عمر طاهر
انهالت علينا الشتائم من شبابيك عمارات جاردن سيتى عندما اضطر البعض أن يهرب إلى الشوارع الجانبية، هربا من هجوم الجنود العشوائى على الجميع، بمن فيهم المصابون الذين يرقدون فى المستشفى الميدانى لا يقوون على الحركة، أو السيدات أو البنات، مستخدمين كل ما يمتلكون من قسوة الصفع والركل والضرب بالهراوات والعصى الكهربائية.
كان موقف بعض من أطلوا من شبابيك جاردن سيتى نسخة من موقف أهل العباسية، إلا أنهم لطبيعتهم الخاصة، لم يلقوا حجرا واحدا، واكتفوا بتوجيه الشتائم والاتهامات، أقلها «انتوا مين يا بهايم»، وهو سؤال رد عليه أحد المتظاهرين بكل ثقة وثبات «إحنا الفضائيين»، للأمانة رجل وحيد أطل من أحد الشبابيك عندما شاهدنى أسرع الخطا، وعرض علىّ أن «أنزل لك ليو؟».. ليو هو كلب مخيف، لذلك عندما كرر العرض قلت له «خليه للتقيلة».
كان «بودى» يلعب الكرة مع أصدقائه المعتصمين أمام المجلس، واحد منهم «عمل فيها عبد الله السعيد» كانت تصويبته أقوى من اللازم فاستقرت الكرة داخل حديقة المجلس، بعد مناوشات «هات الكرة» و«اجرى يالا من هنا» تم سحب بودى للداخل، ليخرج بعدها وقد أصبحت كل ملامح وجهه عبارة عن عجينة بالدم، فاشتعلت الأحداث.
عندما توجهت إلى هناك فى الثامنة صباحا، كان السؤال «أين الإعلام؟» لينقل للناس ما يحدث «أعتذر لكل من اتصلت به من الأصدقاء الإعلاميين فى هذا الموعد المبكر، فأنا أعرف أن الجميع سقط صريع النوم متأخرا بعد ليلة متابعة للانتخابات والفرز»، أوصانى البعض بنقل وجهة نظرهم فى الحزب الذى يكرهونه أكثر من حزب الكنبة.. وهو «حزب التليفزيونات»، أعتقد أن الجميع يعرف اللى فيها ويعرف من الذى يظهر ليسرق الأضواء، ومن الذى ينقل صوت الثورة بالفعل، ومن يبالغ ومن ينافق، لكن الناس هناك كانوا يشعرون بجولة جديدة من الخذلان تبدأ.
فى الدور الحادى عشر كان منظر الجنود المصريين يدعو للأسف والسخرية فى وقت واحد، كانوا يُحدفون الناس بالقيشانى والسيراميك وقواعد الحمامات.. واضح أنهم خلعوها من مبنى المجلس، وقريبا لن يجد النواب مكانا لقضاء حاجاتهم إلا تحت القبة، كان الجنود ينهالون على الجميع بالحجارة مدعومة بوابل من كل الإشارات الخارجة التى يمكنك أن تتخيلها بالأصابع والأذرع والأقدام، اشتعلت النار فجأة فى إحدى الحجرات الموجودة فى الطابق الأرضى، هرع المتظاهرون لإطفائها، بالقرب منهم كان موظف مهم فى المحافظة يتصل بالمحافظ يستغيث به طالبا المطافئ، مؤكدا أن المتظاهرين يقومون بإطفاء النار بجهود بدائية تحتاج إلى الدعم.. لم أسمع رد المحافظ، لكن كان باديا من سيل الشتائم التى انطلقت من المهندس يشرح كل شىء.
اقترب منى محمد طالب الدراسات العليا بمعهد السينما، وقد تحول غضبه إلى موجة من الضحك، وهو ينظر كل دقيقة للفقرة التى يقدمها الجنود فوق السطوح، قائلا «شوف.. هااهها.. شايف؟»، ابتعد محمد عنى فجأة وبعد دقائق رأيته يعود مصابا بحجر أسال الدماء من رأسه.. تلقى علاجا أوليا وخرج ملفوف الرأس.. كان يضرب كفا بكف وقد ارتفعت لياقة الضحك عنده إثر هذه الإصابة.
أثبت الجنود أنهم يمتلكون مهارات عظيمة كأفراد لسلاح الحجارة، وكانوا المتظاهرون بالأسفل لا يمتلكون سوى التصفيق لهم والهتاف ما بين «الشعب يريد إسقاط المشير» و«العبيط أهوه»، إلى جانب محاولات لا تنتهى للإمساك بكل من يريد إشعال الأمور أكثر، فانتشر المتظاهرون يمنعون هذا من سرقة البنزين من سيارة تقف لاستخدامه فى إشعال الحرائق، ويمنعون هذا من الوصول إلى مكان الاعتصام حاملا زجاجة مولوتوف، ويمنعون واحدا من الجرى خلف العساكر التى تقف أمام السفارات لتأمينها، فى محاولة لإقناعه أنهم «مالهمش دعوة»، ويبعدون برفق مارة فى مهب الخطر، لأنهم لا يفقهون شيئا، لكنهم يتوقفون ليقولوا كلمات من نوعية «شكلهم ماقبضوش وعايزين الدفعة» أو «ارحمونا من اللى جايين يشحتوا على الناس اللى ماتت»، قيلت الجملة الأخيرة فسمعت صيحة ألم قوية صادرة من خلفى.. كانت شقيقة مايكل دانيال، أصابتها الجملة بصدمة جعلتها تكرر جملة واحدة «يارب تشوف اللى شوفناه»، هذه واحدة دفنت شقيقها بيدها، تواجه اتهاما بأنها تتاجر بدمه.. دعوتها لخصت ما شعرنا به جميعا، فردد الجميع لا إراديا «آمين».
على أحد أرصفة جاردن سيتى كان مصابا بكسور عظيمة يجلس بعد أن أرهقه الجرى هربا من الجنود، الذين انهالوا بالضرب على كل من فى المستشفى، كان يبكى بحرارة «هما ماوراهمش حد غيرنا؟»، أخذ يكررها وهو منهار، لم أملك إلا أن أقف إلى جواره أطبطب عليه، إلى أن بدأ الناس الجرى من جديد فحمله أصدقاؤه مبتعدين به عن المكان.
سألت نفسى لو كان هناك ماتش كرة إسرائيلى على الحدود المصرية ووصلت الكرة عند بعض الجنود المصريين بالخطأ، هل كنا سنسمع عن رد فعل لما حدث مع مراهق مصرى يطالب بالكرة التى عبرت حدود مبنى مجلس الشعب؟ هل الحصانة تمتد إلى حديقة المجلس؟ هل لدى المجلس العسكرى مشكلة مع الكرة؟ هل نتوقع أن يكون بيان المجلس القادم «بسم الله: لو الكرة جت هنا تانى هاقطعها»؟
فى عز الأحداث ومن شارع جانبى هلت سيارة نظافة نصف نقل كبيرة، إلى جوار السائق كان يجلس أربعة عمال، وقد علقوا على الزجاج الأمامى علما كبيرا لمصر، كانوا يحتمون فى العلم، استوقفناهم على مدخل الشارع «رايحين فين فى الضرب ده»، قال أحد العمال «المفروض إننا جايين ننضف الشارع بتاع مجلس الوزراء»، «مين اللى قال لك تعمل كده؟» سألناه، فأطل العامل برأسه ورأى الجنود يقذفون الناس بالحجارة، فجاء رده واضحا «المدير ابن المتن..».
فتش عن المدير دائما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى