان البعض يعتقد. حصل على معاش قليل وترك شقته لصاحب العمارة دون أن يأخذ مليما لم يدفعه.. ورفض كل طلبات الصحف العربية المغرية بكل تواضع وتهذيب حتى أنه كان يرشح زملاءه لمن يطلبه.. معبرا عن شعوره بالاكتفاء والقدرة على العيش بأقل القليل.. وعن أن فنه ليس سلعة تباع وتشترى وإنما هى ملك لمن يعرف قيمتها دون مقابل.
من أكثر المواقف سعادة وفخرا فى حياتنا - صديقة عمرى سهام ذهنى وأنا - أن أول موضوع نشر لنا وكان بعنوان - (الغناء السرى فى مصر) رسمه الأستاذ حجازى.
حين فتحنا مجلة صباح الخير فى منتصف السبعينيات صرخنا فى فرحة هستيرية تشبه صرخة امتزاج النجاح بالدهشة بالانتصار.. صرخة تعكس شعور من نجح فى الثانوية العامة.. لم تكن الفرحة بنشر أول موضوع كما كتبناه فى مجلة محترمة فقط، بل بشرف التحاق الموضوع برسوم حجازى.
التحقيق كان عن تجربة الشيخ إمام ونجم وعدلى فخرى وأضاف إليهم الأستاذ رؤوف توفيق أحمد عدوية نموذجا لغناء مختلف يجد مستمعيه بعيدا عن الإذاعة أو أى حفلات رسمية.
لا أعتقد أن أحدا قرأ التحقيق وعرف تفاصيله، فالرسوم التى أبدعها حجازى كانت تفوق الخيال فى تعبيرها وجمالها وسخريتها.. ورغم ذلك لم نحزن على المجهود الذى بذلناه فى اللقاءات والكتابة وعلى العكس فرحنا بشرف أن يرسم حجازى أول تحقيق لنا.
حاولنا المستحيل أن نرى حجازى ونتحدث معه لنشكره.. فقد كان يأتى إلى صباح الخير قبل السابعة صباحا يأخذ الموضوع الرئيسى ويقرأه (كان يقرأ الموضوع بدقة شديدة) ثم يرسم وينصرف قبل العاشرة.. وقبل حضور أى أحد.
وحين رأيناه وجدنا أمامنا إنسانا متواضعا بسيطا لا تشوبه شائبة غرور يؤمن أن العمل أهم من صاحبه.. حتى أنه امتدحنا ونحن صغار جدا ولم يترك لنا فرصة أن نمتدحه وهو عظيم جدا.. ومن يومها مسنا وتلبسنا درس مدرسة صباح الخير فى أهمية العمل والمهنية بعيدا عن الغرور والشهرة.
ولقد عذبنا هذا الدرس كثيرا حين عشنا بعد ذلك فى الزمن الخطأ الذى قرر حجازى الغياب عنه حتى لا يفقد نفسه وكرامته.
حجازى من دون ألقاب الفنان الأستاذ القدير.. غاب هذا الأسبوع الغياب النهائى.. غياب الجسد عن الدنيا ، ولكنه ترك لنا فنا لا يغيب لأنه مغموس بهموم الإنسان وكرامته.. وهى روح ونفس ومبادئ لا تعرف الغياب !