عندما دخل فيدل كاسترو على رأس رجاله الظافرين هافانا، وقد امتشقوا بنادقهم وأحزمة رصاصهم مطلقين لحاهم الكثيفة مال الرئيس عبد الناصر إلى اعتبارهم. جماعة من المغامرين على الطريقة السينمائية التي كان يقوم بأدوارها إيرول فلين وأمثاله من أبطال أفلام المغامرات المثيرة ، ولينس ثوارا حقيقيين وربما ساعد على هذا الانطباع أن الممثل ايرول فلين نفسه كان مع الموكب الغريب الذي دخل كاسترو به إلى هافانا.
ولم يول- عبد الناصر حركة كاسترو الكثير من الاهتمام لأن الزعيم الكوبي كان يلقى كثيرا من التأييد الأمريكى في ذلك الحين . ومع أن عبد الناصر كان يرى أن أمريكا اللاتينية كانت ناضجة للثورة، فلم يكن يعتقد أنه يمكن أن ينجح أى تغيير هناك دون موافقة أمريكا . فقد كان شديد الإحساس واليقظة للطريقة التى قلبت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نظام الرئيس أربينيز فى جواتيمالا، وكان إحساسه هذا من العمق بحيث لم يكن يساوره أى شك في حقيقة بطش الولايات المتحدة وسلطانها على تلك المنطقة.
وقد كان شكه في تأييد أمريكا لحركة كاسترو، وارتيابه فى نزعة كاسترو المسرحية- فضلا عن انهماكه فى أحداث الشرق الأوسط- هو الذى دفع عبد الناصر إلى العزوف عن التورط مع كاسترو وأتباعه أصحاب الذقون الطويلة والأحذية الثقيلة.
ولم يكن هناك أى اتصال حقيقى بين الحركتين حتى يونيو ( حزيران) 1959 عندما وصل تشى جيفارا إلى القاهرة في زيارة لمدة خمسة عشر يوما لدراسة تجربة الإصلاح الزراعى في مصر .
وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها عبد الناصر وتشى جيفارا.
في هذا اللقاء الأول، روى تشى لعبد الناصر إنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب والنكسات-وهو يقود حرب العصابات في قمم التلال الكوبية في سنة 1956 -- كان يستمد كثيرا من الشجاعة من الطريقة التى صمدت بها مصر للعدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسى- الإسرائيلى . وقال إن عبد الناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله.
على أنه عندما بدأ الرجلان يتطرقان إلى موضوع الإصلاح الزراعى، بدا الاختلاف بينهما واضحا على الفور . إذ كان أول سؤال وجهه تشى جيفارا هو:
" كم من اللاجئين المصريين أجبروا على مغادرة البلاد؟ "
وعندما رد عليه عبد الناصر بأن عددهم لم يكن كبيرا وأنهم كانوا في معظمهم من " المصريين البيض " أى من فثة أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين تمصروا بحكم إقامتهم في مصر، لم يسعد هذا الجواب جيفارا، فقال معلقا:
" هذا يعنى أنه لم يحدث شيء كثير فى ثورتكم . إننى أقيس عمق التحول الاجتماعى بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم بحيث يبدأون في الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد. "
وهنا شرح له عبد الناصر أن ما يفعله هو، تصفية امتيازات طبقة معينة وليس تصفية أفراد تلك الطبقة". وأضاف أنه يريد أن يفتت سلطة الإقطاعيين لكنه لا يريد أن يحرم أفراد هذه الطبقة الإقطاعية من أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع الجديد إذا شاءوا .
ولكن جيفارا أصر على وجهة نظره ولم تتمخض زيارته للقاهرة عن شئ يذكر. فقد كان الرئيس عبد الناصر حتى ذلك الوقت لا يولى الكوبيين وسياساتهم الكثير من الاهتمام .
وفى السنة التالية استقبل عبد الناصر ضيفا كوبيا آخر هو راءول كاسترو- شقيق فيدل- الذى جاء على رأس وفد كوبي للاشتراك في احتفالات ذكرى الثورة . وقد أعد خطابا لهذه المناسبة يلقيه فى الاسكندرية بمناسبة ذكرى خلع الملك فاروق عن العرش . وكان الخطاب بالغ العنف في هجومه على الولايات المتحدة، ذلك أن العلاقات بين كوبا الجديدة كانت قد ساءت وأخذت الولايات المتحدة تهييء مقدمات الغزو في معركة خليج الخنازير التى وقعت فيما بعد.
واستفسر أحد رجال التشريفات من كاسترو عما سيقوله في خطابه ولما أطلعه كاسترو على الخطاب هاله ما فيه من عنف في العداء لأمريكا فرجاه أن يخفف شيئا من لهجته.
وانفرد كاسترو بنفسه فى المدرج وحاول أن يحذف أعنف مقاطع الخطاب وشعر باكتئاب شديد من ذلك. لكنه ازداد انزعاجا عندما قال له رئيس التشريفات إن النصف المنقح لا يزال بالغ العنف !
وفى النهاية حذف راءول كاسترو ما يقرب من ثلثى الخطاب وشعر برغبة فى الامتناع تماما عن الكلام في الاحتفال غير أنه كان وعد بالكلام واتخذت كل الترتيبات لذلك فأحس بأنه لابد وأن يمضى في الأمر إلى نهايته. ولكنه شعر بالخيبة و بأن خطابه كان فاترا بلا نبض ولا روح ولا حيوية .
ثم ألقى الرئيس عبد الناصر خطبة حمل فيها على الولايات المتحدة حملة أكثر عنفا بكثير مما كان كاسترو ينويه في النص الأول لخطابه. من هنا فقد أسقط في يد الزائر الكوبي وكان من الطبيعى أن يشعر بالحيرة والغضب معا !
وعندما خرج عبد الناصر وكاسترو في سيارة واحدة من مدرج الاحتفال لتناول العشاء، لزم كاسترو الصمت طوال الطريق برغم حماسة الجماهير الى كانت تهتف لهما وتحييهما. وعندما وصلا إلى بيت الرئيس قال كاسترو : " إننى آسف فربما ليس لى أن أثير الموضوع أصلا . لكننى لا أفهم شيئا على الإطلاق إليك خطابى...
كان الخطاب مكتوبا بالأسبانية، ولاحظ الرئيس فورا أن نصفه مشطوب. واستأنف كاسترو قائلا:
" إن ما يحيرني هو أنك كنت فى حملتك على الأمريكيين أقسى وأشد مما كنت أنويه عشرات المرات..."
ودهش الرئيس وسأل كاسترو عمن قام بدور الرقيب على خطابه، وبدأ يتحرى فورا عن الأمر بالتليفون، حتى اهتدى إلى المسئول الذى راقب خطاب كاسترو، وقد قال ذلك الرجل- سيء الحظ- إنه شعر بأن عليه أن يسأل كاسترو تخفيف لهجة خطابه لأنه كان مقرراً أن يحضر السفير الأمريكى الاحتفال ..!
وهنا التفت عبد الناصر إلى كاسترو قائلا : " هكذا يعاني الثوريون من البيروقراطيين " .
ورد كاسترو قائلا إنه لو لم يهاجم الرئيس الأمريكيين فى خطابه ولو لم يسأل عن سبب مراقبة خطابه لكان قد عاد ليخبر أخاه أن المصريين ليسوا ثوريين .
التقى عبد الناصر بفيدل كاسترو للمرة الأولى فى نيويورك بعد ذلك بثلائة أشهر عندما حضر الإثنان " دورة خروشوف " فى الأمم المتحدة . وفى ذلك اللقاء كرر فيدل كاسترو ما كان قاله جيفارا عن الشجاعة التي استمدوها فى 1956 من الطريقة التي صمدت بها مصر في وجه بريطانيا وفرنسا وإ سرائيل في معركة السويس . وكيف خرجت ورأسها مرفوعة في عنان السماء. وطلب من الرئيس عبد الناصر أن يلخص له التجربة المصرية وقت السويس وأبدى إعجابا صادقا به.
وقد أعطى الرئيس عبد الناصر تأييده لكاسترو في نيويورك حيث دبر الأمريكيون حملة ضده تستهدف إجباره على مغادرة الولايات المتحدة. وكان قد حجز لنفسه ولأعضاء وفده في فندق شلبورن حيث تعمدت إدارة الفندق إهانته إذ طلبت من الكوبيين تقديم بعض الضمانات المالية ثم امتلأت الصحف الأمريكية بالقصص الفاضحة التي تزعم أن غرف المندوبين الكوبيين امتلأت بريش الدواجن التى زعموا أن هؤلاء كانوا يذبحونها فى غرفهم ويلتهمونها !
وانتقل كاسترو إلى الإقامة في هارلم- حى الزنوج- وذهب عبد الناصر لزيارته فى ذلك الحى الزنجي المعزول لإبلاغه رغبته فى أن يقترح نقل الأمم المتحدة إلى بلد آخر إذا جعل الأمريكيون من المستحيل على كاسترو أن يشترك فى دورة الجمعية العمومية تلك
وحمل كاسترو لعبد الناصر هدية كانت عبارة عن صندوق خشبى موشى بجلد التمساح. وعندما فتحه عبد الناصرقال : " ظننت أنه صند وق سيجار "، فاعتنر كاسترو قائلا : ".لم أكن أعرف أنك تدخن السيجار، لكننى سأتحقق من أن تصلك كمية من السيجار، ولربما أخطأت في إهدائك صندوقا موشى بجلد التمساح لأن النيل عندكم يعج بالتماسيح ".
أجابه عبد الناصر: " نعم... عندنا" وتطلع إلى سقف الغرفة قبل أن يضيف " أربعة منها بالضبط ! "
وتطلع إليه كاسترو مشدوها : " كيف تيسر لك أن تحصيها "؟ فأجابه الرئيس لأنها جميعا في حديقة الحيوان " !
وسأله كاسترو إذا كان سيستمع إلى خطابه الرئيسي الذى ينوى أن يلقيه فى جلسة بعد الظهر فى الأمم المتحدة، فرد عبد الناصر بأنه على قدر ما كان يود ذلك ، فلن يكون في وسعه أن يحضره لأن موعده مع الرئيس أيزنهاور كان قد حدد فى نفس الموعد المقرر الذى كان كاسترو يتحدث فيه.
واكتأب كاسترو للغاية واعتقد بأن الأمريكيين تعمدوا تحديد الموعد بهذه الطريقة حتى يعرقلوا أى تقارب بينه وبين عبد الناصر. ولكن حتى إذا كان ذلك صحيحا فالواقع أن الأمريكيين لم ينجحوا فى غرضهم إذ قام بين الرجلين إعجاب متبادل تزايد على مر الأيام .
وحث الرئيس عبد الناصر كاسترو- فى اجتماعاتهما في نيويورك- على أمرين :
أولهما : أن لايعلق اهتماما أكثر مما يجب على القاعدة البحرية الأمريكية فى " جوانتانامو " في كوبا، وأن لايسمح لنفسه بأن يساق إلى نزاع عسكرى بسبب تلك القاعدة .
وثانيهما: أهمية وجود قاعدة للثورة . كالوحدة العربية مثلا بالنسبة للثورة المصرية.
وأوضح الرئيس لكاسترو كيف أن فكرة الوحدة العربية قد أعطت النضال المصرى عمقا عظيما وأمدت الثورة بالعمق الاستراتيجى والادبي والسياسي .
وسأل كاسترو إذا كانت ثمة قاعدة أو أسس للوحدة فى أمريكا اللاتينية.
ورد كاسترو بأن هناك بعض الأسس : الدين، واللغة - باستثناء البرازيل بلغتها البرتغالية- والاضطهاد الذى يؤلف القاسم المشترك الأعظم بين جميع دول أمريكا اللاتينية. ولكن لم يقم بعد أى عامل توحيدى فى قوة فكرة الوحدة العربية.
عاد جيفارا إلى القاهرة فى فبراير (شباط) 1965 ومكث فى المنطقة العربية حتى نهاية مارس (آذار). وفى ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماما شكوكه الأولية فى الكوبيين وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم فى تأييد مصر وقت السويس وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم .
وكان عبد الناصر يرى فى كفاحهم ضد الولايات المتحدة فى معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، صراع سمك السردين مع الحوت . وكان اعجابه كله لسمك السردين .
استقبل عبد الناصرجيفارا فى اليوم الثاني من زيارته وشعر على الفور بأن جيفارا يعاني الحزن من ضيق شخصى وكرب عميق . وحاول عبد الناصر أن يحثه على الكلام : كيف تسير الأحوال فى كوبا ؟ هل كل شيء على ما يرام بينه وبين كاسترو؟ "
لكن جيفارا ظل منطويا على نفسه ، ولم يفتح قلبه أو " يفضفض " بالكلام عن مشكلته.
وفى ذلك الاجتماع أبلغ عبد الناصر أنه ذاهب إلى تانزانيا حيث ألفت لجنة لمساعدة حركات التحرير الأفريقية فى دار السلام، ولكن عبد الناصر شعر بأن جيفارا لا يتجه إلى تانزانيا بكل قلبه ...
وعاد جيفارا بعد عشرة أيام قضى بعضها فى الكونجو وقال للرئيس : إن ماشاهده هناك أحزنه وحز في قلبه. وقال إنه قام بزيارة كتيبتين من الزنوج الكوبيين ألفتا وأرسلتا من كوبا للقتال من أجل أنطوان جيزنجا الرجل الذى حاول أن يرث زعامة لومومبا . ومضى يبلغ الرئيس " إنه يفكر في الانضمام إلى الكفاح وفى تولى قيادة الكتيبتين .
ودهش عبد الناصر مما سمع... بينما استطرد جيفارا- الذى كان يرافقه فى المقابلة السفير الكوبي فى تانزانيا السنيور ريفالتا الزعيم السابق لنقابة عمال السيجار في كوبا- يقول : " لقد أمضيت ليلتى كلها أذرع أرض غرفتى في فندق شبرد محاولا أن أقرر إذا كان يجب أن أقابلك وأخبرك بذلك بينما أمضى صديقي ريفالتا وقته يلف سيجارين لك ".
وكان ريفالتا يحمل دائما أوراق التبغ الكوبي معه ليلف السيجار حيثما أتيح له. وهكذا لف فى ليلة تردد جيفارا سيجارين بالغى الطول للرئيس بينما كان جيفارا يحاول أن يقرر ما إذا كان له أن ينبىء الرئيس عبد الناصر بأنه ينوى أن يقاتل فى الكونجو .
وما لبث جيفارا أن بدأ يتكلم ليوضح موقفه للرئيس :
إننى أرى أنه يجب أن نفعل المزيد من أجل الثورة فى العالم . وقد فكرت فى أنه يتعين على أن أتوجه إلى أفريقيا لأفعل شيئا ما. إن لى خبرتي وتجربتى فى النشاطات الثورية وفي التنظيم الثورى وأعتقد أن الأسباب مهيأة فى أفريقيا.
" وأعتقد أننى سأتوجه إلى الكونجو لأنها أكئر بقاع العالم تفجرا ، وأخال أننا نستطيع- بمساعدة الأفريقيين عبر لجنة تانزانيا وبواسطة الكتيبتين الكوبيتين- أن نؤذى الاستعماريين فى قلب مصالحهم في كاتانجا " .
ورد عليه عبد الناصر قائلا : " إنك تدهشني ماذا حدث لكل ما كنت تفعله في كوبا ؟ هل تخاصمت مع كاسترو؟ لا أريد أن أتدخل لكنك إذا كنت تريد أن تصبح " طرزانا " ثانيا ، رجلا أبيض يقحم نفسه بين الزنوج ليقودهم ويحميهم ، فإن ذلك لن يفلح .
وضحك جيفارا من فكرة تحوله إلى " طرزان " . وانتهى الاجتماع الذى كان فى الوقت نفسه بداية سلسلة من الحديث والحوار بين عبد الناصر وجيفارا . حوار بين مناضلين ثوريين كان رأيهما واجتهادهما في طريقة تحقيق الثورة تختلف بشكل جوهرى في معظم الأحيان .
كان عبد الناصر يحب جيفارا. وكان يشعر بميل عاطفى خاص نحو هذا الزعيم الكوبي ، وفي أثناء الحديث، بدأت تتجلى أسباب حزن جيفارا. فقد قال يبسط الوضع ، إنه يكن احتراما شديدا لكاسترو ويعتبره أخا ومعلما، ولكن قامت بينهما أشياء لم تكن كلها سوية . أولها أنه جعل راءول كاسترو يعتنق الشيوعية بينما كان في المكسيك ولم يخبرفيدل بذلك . ثم أدخل راءول في عضوية الحزب الشيوعى وقرر معه أن يخفيا الأمر على فيدل. ولما عرف فيدل كاسترو بالأمر استشاط غضبا : غضب لما حدث كما غضب لأنه أخفى عنه.
كذلك عكر العلاقات بينهما أنه كانت له أحيانا- برغم أنه لا يشك مطلقا في الإخلاص الثورى لكاسترو- بعض التحفظات إزاء معتقدات كاسترو الاجتماعية أئناء كفاحهما المسلح فى الجبال .
وعلى كل حال، فقد كان غضب كاسترو وشكوك جيفارا قد مضيا ، ومنح كاسترو رفيقه فرصته فى أن يزاول حقه الثورى كاملا، فقد أعطاه- وهو الأرجنتينى- الجنسية الكوبية وجعله وزيرا للصناعة .
ولكن مصاعب ذلك المنصب كانت هائلة ووجد جيفارا أن الكثيرين أخذوا يهاجمونه بسبب افتقاره إلى النجاح بشكل جعله يشعر بأنه يفتح المجال لمهاجمة فيدل كاسترو شخصيا.
وقال جيفارا إنه يشعر بأنه يتخبط فى أزمة . فقد كانت لديه أسئلة عديدة لا يستطيع أن يجد لها جوابا. وقال إن كوبا تواجه مشكلات هائلة. وليست هناك حلول سريعة. واعترف قائلا : " لقد تخبطنا- وربما كنت أنا المسئول عن هذه الأخطاء- فقد أممنا 98 فى المائة من كل ما وجدناه ، أممنا حتى دكاكين الحلاقة، وبعد ذلك وجدنا أنه كان علينا أن نترك بعض الناس خارج نطاق التأميم " .
ومضى جيفارا يقول :
لقد تعودت أن أتحدث كثيرا عن التحول الاجتماعى . ومن ثم كلفت مهمة الإشراف على ذلك التحول ، وكان المشكل الأول الذى واجهته هو إيجاد الأشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة ثم وجدناهم وظننا أنهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا أنهم لا ينتمون إلى الحزب الثورى إنما إلى الحزب الإدارى .
فقد نسوا حماسهم الثورى فى أحضان السكرتيرات الفاتنات وعلى مقاعد سياراتهم الفخمة وفى أجواء امتيازاتهم ومكاتبهم وبيوتهم المكيفة الهواء ، وأخذوا يغلقون أبواب مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلا من أن يفتحوها لاستقبال العمال .
لقد شعرت بأننا نعطى الانتهازية فرصتها. وقد وجدنا رجلا يحتفظ فى مكتبه بسبعة عشر جهاز تلفزيون .
أحسست بأنه ليس لدينا حزب، إننى شيوعى وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية وأصبحت معذبا مشتتا ببن الثورة والدولة. "
وكان جيفارا يتكلم بملء اندفاعه. كانت خيبة أمله واضحة وضوح حزنه وكربه وكان صدره مليئا بأسثلة تفتقرإلى جواب .
" من هو الشيوعى؟ ماهو دور الحزب؟ هل الشيوعى مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعى أن يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم إن على الشيوعى أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ . لكننى تبينت أن ما قلت هو وصف لعامل جيد وليس وصفا لشيوعى جيد.
من يسن القوانين؟ ما هى العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة الناس؟ حتى يومنا هذا ظلت هذه العلاقات تدار بانتقال الأفكار واستقرائها تلقائيا . لكن هذه الطريقة لم تعد كافية.
إننا شديدو التعاسة من كثير من الأشياء الى نراها حولنا ، إننا لسنا راضين عن الستالينية لكننا لا نقبل رد الفعل ضد الستالينية...
ثم إن هناك تناقضا فى الشيوعية. فعندما كنت أفاوض الاتحاد السوفييتى أحيانا، وجدت أن الروس يريدون أن يشتروا موادنا الخام بسعر السوق السائد الذى يحدده الاستعماريون . على أننى لا أستطيع أن أقبل ذلك من دولة اشتراكية. ولقد ناقشت هذه الناحية مع الروس .. فقالوا إنهم مضطرون إلى أن يبيعوا في سوق تنافسية. وعند ذلك سألهم عن الفرق بينهم وبين الاستعماريين الذين يحددون الأسعار، فقالوا إنهم يفهمون جيدا وجهة نظرى وأنهم يدركون أن المواد الخام تجمع من عذاب واحتضار شعوب الدول المتخلفة ولكن ليس لديهم- على حد قولهم- من بديل . " إننا مضطرون إلى البيع فى سوق تنافسية "
وبعد ذلك سألتهم عن السلع والمنتجات الجاهزة التى يبيعونها لنا وقلت لهم : إنكم تعتمدون فى الإنتاج على آلات التسميد الذاتي وبالتالى لا تدفعون أجورا مرتفعة فى مقابل الإنتاج، أى أنكم تنتجون تلك السلع بتكلفة رخيصة ومع ذلك تبيعون إياها بنفس أسعار السوق العالمبة أى أننا نواجه الانسحاق في كل حالة ، ولا نجد أملا لنا حتى معكم ! "
ومضى بعد ذلك يناقش دور كوبا فى أمريكا اللاتينية وقال إن الحركة الوحيدة التى قامت قبل الثورة الكوبية وكانت تستحق الاهتمام هى حركة بيرون في الأرجنتين وقال إن بيرون حقق بعض الأشياء المهمة في ميدان التصنيع لكنه أخفق كليا فى فهم دور البروليتاريا وقد أخفقت حركته وفشلت بسبب افتقارها إلى عنصر النضال الشعبى .
واستطرد يقول : " وقد أخفقت كذلك لأن بيرون كان جبانا فلم يستطع أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الموت وعندما حان وقت إظهار الشجاعة آثر الهرب " .
وقال جيفارا: " إن نقطة التحول في حياة كل إنسان تحل فى اللحظة التى يقرر فيها أن يواجه الموت . فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق . إن فى وسع الإنسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت فإنه لن يكون أكئر من مجرد رجل سياسي "
تلك كانت العقيدة التى عاشها جيفارا ومات من أجلها.
واستمرت المناقشات ليال عدة فى بيت الرئيس وكان من الأشياء التى رواها جيفارا للرئيس عبد الناصر أنهم كانوا قرروا البدء بالثورة فى كوبا مع أن الأسباب لم تكن ملائمة لها، لأنهم شعروا بأن قرار إشعال الثورة نفسه يشكل عاملا ثوريا يجب أن يحسب حسابه.
وناقشه عبد الناصر في حججه تلك قائلا إنه يدرك أن قرار إشعال الثورة يمكن أن يكون في حد ذاته عاملا حتى لو كانت الشروط الموضوعية غير مكتملة بعد ، ولكن هناك متطلبات أساسية لا يمكن تجاهلها فإذا ما أهملت فإن القيام بالثورة يمكن أن يكون عملا يائسا.
وقال عبد الناصر لجيفارا:
" عليك- قبل كل شيء- أن تنسى كليا فكرة الذهاب إلى الكونجو هذه . انها لن تنجح وسوف يكتشف أمرك بسهولة لأنك رجل أبيض . وإذا رافقك آخرون من البيض فإنك ستعطى الاستعماريين فرصة أن يقولوا إنه ليس هناك فارق بينكم وبين الجنود المرتزقة .
إننى أعتقد بأن الثورة ظاهرة عالمية النطاق لا تفرق بين مختلف الألوان والأجناس ولكن هناك أشياء معينة يجب أن تدخل فى الاعتبار، أن ما ينبغى علينا عمله هو أن نساعد الإفريقيين . ولنحاول فى هذا أن نعطى كل شعب الحق في أن يفعل ما يعتبره صائبا .
لكنك إذا ذهبت إلى الكونجو مع الكتيبتين الكوبيتين وإذا أرسلت معك فيلقا مصريا فإن عملنا سيوصم بأنه تدخل أجنبى وسيؤذى أكثر مما يفيد " .
ومضى عبد الناصر يناقش مسألة القواعد اللازمة للثورة الناجحة ، قال : ربما كنت أختلف مع وجهة النظر الماركسية الجامدة التى تقول إن الثورة لا يمكن أن تنشب الا حيث تكون هناك بروليتاريا متطورة- ولقد أثبت كل من لينين وماوتسى تونج عدم صحة هذه النظرية- لكننى أرى أنه لابد من أن تكون هناك على الأقل نواة من البورجوازية الصغيرة والعمال .
كما أن الأمر يتطلب توافر المقومات الأساسية لمرافق المواصلات. فالأفكار تحتاج إلى المواصلات مثلما يحتاج إليها الاقتصاد. وإذا كان الاقتصاد في حاجة إلى طرق ومطارات فإن الأفكار كذلك تحتاج إلى وسائل الانتقال وبالتالى لا يمكن أن تكون هناك ثورة جماهيرية عامة دون أن تتوفر المقومات الأساسية لمرافق الخدمات العامة .
لقد عانيت ذلك فى اليمن واختبرته. فعندما بدأت الثورة هناك، وجدتنى أهب لمساعدتها. ومع أننى تلقيت من التقارير ما يفيد أن الو!قع هناك غير صالح للثورة فقد قلت مئلك إن مجرد أن الثورة قامت فإن ذلك يؤلف عنصرا وضعيا في حد ذاته وبالتالي تجب مساعدتها .
على أننى ما لبثت أن اكتشفت أولا أنه لا يمكن مساعدة الثورة من الخارج ، وثانيا أن ذلك سيقتضى وقتا طويلا وكثيرا من العذاب. ووجدت أننا بينما نستطيع أن نسارع في العملية التاريخية للثورة فإننا لا نستطيع أن نقفز متخطين العملية الطبيعية العضوية التى تخلق قوى الثورة .
في ذلك الحين كان الرئيس عبد الناصر يخوض حملة لتجديد فترة رئاسته للجمهورية العربية المتحدة ، فكان يجول فى المدن والأرياف ملقيا الخطب ومجتمعا إلى الجماهير . وهكذا أبلغ جيفارا بعد جلسة مناقشة طويلة بينهما أنه لن يسعه أن يقابله فى اليوم التالى لأنه سيكون خارج القاهرة لافتتاح العمل فى أحد المصانع .
وحول هذا الأعتذار دفة الحديث من جديد إلى الصناعة فقال جيفارا إن بناء المصنع وإدارته يؤلفان عبئا عسيرا. وأعرب عن رأيه في أن أكثر ناحية مجزية من الثورة تكمن فى النشاط السياسي وسط الجماهير، وأن تصريف شئون المصانع هو عمل يبعث على الملل والقنوط .
ورد عبد الناصر بأن عملية الحماسة المطلقة تأتي في المرحلة الرومانسية من الثورة وأن يوم إندلاع الثورة هو يوم تحقيق أهداف الرومانسية - إنه ليلة الزفاف . ولكن عليك بعد الزفاف أن تجعل الزواج ناجحا . عليك أن تكسب مالا وأن تبنى بيتا وتنجب أطفالا. وهذ هو المقصود بالثورة . وهذا ما تعنيه الثورة. إنها تعنى معاناة العبء العسير الكامن في بناء المصانع واستصلاح الأراضي وتحويل الحماسة المطلقة إلى حماسة لخطة محددة وهدف بذاته.
قال جيفارا وهو يفتر عن ابتسامة : " لقد حطمت أنا زواجين ... "
وراح الرئيس عبد الناصر يشدد عليه مرة أخرى بشأن نظريته فى استكمال أسباب نجاح الثورة فقال :
إننا إذا اكتفينا برومانسية الثورة دون أن تتوافر لدينا التطورات اللازمة لها. فإن ذلك سيكون كارثة ولن تكون هناك ثورة ما لم نقم بكل تلك المهمات المملة والتى تبعث على العجز كما تقول ".
واستطرد يخاطب جيفارا : " أعرف أنك كنت طبيبا... إذن فشأنك في ذلك شأن جراح مدد مريضا على مائدة العمليات وبنجه وشق بطنه ثم رفض أن يمضى قدما في إجراء العملية. لا يجوز بل ولا يمكن أن ثفعل ذلك " .
ورد جيفارا وقد بدت عليه كل علامات الأسى وخيبة الأمل :
" ولكن ليس الثوريون هم الذين يقومون بمهمة تصريف الأعمال بعد الثورة . إنما هم الفنيون والبيروقراطيون الذين هم ضد الثورة .
أتعرف أننى أعتقد بأن هناك قانونا أساسيا وحيدا في الاشتراكية لم يكتشفه أحد بعد . لقد درست ماركس ولينين وتابعت جميع تجاربهما وأنا مقتنع بأن ما من أحد قد عثر بعد على ذلك القانون الأساسى . في برهة من الزمن ظنت أنه التخطيط لأن الانسان استطاع للمرة الأولى من خلال التخطيط أن يصب مستقبله في قالب جديد وأن يعيد تشكيل ذلك المستقبل، لكننى ما لبثت أن وجدت أننا عندما نصل إلى التخطيط فإننا نجابه الفنيين والييروقراطيين وهؤلاء يعملون ضد الثورة ويناهضونها " .
وهنا سأله الرئيس إذا كان يود أن يرافقه إلى افتتاح المصنع الجديد حيث سيكون فى وسعهما أن يشاهدا بعض النتائج العملية للئورة المصرية. ورد جيفارا بالإيجاب وانطلقا معاً فى اليوم التالى .
لقى عبد الناصر استقبالا عارما فقد اندفعت قرى بأسرها بقضها وقضيضها لتحية موكبه وحاول الناس إيقاف سيارته بإلقاء أنفسهم أمامها. وفى ذلك المصنع تجمعت الألوف المؤلفة تهتف لعبد الناصر.
ودب الانفعال الشديد فى جيفارا فقال : هذا ما أريده . هذا هو الغليان الثورى ".
وقال عبد الناصر:
" حسنا... لكنك لا تستطيع أن تحصل على هذا... " وأشار إلى الجمهور " دون ذاك " ثم أشار إلى المصنع. وقال: " لن تستطيع إدراك النجاح ما لم تنشىء ذلك المصنع " .
استولى ذلك كله على لب جيفارا حتى أنه وقف فى أحد الاجتماعات وقال بأعلى صوته مخاطبا الرئيس :
" حبذا لو أستطيع أن أصوت لك " .
وقام الضيف الكوبي كذلك بزيارة للسد العالى وأعجب كل الإعجاب بما شاهده- شأنه في ذلك شأن كل من توجه إلى زيارة السد- وقد اتخذ الرئيس عبد الناصر من السد العالى مثلا يدعم به حجته حول الحاجة إلى بناء الثورة وقال فى هذا الصدد: " لقد خضنا معركة من أجل السد العالى . كانت هناك رومانسية الثورة بأسرها والرومانسية الكاملة لمعركة كبرى ضد ثلاث دول . لقد تعرضت السويس للغزو بسبب السد العالى. ولكن كان علينا- بعد انتهاء القتال- أن نعكف على المهمة الحقيقية. وقد اعتاد دالاس أن يقول لنا إننا سنلعن اليوم، الذى فكرنا فيه فى بناء السد بسبب التضحيات التى سيفرضها على الشعب المصرى . ولكن هذه هى الثورة. إن هذه التضحيات هى الثورة . الثورة هى العمل يوما بعد يوم لحفر الأسس الصخرية وبناء الأنفاق وتركيب الآلات فهذا ما يغير المجتمع . إن قمة الفاعلية الثورية هى تجنيد الناس للقبول بالتضحيات اللازمة للبناء على الدوام .
و في المرة التالية التى التقيا فيها قال جيفارا لعبد الناصر :
" لعلنا نستطيع أن نجد سبيلا. ربما استطعنا تسييس البيروقراطيين و الفنيين . وقد تصبح الثورة في مأمن إذا استطعنا ذلك ".
وظل يعود طوال حواره مع عبد الناصر إلى موضوعه الشخصى ... مشكلة توافر الأسئلة وانعدام الأجوبة والحلول . وظل عبد الناصر بدوره يحاول حمله على الإفصاح عن مشكلاته على أمل أن تنبثق- فى النقاش- بعض الإجابات والحلول .
و سأله عبد الناصر ذات يوم : " ماذا يشغلك؟ " فهز جيفارا رأسه وأجاب : " فى الحقيقة أشعر بأننى لست أهلا للقيام بما أقوم به وأنا أبحث عن مكان آخر أذهب إليه . لقد فكرت فى الذهاب إلى الكونجو لكننى بعد أن رأيت ما يجرى هناك وجدتنى أميل إلى التسليم بوجهة نظرك بأن ذهابي إلى الكونجو قد يكون ضارا .
لقد فكرت في الذهاب إلى فيتنام . فأنا أكثر إعجابا وتأثرا بما يجرى هناك منى بما يجرى في أى مكان آخر. ذلك أنه إنجاز خارق أن يكون هؤلاء الناس قد استطاعوا أن يحاربوا اليابانيين والفرنسيين والأمريكيين بشكل متواصل. إن ما فعلوه بالأمريكيين بسيط وخارق الذكاء. فقد أجبروهم على القتال في أمكنة وظروف تخالف أسلوبهم فى الحياة ... " .
وقال جيفارا إنه كان راغبا أشد الرغبة في الذهاب إلى فيتنام . لكنه لم يفعل لأن وجوده هناك قد يسبب لكوبا قدرا كبيرا من المصاعب. واستدرك قائلا : ولكن ربما يكون فى وسعنا أن نخلق فيتنام أخرى ... " ما أشد حاجتنا إلى عدد من تلك الفيتنامات ! " .
والواقع أن جيفارا كثيراً ما عاد إلى ترديد موضوع خلق فيتنامات أخريات. وكان يقول : " أريد أن أفعل شيئا يهز النظام العالمى لأننى لا أعتبر ما لدينا الآن سلاما . إنه ليس بسلام وليس علينا أن ندافع عنه ونصونه.. إن ما لدينا هو سلام بأى ثمن . سلام رتبته الحلول الوسط بين الدول الكبرى . وإذا ما قبلنا بالسلام بأى ثمن فإننا نكون قد قبلنا فى الحقيقة حربا مستمرة، حتى ولو كانت هذه الحرب خفية ".
وسأل جيفارا الرئيس عبد الناصر عن ظاهرة الانقلابات العسكرية فى أفريقيا وعما إذا كان من شأن مثل تلك الانقلابات أن تجهض العملية الثورية. وأجابه عبد الناصر بأنه يجرى- وفق تحليله- إجهاض العملية الثورية فى أفريقيا على يد الاستعمار الجديد في غمرة من تحول الإمبرياليين من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد، مصطنعين في ذلك القلائل ، مدبرين الانقلابات ، سالبين شعارات الثورة ، خادعين الناس، مضلليهم على طول الخط .
وفي أخر اجتماع بينهما أبلغ جيفارا الرئيس عبد الناصر أنه لايظن أنه سيبقى في كوبا . وقال إنه لم يقرر بعد أين سيذهب لكن الشيء الوحيد الذى ينتظره هو أن يقرر " أين يعثر على مكان يكافح فيه من أجل الثورة العالمية ويقبل تحدى الموت ".
وسأله عبد الناصر: " لماذا تتحدث دائماً عن الموت ؟ إنك شاب. إن علينا أن نموت من أجل الثورة إذا كان ذلك ضروريا، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها "
لكن جيفارا كان أدرى بقدره .
ذلك أنه كان قد بلغ من خيبة الأمل في حياته ومن خيبة الأمل فى أحلامه ما جعل أمنية الموت تستبد به. لم يكن راغبا فى إدارة المصانع والتعامل مع الفنيين والبيروقراطيين . كان يريد أن يقاتل ، كان يريد أن يواجه الموت في شجاعة وأن يقف وجهاً لوجه مع الموت ويحدق في نظره !
وقد تأثر عبد الناصر تأثرأ بالغاً بالرسالة التى وجهها جيفارا إلى كاسترو عندما ذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فقد كانت تحتوى على الكثير مما تحدثنا عنه فى حوارهما الطويل. وفي تلك الرسالة قال جيفارا:
" إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. أما الآن فقد أصبح كل شيء أقل دراماتيكية، إننى أشعربأننى أنجزت ذلك الجزء من عملى الذى كان يربطنى بالثورة الكوبية.
إن بلادا أخرى في هذا العالم تحتاج إلى جهودى . وبعد فإني أستطيع القيام بما لاتستطيعه أنت بسب مسئولياتك فى قيادة كوبا. أجل لقد حان وقت الرحيل والاقتراق . وأريدك أن تعرف أننى أرحل بمزيج من الغبطة والألم . فإذا جاءت ساعتي تحت سماء أخرى فإنك والشعب الكوبي ستكونان في خاطري قبل أن ألفظ نفسي الأخير . النصر أو الثورة أو الموت ... "
وهكذا انطلق جيفارا يحمل الثورة إلى بوليفيا . لكنه وجد هناك ما كان عبد الناصر قد حذره منه. لم تكن هناك قاعدة ثورية. لقد جاء بالشرارة ولكن البارود لم يكن جاهزا للتفجير بعد . وأخفق جيفارا . ثم تعرض للخيانة... ثم التقى بالموت ... وكان شجاعاً فى لقائه مع الموت ... ولم يهرب وإنما ذهب !
ولم يول- عبد الناصر حركة كاسترو الكثير من الاهتمام لأن الزعيم الكوبي كان يلقى كثيرا من التأييد الأمريكى في ذلك الحين . ومع أن عبد الناصر كان يرى أن أمريكا اللاتينية كانت ناضجة للثورة، فلم يكن يعتقد أنه يمكن أن ينجح أى تغيير هناك دون موافقة أمريكا . فقد كان شديد الإحساس واليقظة للطريقة التى قلبت بها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نظام الرئيس أربينيز فى جواتيمالا، وكان إحساسه هذا من العمق بحيث لم يكن يساوره أى شك في حقيقة بطش الولايات المتحدة وسلطانها على تلك المنطقة.
وقد كان شكه في تأييد أمريكا لحركة كاسترو، وارتيابه فى نزعة كاسترو المسرحية- فضلا عن انهماكه فى أحداث الشرق الأوسط- هو الذى دفع عبد الناصر إلى العزوف عن التورط مع كاسترو وأتباعه أصحاب الذقون الطويلة والأحذية الثقيلة.
ولم يكن هناك أى اتصال حقيقى بين الحركتين حتى يونيو ( حزيران) 1959 عندما وصل تشى جيفارا إلى القاهرة في زيارة لمدة خمسة عشر يوما لدراسة تجربة الإصلاح الزراعى في مصر .
وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها عبد الناصر وتشى جيفارا.
في هذا اللقاء الأول، روى تشى لعبد الناصر إنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب والنكسات-وهو يقود حرب العصابات في قمم التلال الكوبية في سنة 1956 -- كان يستمد كثيرا من الشجاعة من الطريقة التى صمدت بها مصر للعدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسى- الإسرائيلى . وقال إن عبد الناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله.
على أنه عندما بدأ الرجلان يتطرقان إلى موضوع الإصلاح الزراعى، بدا الاختلاف بينهما واضحا على الفور . إذ كان أول سؤال وجهه تشى جيفارا هو:
" كم من اللاجئين المصريين أجبروا على مغادرة البلاد؟ "
وعندما رد عليه عبد الناصر بأن عددهم لم يكن كبيرا وأنهم كانوا في معظمهم من " المصريين البيض " أى من فثة أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين تمصروا بحكم إقامتهم في مصر، لم يسعد هذا الجواب جيفارا، فقال معلقا:
" هذا يعنى أنه لم يحدث شيء كثير فى ثورتكم . إننى أقيس عمق التحول الاجتماعى بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم بحيث يبدأون في الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد. "
وهنا شرح له عبد الناصر أن ما يفعله هو، تصفية امتيازات طبقة معينة وليس تصفية أفراد تلك الطبقة". وأضاف أنه يريد أن يفتت سلطة الإقطاعيين لكنه لا يريد أن يحرم أفراد هذه الطبقة الإقطاعية من أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع الجديد إذا شاءوا .
ولكن جيفارا أصر على وجهة نظره ولم تتمخض زيارته للقاهرة عن شئ يذكر. فقد كان الرئيس عبد الناصر حتى ذلك الوقت لا يولى الكوبيين وسياساتهم الكثير من الاهتمام .
وفى السنة التالية استقبل عبد الناصر ضيفا كوبيا آخر هو راءول كاسترو- شقيق فيدل- الذى جاء على رأس وفد كوبي للاشتراك في احتفالات ذكرى الثورة . وقد أعد خطابا لهذه المناسبة يلقيه فى الاسكندرية بمناسبة ذكرى خلع الملك فاروق عن العرش . وكان الخطاب بالغ العنف في هجومه على الولايات المتحدة، ذلك أن العلاقات بين كوبا الجديدة كانت قد ساءت وأخذت الولايات المتحدة تهييء مقدمات الغزو في معركة خليج الخنازير التى وقعت فيما بعد.
واستفسر أحد رجال التشريفات من كاسترو عما سيقوله في خطابه ولما أطلعه كاسترو على الخطاب هاله ما فيه من عنف في العداء لأمريكا فرجاه أن يخفف شيئا من لهجته.
وانفرد كاسترو بنفسه فى المدرج وحاول أن يحذف أعنف مقاطع الخطاب وشعر باكتئاب شديد من ذلك. لكنه ازداد انزعاجا عندما قال له رئيس التشريفات إن النصف المنقح لا يزال بالغ العنف !
وفى النهاية حذف راءول كاسترو ما يقرب من ثلثى الخطاب وشعر برغبة فى الامتناع تماما عن الكلام في الاحتفال غير أنه كان وعد بالكلام واتخذت كل الترتيبات لذلك فأحس بأنه لابد وأن يمضى في الأمر إلى نهايته. ولكنه شعر بالخيبة و بأن خطابه كان فاترا بلا نبض ولا روح ولا حيوية .
ثم ألقى الرئيس عبد الناصر خطبة حمل فيها على الولايات المتحدة حملة أكثر عنفا بكثير مما كان كاسترو ينويه في النص الأول لخطابه. من هنا فقد أسقط في يد الزائر الكوبي وكان من الطبيعى أن يشعر بالحيرة والغضب معا !
وعندما خرج عبد الناصر وكاسترو في سيارة واحدة من مدرج الاحتفال لتناول العشاء، لزم كاسترو الصمت طوال الطريق برغم حماسة الجماهير الى كانت تهتف لهما وتحييهما. وعندما وصلا إلى بيت الرئيس قال كاسترو : " إننى آسف فربما ليس لى أن أثير الموضوع أصلا . لكننى لا أفهم شيئا على الإطلاق إليك خطابى...
كان الخطاب مكتوبا بالأسبانية، ولاحظ الرئيس فورا أن نصفه مشطوب. واستأنف كاسترو قائلا:
" إن ما يحيرني هو أنك كنت فى حملتك على الأمريكيين أقسى وأشد مما كنت أنويه عشرات المرات..."
ودهش الرئيس وسأل كاسترو عمن قام بدور الرقيب على خطابه، وبدأ يتحرى فورا عن الأمر بالتليفون، حتى اهتدى إلى المسئول الذى راقب خطاب كاسترو، وقد قال ذلك الرجل- سيء الحظ- إنه شعر بأن عليه أن يسأل كاسترو تخفيف لهجة خطابه لأنه كان مقرراً أن يحضر السفير الأمريكى الاحتفال ..!
وهنا التفت عبد الناصر إلى كاسترو قائلا : " هكذا يعاني الثوريون من البيروقراطيين " .
ورد كاسترو قائلا إنه لو لم يهاجم الرئيس الأمريكيين فى خطابه ولو لم يسأل عن سبب مراقبة خطابه لكان قد عاد ليخبر أخاه أن المصريين ليسوا ثوريين .
التقى عبد الناصر بفيدل كاسترو للمرة الأولى فى نيويورك بعد ذلك بثلائة أشهر عندما حضر الإثنان " دورة خروشوف " فى الأمم المتحدة . وفى ذلك اللقاء كرر فيدل كاسترو ما كان قاله جيفارا عن الشجاعة التي استمدوها فى 1956 من الطريقة التي صمدت بها مصر في وجه بريطانيا وفرنسا وإ سرائيل في معركة السويس . وكيف خرجت ورأسها مرفوعة في عنان السماء. وطلب من الرئيس عبد الناصر أن يلخص له التجربة المصرية وقت السويس وأبدى إعجابا صادقا به.
وقد أعطى الرئيس عبد الناصر تأييده لكاسترو في نيويورك حيث دبر الأمريكيون حملة ضده تستهدف إجباره على مغادرة الولايات المتحدة. وكان قد حجز لنفسه ولأعضاء وفده في فندق شلبورن حيث تعمدت إدارة الفندق إهانته إذ طلبت من الكوبيين تقديم بعض الضمانات المالية ثم امتلأت الصحف الأمريكية بالقصص الفاضحة التي تزعم أن غرف المندوبين الكوبيين امتلأت بريش الدواجن التى زعموا أن هؤلاء كانوا يذبحونها فى غرفهم ويلتهمونها !
وانتقل كاسترو إلى الإقامة في هارلم- حى الزنوج- وذهب عبد الناصر لزيارته فى ذلك الحى الزنجي المعزول لإبلاغه رغبته فى أن يقترح نقل الأمم المتحدة إلى بلد آخر إذا جعل الأمريكيون من المستحيل على كاسترو أن يشترك فى دورة الجمعية العمومية تلك
وحمل كاسترو لعبد الناصر هدية كانت عبارة عن صندوق خشبى موشى بجلد التمساح. وعندما فتحه عبد الناصرقال : " ظننت أنه صند وق سيجار "، فاعتنر كاسترو قائلا : ".لم أكن أعرف أنك تدخن السيجار، لكننى سأتحقق من أن تصلك كمية من السيجار، ولربما أخطأت في إهدائك صندوقا موشى بجلد التمساح لأن النيل عندكم يعج بالتماسيح ".
أجابه عبد الناصر: " نعم... عندنا" وتطلع إلى سقف الغرفة قبل أن يضيف " أربعة منها بالضبط ! "
وتطلع إليه كاسترو مشدوها : " كيف تيسر لك أن تحصيها "؟ فأجابه الرئيس لأنها جميعا في حديقة الحيوان " !
وسأله كاسترو إذا كان سيستمع إلى خطابه الرئيسي الذى ينوى أن يلقيه فى جلسة بعد الظهر فى الأمم المتحدة، فرد عبد الناصر بأنه على قدر ما كان يود ذلك ، فلن يكون في وسعه أن يحضره لأن موعده مع الرئيس أيزنهاور كان قد حدد فى نفس الموعد المقرر الذى كان كاسترو يتحدث فيه.
واكتأب كاسترو للغاية واعتقد بأن الأمريكيين تعمدوا تحديد الموعد بهذه الطريقة حتى يعرقلوا أى تقارب بينه وبين عبد الناصر. ولكن حتى إذا كان ذلك صحيحا فالواقع أن الأمريكيين لم ينجحوا فى غرضهم إذ قام بين الرجلين إعجاب متبادل تزايد على مر الأيام .
وحث الرئيس عبد الناصر كاسترو- فى اجتماعاتهما في نيويورك- على أمرين :
أولهما : أن لايعلق اهتماما أكثر مما يجب على القاعدة البحرية الأمريكية فى " جوانتانامو " في كوبا، وأن لايسمح لنفسه بأن يساق إلى نزاع عسكرى بسبب تلك القاعدة .
وثانيهما: أهمية وجود قاعدة للثورة . كالوحدة العربية مثلا بالنسبة للثورة المصرية.
وأوضح الرئيس لكاسترو كيف أن فكرة الوحدة العربية قد أعطت النضال المصرى عمقا عظيما وأمدت الثورة بالعمق الاستراتيجى والادبي والسياسي .
وسأل كاسترو إذا كانت ثمة قاعدة أو أسس للوحدة فى أمريكا اللاتينية.
ورد كاسترو بأن هناك بعض الأسس : الدين، واللغة - باستثناء البرازيل بلغتها البرتغالية- والاضطهاد الذى يؤلف القاسم المشترك الأعظم بين جميع دول أمريكا اللاتينية. ولكن لم يقم بعد أى عامل توحيدى فى قوة فكرة الوحدة العربية.
عاد جيفارا إلى القاهرة فى فبراير (شباط) 1965 ومكث فى المنطقة العربية حتى نهاية مارس (آذار). وفى ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماما شكوكه الأولية فى الكوبيين وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم فى تأييد مصر وقت السويس وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم .
وكان عبد الناصر يرى فى كفاحهم ضد الولايات المتحدة فى معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، صراع سمك السردين مع الحوت . وكان اعجابه كله لسمك السردين .
استقبل عبد الناصرجيفارا فى اليوم الثاني من زيارته وشعر على الفور بأن جيفارا يعاني الحزن من ضيق شخصى وكرب عميق . وحاول عبد الناصر أن يحثه على الكلام : كيف تسير الأحوال فى كوبا ؟ هل كل شيء على ما يرام بينه وبين كاسترو؟ "
لكن جيفارا ظل منطويا على نفسه ، ولم يفتح قلبه أو " يفضفض " بالكلام عن مشكلته.
وفى ذلك الاجتماع أبلغ عبد الناصر أنه ذاهب إلى تانزانيا حيث ألفت لجنة لمساعدة حركات التحرير الأفريقية فى دار السلام، ولكن عبد الناصر شعر بأن جيفارا لا يتجه إلى تانزانيا بكل قلبه ...
وعاد جيفارا بعد عشرة أيام قضى بعضها فى الكونجو وقال للرئيس : إن ماشاهده هناك أحزنه وحز في قلبه. وقال إنه قام بزيارة كتيبتين من الزنوج الكوبيين ألفتا وأرسلتا من كوبا للقتال من أجل أنطوان جيزنجا الرجل الذى حاول أن يرث زعامة لومومبا . ومضى يبلغ الرئيس " إنه يفكر في الانضمام إلى الكفاح وفى تولى قيادة الكتيبتين .
ودهش عبد الناصر مما سمع... بينما استطرد جيفارا- الذى كان يرافقه فى المقابلة السفير الكوبي فى تانزانيا السنيور ريفالتا الزعيم السابق لنقابة عمال السيجار في كوبا- يقول : " لقد أمضيت ليلتى كلها أذرع أرض غرفتى في فندق شبرد محاولا أن أقرر إذا كان يجب أن أقابلك وأخبرك بذلك بينما أمضى صديقي ريفالتا وقته يلف سيجارين لك ".
وكان ريفالتا يحمل دائما أوراق التبغ الكوبي معه ليلف السيجار حيثما أتيح له. وهكذا لف فى ليلة تردد جيفارا سيجارين بالغى الطول للرئيس بينما كان جيفارا يحاول أن يقرر ما إذا كان له أن ينبىء الرئيس عبد الناصر بأنه ينوى أن يقاتل فى الكونجو .
وما لبث جيفارا أن بدأ يتكلم ليوضح موقفه للرئيس :
إننى أرى أنه يجب أن نفعل المزيد من أجل الثورة فى العالم . وقد فكرت فى أنه يتعين على أن أتوجه إلى أفريقيا لأفعل شيئا ما. إن لى خبرتي وتجربتى فى النشاطات الثورية وفي التنظيم الثورى وأعتقد أن الأسباب مهيأة فى أفريقيا.
" وأعتقد أننى سأتوجه إلى الكونجو لأنها أكئر بقاع العالم تفجرا ، وأخال أننا نستطيع- بمساعدة الأفريقيين عبر لجنة تانزانيا وبواسطة الكتيبتين الكوبيتين- أن نؤذى الاستعماريين فى قلب مصالحهم في كاتانجا " .
ورد عليه عبد الناصر قائلا : " إنك تدهشني ماذا حدث لكل ما كنت تفعله في كوبا ؟ هل تخاصمت مع كاسترو؟ لا أريد أن أتدخل لكنك إذا كنت تريد أن تصبح " طرزانا " ثانيا ، رجلا أبيض يقحم نفسه بين الزنوج ليقودهم ويحميهم ، فإن ذلك لن يفلح .
وضحك جيفارا من فكرة تحوله إلى " طرزان " . وانتهى الاجتماع الذى كان فى الوقت نفسه بداية سلسلة من الحديث والحوار بين عبد الناصر وجيفارا . حوار بين مناضلين ثوريين كان رأيهما واجتهادهما في طريقة تحقيق الثورة تختلف بشكل جوهرى في معظم الأحيان .
كان عبد الناصر يحب جيفارا. وكان يشعر بميل عاطفى خاص نحو هذا الزعيم الكوبي ، وفي أثناء الحديث، بدأت تتجلى أسباب حزن جيفارا. فقد قال يبسط الوضع ، إنه يكن احتراما شديدا لكاسترو ويعتبره أخا ومعلما، ولكن قامت بينهما أشياء لم تكن كلها سوية . أولها أنه جعل راءول كاسترو يعتنق الشيوعية بينما كان في المكسيك ولم يخبرفيدل بذلك . ثم أدخل راءول في عضوية الحزب الشيوعى وقرر معه أن يخفيا الأمر على فيدل. ولما عرف فيدل كاسترو بالأمر استشاط غضبا : غضب لما حدث كما غضب لأنه أخفى عنه.
كذلك عكر العلاقات بينهما أنه كانت له أحيانا- برغم أنه لا يشك مطلقا في الإخلاص الثورى لكاسترو- بعض التحفظات إزاء معتقدات كاسترو الاجتماعية أئناء كفاحهما المسلح فى الجبال .
وعلى كل حال، فقد كان غضب كاسترو وشكوك جيفارا قد مضيا ، ومنح كاسترو رفيقه فرصته فى أن يزاول حقه الثورى كاملا، فقد أعطاه- وهو الأرجنتينى- الجنسية الكوبية وجعله وزيرا للصناعة .
ولكن مصاعب ذلك المنصب كانت هائلة ووجد جيفارا أن الكثيرين أخذوا يهاجمونه بسبب افتقاره إلى النجاح بشكل جعله يشعر بأنه يفتح المجال لمهاجمة فيدل كاسترو شخصيا.
وقال جيفارا إنه يشعر بأنه يتخبط فى أزمة . فقد كانت لديه أسئلة عديدة لا يستطيع أن يجد لها جوابا. وقال إن كوبا تواجه مشكلات هائلة. وليست هناك حلول سريعة. واعترف قائلا : " لقد تخبطنا- وربما كنت أنا المسئول عن هذه الأخطاء- فقد أممنا 98 فى المائة من كل ما وجدناه ، أممنا حتى دكاكين الحلاقة، وبعد ذلك وجدنا أنه كان علينا أن نترك بعض الناس خارج نطاق التأميم " .
ومضى جيفارا يقول :
لقد تعودت أن أتحدث كثيرا عن التحول الاجتماعى . ومن ثم كلفت مهمة الإشراف على ذلك التحول ، وكان المشكل الأول الذى واجهته هو إيجاد الأشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة ثم وجدناهم وظننا أنهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا أنهم لا ينتمون إلى الحزب الثورى إنما إلى الحزب الإدارى .
فقد نسوا حماسهم الثورى فى أحضان السكرتيرات الفاتنات وعلى مقاعد سياراتهم الفخمة وفى أجواء امتيازاتهم ومكاتبهم وبيوتهم المكيفة الهواء ، وأخذوا يغلقون أبواب مكاتبهم في وجوه الناس للحفاظ على الهواء المكيف بدلا من أن يفتحوها لاستقبال العمال .
لقد شعرت بأننا نعطى الانتهازية فرصتها. وقد وجدنا رجلا يحتفظ فى مكتبه بسبعة عشر جهاز تلفزيون .
أحسست بأنه ليس لدينا حزب، إننى شيوعى وقد قرأت القدر الكثير من الكتب الشيوعية وأصبحت معذبا مشتتا ببن الثورة والدولة. "
وكان جيفارا يتكلم بملء اندفاعه. كانت خيبة أمله واضحة وضوح حزنه وكربه وكان صدره مليئا بأسثلة تفتقرإلى جواب .
" من هو الشيوعى؟ ماهو دور الحزب؟ هل الشيوعى مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعى أن يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم إن على الشيوعى أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ . لكننى تبينت أن ما قلت هو وصف لعامل جيد وليس وصفا لشيوعى جيد.
من يسن القوانين؟ ما هى العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة الناس؟ حتى يومنا هذا ظلت هذه العلاقات تدار بانتقال الأفكار واستقرائها تلقائيا . لكن هذه الطريقة لم تعد كافية.
إننا شديدو التعاسة من كثير من الأشياء الى نراها حولنا ، إننا لسنا راضين عن الستالينية لكننا لا نقبل رد الفعل ضد الستالينية...
ثم إن هناك تناقضا فى الشيوعية. فعندما كنت أفاوض الاتحاد السوفييتى أحيانا، وجدت أن الروس يريدون أن يشتروا موادنا الخام بسعر السوق السائد الذى يحدده الاستعماريون . على أننى لا أستطيع أن أقبل ذلك من دولة اشتراكية. ولقد ناقشت هذه الناحية مع الروس .. فقالوا إنهم مضطرون إلى أن يبيعوا في سوق تنافسية. وعند ذلك سألهم عن الفرق بينهم وبين الاستعماريين الذين يحددون الأسعار، فقالوا إنهم يفهمون جيدا وجهة نظرى وأنهم يدركون أن المواد الخام تجمع من عذاب واحتضار شعوب الدول المتخلفة ولكن ليس لديهم- على حد قولهم- من بديل . " إننا مضطرون إلى البيع فى سوق تنافسية "
وبعد ذلك سألتهم عن السلع والمنتجات الجاهزة التى يبيعونها لنا وقلت لهم : إنكم تعتمدون فى الإنتاج على آلات التسميد الذاتي وبالتالى لا تدفعون أجورا مرتفعة فى مقابل الإنتاج، أى أنكم تنتجون تلك السلع بتكلفة رخيصة ومع ذلك تبيعون إياها بنفس أسعار السوق العالمبة أى أننا نواجه الانسحاق في كل حالة ، ولا نجد أملا لنا حتى معكم ! "
ومضى بعد ذلك يناقش دور كوبا فى أمريكا اللاتينية وقال إن الحركة الوحيدة التى قامت قبل الثورة الكوبية وكانت تستحق الاهتمام هى حركة بيرون في الأرجنتين وقال إن بيرون حقق بعض الأشياء المهمة في ميدان التصنيع لكنه أخفق كليا فى فهم دور البروليتاريا وقد أخفقت حركته وفشلت بسبب افتقارها إلى عنصر النضال الشعبى .
واستطرد يقول : " وقد أخفقت كذلك لأن بيرون كان جبانا فلم يستطع أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الموت وعندما حان وقت إظهار الشجاعة آثر الهرب " .
وقال جيفارا: " إن نقطة التحول في حياة كل إنسان تحل فى اللحظة التى يقرر فيها أن يواجه الموت . فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق . إن فى وسع الإنسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت فإنه لن يكون أكئر من مجرد رجل سياسي "
تلك كانت العقيدة التى عاشها جيفارا ومات من أجلها.
واستمرت المناقشات ليال عدة فى بيت الرئيس وكان من الأشياء التى رواها جيفارا للرئيس عبد الناصر أنهم كانوا قرروا البدء بالثورة فى كوبا مع أن الأسباب لم تكن ملائمة لها، لأنهم شعروا بأن قرار إشعال الثورة نفسه يشكل عاملا ثوريا يجب أن يحسب حسابه.
وناقشه عبد الناصر في حججه تلك قائلا إنه يدرك أن قرار إشعال الثورة يمكن أن يكون في حد ذاته عاملا حتى لو كانت الشروط الموضوعية غير مكتملة بعد ، ولكن هناك متطلبات أساسية لا يمكن تجاهلها فإذا ما أهملت فإن القيام بالثورة يمكن أن يكون عملا يائسا.
وقال عبد الناصر لجيفارا:
" عليك- قبل كل شيء- أن تنسى كليا فكرة الذهاب إلى الكونجو هذه . انها لن تنجح وسوف يكتشف أمرك بسهولة لأنك رجل أبيض . وإذا رافقك آخرون من البيض فإنك ستعطى الاستعماريين فرصة أن يقولوا إنه ليس هناك فارق بينكم وبين الجنود المرتزقة .
إننى أعتقد بأن الثورة ظاهرة عالمية النطاق لا تفرق بين مختلف الألوان والأجناس ولكن هناك أشياء معينة يجب أن تدخل فى الاعتبار، أن ما ينبغى علينا عمله هو أن نساعد الإفريقيين . ولنحاول فى هذا أن نعطى كل شعب الحق في أن يفعل ما يعتبره صائبا .
لكنك إذا ذهبت إلى الكونجو مع الكتيبتين الكوبيتين وإذا أرسلت معك فيلقا مصريا فإن عملنا سيوصم بأنه تدخل أجنبى وسيؤذى أكثر مما يفيد " .
ومضى عبد الناصر يناقش مسألة القواعد اللازمة للثورة الناجحة ، قال : ربما كنت أختلف مع وجهة النظر الماركسية الجامدة التى تقول إن الثورة لا يمكن أن تنشب الا حيث تكون هناك بروليتاريا متطورة- ولقد أثبت كل من لينين وماوتسى تونج عدم صحة هذه النظرية- لكننى أرى أنه لابد من أن تكون هناك على الأقل نواة من البورجوازية الصغيرة والعمال .
كما أن الأمر يتطلب توافر المقومات الأساسية لمرافق المواصلات. فالأفكار تحتاج إلى المواصلات مثلما يحتاج إليها الاقتصاد. وإذا كان الاقتصاد في حاجة إلى طرق ومطارات فإن الأفكار كذلك تحتاج إلى وسائل الانتقال وبالتالى لا يمكن أن تكون هناك ثورة جماهيرية عامة دون أن تتوفر المقومات الأساسية لمرافق الخدمات العامة .
لقد عانيت ذلك فى اليمن واختبرته. فعندما بدأت الثورة هناك، وجدتنى أهب لمساعدتها. ومع أننى تلقيت من التقارير ما يفيد أن الو!قع هناك غير صالح للثورة فقد قلت مئلك إن مجرد أن الثورة قامت فإن ذلك يؤلف عنصرا وضعيا في حد ذاته وبالتالي تجب مساعدتها .
على أننى ما لبثت أن اكتشفت أولا أنه لا يمكن مساعدة الثورة من الخارج ، وثانيا أن ذلك سيقتضى وقتا طويلا وكثيرا من العذاب. ووجدت أننا بينما نستطيع أن نسارع في العملية التاريخية للثورة فإننا لا نستطيع أن نقفز متخطين العملية الطبيعية العضوية التى تخلق قوى الثورة .
في ذلك الحين كان الرئيس عبد الناصر يخوض حملة لتجديد فترة رئاسته للجمهورية العربية المتحدة ، فكان يجول فى المدن والأرياف ملقيا الخطب ومجتمعا إلى الجماهير . وهكذا أبلغ جيفارا بعد جلسة مناقشة طويلة بينهما أنه لن يسعه أن يقابله فى اليوم التالى لأنه سيكون خارج القاهرة لافتتاح العمل فى أحد المصانع .
وحول هذا الأعتذار دفة الحديث من جديد إلى الصناعة فقال جيفارا إن بناء المصنع وإدارته يؤلفان عبئا عسيرا. وأعرب عن رأيه في أن أكثر ناحية مجزية من الثورة تكمن فى النشاط السياسي وسط الجماهير، وأن تصريف شئون المصانع هو عمل يبعث على الملل والقنوط .
ورد عبد الناصر بأن عملية الحماسة المطلقة تأتي في المرحلة الرومانسية من الثورة وأن يوم إندلاع الثورة هو يوم تحقيق أهداف الرومانسية - إنه ليلة الزفاف . ولكن عليك بعد الزفاف أن تجعل الزواج ناجحا . عليك أن تكسب مالا وأن تبنى بيتا وتنجب أطفالا. وهذ هو المقصود بالثورة . وهذا ما تعنيه الثورة. إنها تعنى معاناة العبء العسير الكامن في بناء المصانع واستصلاح الأراضي وتحويل الحماسة المطلقة إلى حماسة لخطة محددة وهدف بذاته.
قال جيفارا وهو يفتر عن ابتسامة : " لقد حطمت أنا زواجين ... "
وراح الرئيس عبد الناصر يشدد عليه مرة أخرى بشأن نظريته فى استكمال أسباب نجاح الثورة فقال :
إننا إذا اكتفينا برومانسية الثورة دون أن تتوافر لدينا التطورات اللازمة لها. فإن ذلك سيكون كارثة ولن تكون هناك ثورة ما لم نقم بكل تلك المهمات المملة والتى تبعث على العجز كما تقول ".
واستطرد يخاطب جيفارا : " أعرف أنك كنت طبيبا... إذن فشأنك في ذلك شأن جراح مدد مريضا على مائدة العمليات وبنجه وشق بطنه ثم رفض أن يمضى قدما في إجراء العملية. لا يجوز بل ولا يمكن أن ثفعل ذلك " .
ورد جيفارا وقد بدت عليه كل علامات الأسى وخيبة الأمل :
" ولكن ليس الثوريون هم الذين يقومون بمهمة تصريف الأعمال بعد الثورة . إنما هم الفنيون والبيروقراطيون الذين هم ضد الثورة .
أتعرف أننى أعتقد بأن هناك قانونا أساسيا وحيدا في الاشتراكية لم يكتشفه أحد بعد . لقد درست ماركس ولينين وتابعت جميع تجاربهما وأنا مقتنع بأن ما من أحد قد عثر بعد على ذلك القانون الأساسى . في برهة من الزمن ظنت أنه التخطيط لأن الانسان استطاع للمرة الأولى من خلال التخطيط أن يصب مستقبله في قالب جديد وأن يعيد تشكيل ذلك المستقبل، لكننى ما لبثت أن وجدت أننا عندما نصل إلى التخطيط فإننا نجابه الفنيين والييروقراطيين وهؤلاء يعملون ضد الثورة ويناهضونها " .
وهنا سأله الرئيس إذا كان يود أن يرافقه إلى افتتاح المصنع الجديد حيث سيكون فى وسعهما أن يشاهدا بعض النتائج العملية للئورة المصرية. ورد جيفارا بالإيجاب وانطلقا معاً فى اليوم التالى .
لقى عبد الناصر استقبالا عارما فقد اندفعت قرى بأسرها بقضها وقضيضها لتحية موكبه وحاول الناس إيقاف سيارته بإلقاء أنفسهم أمامها. وفى ذلك المصنع تجمعت الألوف المؤلفة تهتف لعبد الناصر.
ودب الانفعال الشديد فى جيفارا فقال : هذا ما أريده . هذا هو الغليان الثورى ".
وقال عبد الناصر:
" حسنا... لكنك لا تستطيع أن تحصل على هذا... " وأشار إلى الجمهور " دون ذاك " ثم أشار إلى المصنع. وقال: " لن تستطيع إدراك النجاح ما لم تنشىء ذلك المصنع " .
استولى ذلك كله على لب جيفارا حتى أنه وقف فى أحد الاجتماعات وقال بأعلى صوته مخاطبا الرئيس :
" حبذا لو أستطيع أن أصوت لك " .
وقام الضيف الكوبي كذلك بزيارة للسد العالى وأعجب كل الإعجاب بما شاهده- شأنه في ذلك شأن كل من توجه إلى زيارة السد- وقد اتخذ الرئيس عبد الناصر من السد العالى مثلا يدعم به حجته حول الحاجة إلى بناء الثورة وقال فى هذا الصدد: " لقد خضنا معركة من أجل السد العالى . كانت هناك رومانسية الثورة بأسرها والرومانسية الكاملة لمعركة كبرى ضد ثلاث دول . لقد تعرضت السويس للغزو بسبب السد العالى. ولكن كان علينا- بعد انتهاء القتال- أن نعكف على المهمة الحقيقية. وقد اعتاد دالاس أن يقول لنا إننا سنلعن اليوم، الذى فكرنا فيه فى بناء السد بسبب التضحيات التى سيفرضها على الشعب المصرى . ولكن هذه هى الثورة. إن هذه التضحيات هى الثورة . الثورة هى العمل يوما بعد يوم لحفر الأسس الصخرية وبناء الأنفاق وتركيب الآلات فهذا ما يغير المجتمع . إن قمة الفاعلية الثورية هى تجنيد الناس للقبول بالتضحيات اللازمة للبناء على الدوام .
و في المرة التالية التى التقيا فيها قال جيفارا لعبد الناصر :
" لعلنا نستطيع أن نجد سبيلا. ربما استطعنا تسييس البيروقراطيين و الفنيين . وقد تصبح الثورة في مأمن إذا استطعنا ذلك ".
وظل يعود طوال حواره مع عبد الناصر إلى موضوعه الشخصى ... مشكلة توافر الأسئلة وانعدام الأجوبة والحلول . وظل عبد الناصر بدوره يحاول حمله على الإفصاح عن مشكلاته على أمل أن تنبثق- فى النقاش- بعض الإجابات والحلول .
و سأله عبد الناصر ذات يوم : " ماذا يشغلك؟ " فهز جيفارا رأسه وأجاب : " فى الحقيقة أشعر بأننى لست أهلا للقيام بما أقوم به وأنا أبحث عن مكان آخر أذهب إليه . لقد فكرت فى الذهاب إلى الكونجو لكننى بعد أن رأيت ما يجرى هناك وجدتنى أميل إلى التسليم بوجهة نظرك بأن ذهابي إلى الكونجو قد يكون ضارا .
لقد فكرت في الذهاب إلى فيتنام . فأنا أكثر إعجابا وتأثرا بما يجرى هناك منى بما يجرى في أى مكان آخر. ذلك أنه إنجاز خارق أن يكون هؤلاء الناس قد استطاعوا أن يحاربوا اليابانيين والفرنسيين والأمريكيين بشكل متواصل. إن ما فعلوه بالأمريكيين بسيط وخارق الذكاء. فقد أجبروهم على القتال في أمكنة وظروف تخالف أسلوبهم فى الحياة ... " .
وقال جيفارا إنه كان راغبا أشد الرغبة في الذهاب إلى فيتنام . لكنه لم يفعل لأن وجوده هناك قد يسبب لكوبا قدرا كبيرا من المصاعب. واستدرك قائلا : ولكن ربما يكون فى وسعنا أن نخلق فيتنام أخرى ... " ما أشد حاجتنا إلى عدد من تلك الفيتنامات ! " .
والواقع أن جيفارا كثيراً ما عاد إلى ترديد موضوع خلق فيتنامات أخريات. وكان يقول : " أريد أن أفعل شيئا يهز النظام العالمى لأننى لا أعتبر ما لدينا الآن سلاما . إنه ليس بسلام وليس علينا أن ندافع عنه ونصونه.. إن ما لدينا هو سلام بأى ثمن . سلام رتبته الحلول الوسط بين الدول الكبرى . وإذا ما قبلنا بالسلام بأى ثمن فإننا نكون قد قبلنا فى الحقيقة حربا مستمرة، حتى ولو كانت هذه الحرب خفية ".
وسأل جيفارا الرئيس عبد الناصر عن ظاهرة الانقلابات العسكرية فى أفريقيا وعما إذا كان من شأن مثل تلك الانقلابات أن تجهض العملية الثورية. وأجابه عبد الناصر بأنه يجرى- وفق تحليله- إجهاض العملية الثورية فى أفريقيا على يد الاستعمار الجديد في غمرة من تحول الإمبرياليين من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد، مصطنعين في ذلك القلائل ، مدبرين الانقلابات ، سالبين شعارات الثورة ، خادعين الناس، مضلليهم على طول الخط .
وفي أخر اجتماع بينهما أبلغ جيفارا الرئيس عبد الناصر أنه لايظن أنه سيبقى في كوبا . وقال إنه لم يقرر بعد أين سيذهب لكن الشيء الوحيد الذى ينتظره هو أن يقرر " أين يعثر على مكان يكافح فيه من أجل الثورة العالمية ويقبل تحدى الموت ".
وسأله عبد الناصر: " لماذا تتحدث دائماً عن الموت ؟ إنك شاب. إن علينا أن نموت من أجل الثورة إذا كان ذلك ضروريا، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها "
لكن جيفارا كان أدرى بقدره .
ذلك أنه كان قد بلغ من خيبة الأمل في حياته ومن خيبة الأمل فى أحلامه ما جعل أمنية الموت تستبد به. لم يكن راغبا فى إدارة المصانع والتعامل مع الفنيين والبيروقراطيين . كان يريد أن يقاتل ، كان يريد أن يواجه الموت في شجاعة وأن يقف وجهاً لوجه مع الموت ويحدق في نظره !
وقد تأثر عبد الناصر تأثرأ بالغاً بالرسالة التى وجهها جيفارا إلى كاسترو عندما ذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فقد كانت تحتوى على الكثير مما تحدثنا عنه فى حوارهما الطويل. وفي تلك الرسالة قال جيفارا:
" إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. أما الآن فقد أصبح كل شيء أقل دراماتيكية، إننى أشعربأننى أنجزت ذلك الجزء من عملى الذى كان يربطنى بالثورة الكوبية.
إن بلادا أخرى في هذا العالم تحتاج إلى جهودى . وبعد فإني أستطيع القيام بما لاتستطيعه أنت بسب مسئولياتك فى قيادة كوبا. أجل لقد حان وقت الرحيل والاقتراق . وأريدك أن تعرف أننى أرحل بمزيج من الغبطة والألم . فإذا جاءت ساعتي تحت سماء أخرى فإنك والشعب الكوبي ستكونان في خاطري قبل أن ألفظ نفسي الأخير . النصر أو الثورة أو الموت ... "
وهكذا انطلق جيفارا يحمل الثورة إلى بوليفيا . لكنه وجد هناك ما كان عبد الناصر قد حذره منه. لم تكن هناك قاعدة ثورية. لقد جاء بالشرارة ولكن البارود لم يكن جاهزا للتفجير بعد . وأخفق جيفارا . ثم تعرض للخيانة... ثم التقى بالموت ... وكان شجاعاً فى لقائه مع الموت ... ولم يهرب وإنما ذهب !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى