إن المرحلة التي تمر بها مصر الآن تجعلنا مرغمين على قراءة كل ما يدور حولنا من أحداث، وما يطرح من آراء ووجهات نظر، خاصة إذا كانت تلك الأقوال والأفعال صادرة من المؤسسة التي تقوم بإدارة شؤون البلاد في تلك الفترة الانتقالية؛ وذلك من أجل التعرف على وجهتهم التي لم يعلنوا عنها صراحة، وذلك طمعا في التعرف على مصير ثورتنا التي اعتبرناهم أمناء عليها، ومازالت تتلقى الضربة تلو الأخرى حتى الآن، رغم إعلانهم أنهم حماتها، إلا أنه يبدو أن مفهوم الحماية يختلف لدينا عن مفهومها لدى العسكر الذين أعلنوا وليــس كل الإعلان حقيقي أنهم حماتها حتى الآن.
وكان من أبرز الأحداث في الأيام السابقة أحداث ماسبيرو التي راح ضحيتها حوالي 27 مواطنا مصريا، وبناء على أن المجلس العسكري هو القائم على شؤون البلاد، انتظر الجميع أن يطلع علينا بتفسير لتلك المجزرة، وإبراز الحقيقة حول ما حدث، ومن هم الجناة الحقيقيون، خاصة وأن الشرطة العسكرية كانت طرفا في تلك الأحداث المؤسفة، إلا أن المجلس قد تأخر كعادته في الخروج علينا، ثم بعد ذلك خرج بمؤتمر صحفي لطرح الحقائق على حد زعمه.
ولكل خطاب أهداف ظاهرة وأخرى مستترة، لن نجد عناءً كبيرا في التعرف على ظاهرها، ولكن الإشكال الذي تسعى كل قراءة إلى فض مغاليقه هو ما يسكت هذا الخطاب عن البوح به والإعلان عنه. لقد خرج علينا اثنان من العسكر لم نعهد ظهورهما من قبل، فقد كان المعتاد أن يظهر رجال معينون اعتاد الشعب وجوههم وطريقتهم، وربما يبدو بداية أن هذا الأمر لا يعني شيئا، ولكن من الواضح أن المجلس العسكري لديه إحساس أن وجوها معينة لم تعد مقبولة شعبيا بعد وقائع بعينها، فأراد أن يغير ذلك حتى لا يُقَابل ما يعرضه برفض مبدئي، على الأقل من الناحية النفسية.
ولكن الأهم من تلك الملاحظة المبدأية هو ما أعلنه هذان المتحدثان باسم المجلس العسكري، بأنهما سيقومان بسرد ثوابت وعقائد المؤسسة العسكرية، والتي لا تهم المواطن المصري خاصة في ظل تلك اللحظة الملتهبة، بل الذي يهمه هو معرفة الحقائق حول ما حدث،، فرأى المجلس أن يبدأ خطابه باستعراض تاريخه وعقائده لتوضيح ما حدث، والذي يعرف العسكري جيدا تورط رجاله فيه، في منظومة من إنجازات وثوابت وعقائد المؤسسة العسكرية، حتى لا ننظر إلى تلك الحادثة كحادثة مستقلة، فيكون ذلك موجبا للعقاب الفوري، ولكن كجزء من تاريخ طويل يرى الشعب أنه مشرّف، فيكون ذلك بمثابة شفاعة لهم عن جريمة لم يعترف العسكري بتورط رجاله فيها، وإن كان متأكدا أنهم قاموا بها.
كما أن العسكري تعامل بتضليل واضح للمواطن المصري المتابع لمؤتمره، حيث أن طرفي الحادثة محل التوضيح كما يعلم الجميع هم متظاهرون مصريون في غالبيتهم من الأقباط وعلى الطرف الآخر رجال الشرطة العسكرية، إلا أن العسكري تغاضى عن الطرف الثاني الفعلي وصدّر الحادثة وكأنها صراع بين الأقباط والمسلمين، واستتبع ذلك بذكر أن ثورة يناير قد قدمت نموذجا للوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين؛ وذلك بهدف التأكيد على ما حاول جذب الانتباه إليه، وهو أن أطراف المشكلة هم من المسلمين والمسيحيين وليس العسكر طرفا ضالعا فيها. فإذا كانت المشكلة بدأت حول كنيسة الماريناب بالأساس، إلا أنه لم يحدث صدام في تلك القرية، ولكن حدث في القاهرة بين المتظاهرين وأفراد الشرطة العسكرية، كما أن من بدأ بإشعال تلك الفتنة بالأساس هو المحافظ الذي يعتبر محسوبا على المجلس العسكري كقائم بإدارة شؤون البلاد، حيث اعتبر أن المسيحيين قد ارتكبوا مخالفة وأن شباب المسلمين قاموا بإزالتها، وكأن الشباب أصبحوا جهة تحقيق وتنفيذ، ورغم كل ذلك يبقى السؤال المطروح هو: هل كانت تلك التظاهرات تستدعي كل هذا الصدام، أم أن إحداث ذلك الصدام كان مقصودا من الشرطة العسكرية لأهداف لا نعرفها؟
ومن بين تلك الثوابت التي عرضها المؤتمر الصحفي أن ما يحدث الآن هو تصرفات غير مسؤولة تسيء للشعب المصري وتاريخه، رغم أن ذلك ظرفا طارئا ولا يصلح أن يكون ثابتا أو عقيدة، إلا أننا نلاحظ فيه أن المجلس يتعامل مع الحدث وكأن رجاله من الشرطة العسكرية ليسوا طرفا في تلك الأحداث، وأنه إذا كانت هناك إساءة، فهم طرف ضالع فيها بنسبة كبيرة، ولكن يبدو أنهم يصرون على أن الطرف الآخر (المتظاهرون) هم المخطئون فيما حدث، وذلك بالطبع استباق للتحقيقات التي أعلنوا أنها قيد التنفيذ ولم يتم الانتهاء منها بعد، وهذا تضليل واضح وحكم قاطع وإن بشكل غير مباشر بأن نتيجة تلك التحقيقات لن تقرب من الطرف الذي تمت تبرئته مقدما، بل والإعلاء من شأنه، أثناء ذلك المؤتمر الصحفي.
ومن ضمن الثوابت التي تم عرضها هو أنهم يعتقدون بأن هناك ثورة مضادة تحاول إجهاض الثورة ولها آليات تم تحديدها في التشكيك في القيادات (والمقصود طبعا بالقيادات المجلس العسكري) وإشعال الفتنة الطائفية، وإشاعة الفوضى والانفلات الأمني، وإحداث وقيعة بين الشعب وقواته المسلحة أو فئات المجتمع الأخرى. وإذا كنا واثقين بالفعل بأن هناك ثورة مضادة، وأنها تملك آليات محددة لإجهاض الثورة، ولكننا كنا نعتقد أن دور المجلس العسكري ليس متمثلا في إخبارنا بأن ثمة ثورة مضادة، ولكن أن يعرض علينا آلياته لمقاومة تلك الثورة المضادة، خاصة وأنه أعلن بوضوح خطة تلك الثورة المضادة، إلا إذا كان يعلنها على الشعب كي يأخذ حذره ويحمي نفسه. ومن الملفت فيما تم عرضه أنه لم يحدد ما يعنيه بالتشكيك في القيادات، خاصة أن كثيرا من القوى الثورية تقوم بنقد أداء المجلس العسكري بشدة؛ وأنه لا يقوم بالمطلوب منه لحماية الثورة والقضاء على بقايا نظام مبارك، وذلك يعني أن الثوار هم أحد أطراف الثورة المضادة، مما يستوجب مواجهتهم من الشعب. واختتم تلك النقطة حول توضيح ذلك المخطط الذي يحمل تضليلا في بعض أجزائه، بل وربما تحريضا على الثوار، ختمه بالإعلان عن أنهم يدركون حقيقة ماحصل ويحذرون منه، وكأن مهمة المؤسسة التي تحكم البلاد وتحافظ على أمنها أن تدرك وتحذر لا أن تواجه وتؤدي ما عليها.
ثم تم الاستطراد مرة ثانية في عمق العلاقة بين المسلمين والمسيحيين؛ للتأكيد على أن طرفيها هم الشعب، في نوع من تغييب طرف أساسي وهو الشرطة العسكرية، وأُتبع ذلك بالحديث مرة ثانية عن دور القوات المسلحة، وهنا خلط بين دور القوات المسلحة، ودور المجلس العسكري في إدارة شؤون البلاد بما فيها حفظ الأمن الداخلي، حيث قالوا بأن المؤسسة العسكرية تقوم بدورها في حماية الحدود وأنها على استعداد للتضحية بنفسها في سبيل ذلك، وأن جزاءهم كان الجحود والاعتداء عليهم، وهنا تضليل وخلط واضح بين الشرطة العسكرية التي دهست المتظاهرين، وبين من يحمون الحدود، والذين هبَّ الشعب المصري بكافة أطيافه حين طالتهم الأيدي الصهيونية على الحدود في ظل صمت مخز من قبل المجلس العسكري، وما كانت أحداث السفارة إلا جزءا من رد فعل الشارع المصري تجاه ما حدث لأبنائنا من الجنود.
ومن بين ما عرضه المؤتمر الصحفي هو موضوع التظاهر، حيث اعتبر أنه يتم استخدام المظاهرات من خلال أعداء الوطن للاندساس من أجل تنفيذ أهداف هدامة، وربما يبدو ذلك اتهاما للمتظاهرين بأنهم بفعلتهم تلك هم يساهمون في كل ما يتم من تجاوزات تصل إلى حد المجزرة كما حدث في العباسية وأخيرا في ماسبيرو، وكأنه ليس من مهمات القيادة العسكرية حماية المتظاهرين السلميين، والضرب على ايدي المندسين الذين يحاولون استغلال تلك المظاهرات التي أكد المجلس على أنها سلمية، فهل تتوقف المظاهرات وهي حق مكفول؛ لأن العسكري غير قادر أو غير راغب في حمايتها؟
ويبقى الآن جانب هام لابد من التعرض له في هذا المؤتمر الصحفي، وهو عرض الفيديوهات التي من المفترض أنها تعرض لحقيقة ما حدث أمام ماسبيرو، وكان المنتظر أن تعرض كيف بدأت الأحداث، ومدى إساءة كل طرف من طرفي الصدام المتظاهرون والشرطة العسكرية ولكن ما تم عرضه هو نوع من تسليط الضوء على تجاوزات المتظاهرين، خاصة أننا لم نعرف كي تحول المتظاهرون السلميون إلى هذه الحالة من الغضب، هل من بدأ تلك الحالة من الصراع هم المتظاهرون أم الشرطة العسكرية أم طرف ثالث كما عرض ذلك رجال المؤتمر الصحفي، ورغم تأكيدهم على وجود طرف ثالث، إلا أن ما تم عرضه هوعملية إدانة مستمرة للمتظاهرين الأقباط، حيث قاموا بالتركيز على جندي يجذبه المتظاهرون لإخراجه، وآخر يتلقى حجرا داخل سيارته، وبناء على هذا المشهد الذي يحاولون من خلاله كسب عطف الشعب في صف العسكري، فقد توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن الذي قاد المركبة ودهس المتظاهرين غير مذنب، حيث قالوا: إذا كان هذا الأمر صحيحا وهنا نفي ضمني لما تم عرضه من دهس واضح للمتظاهرين - وقام الجندي (بصدم) أحد المتظاهرين فإن ذلك يرجع لسوء حالته النفسية جراء ما حدث له ولزملائه من قبل المتظاهرين. وفي الوقت ذاته لم يقم المؤتمر الصحفي بعرض أي فيديو أو صورة لعملية دهس المتظاهرين التي انتشرت بشكل واسع جدا، وهذا ينفي إدعاء المؤتمر الصحفي بأنه تم لعرض الحقائق، إلا إذا كانت الحقائق من وجهة نظر العسكري هي كل ما يؤيد موقفه على حساب الطرف الآخر.
وفي النهاية نطرح بعض التساؤلات: هل الثوابت التي طرحها العسكري هي ثوابت بالفعل؟ .. هل تم تحديد ألاطراف الحقيقية للمشكلة؟ .. هل تم عرض الحقائق حول ما حدث فعلا وبشفافية؟ .. هل يجوز توظيف تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية في التغطية على أخطاء المجلس العسكري؟
' كاتب مصري
27/10/2011
العسكري وأحداث ماسبيرو .. محاولة للفهم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
موضوعات عشوائية
-
ADDS'(9)
ADDS'(3)
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى