فى أغسطس 1966، كان أسامة صادق، صاحب الـ23سنة آنذاك، يتحسس خطواته الأولى فى الحياة العسكرية كملازم أول فى الكتيبة 352 مشاة، اللواء 116، الفرقة الثالثة. كان موقعه فى منطقة العوجة، فى طريق برى بين مصر وفلسطين تم رصفه قبل قيام إسرائيل فى 1948. ربما لم يكن «أسامة»، الذى وصل إلى رتبة عقيد بعد ذلك، يتخيل أن خطواته الأولى ستتحول بعد أقل من عام، إلى مسيرة فى صحراء سيناء تمتد 28 يوما بداية من يوم 7 يونيو 1967، يشاهد خلالها كيف قتل الإسرائيليون الجنود المصريين وهم أسرى حرب، ومثلوا بجثثهم وسارت عليها الدبابات.. وحول رحلته القاسية ولغز رفاة الشهداء المتبعثرة فى جبال سيناء تجرى «المصرى اليوم» معه هذا الحوار:
■ كيف بدأت رحلتك فى سيناء بعد النكسة؟
- عندما قامت حرب 67 وأتى أمر الانسحاب مساء يوم 5 يونيو 1967، لم يوافق قائد الكتيبة على الانسحاب، فقد كان العقيد «مصطفى توفيق» من مواليد إسكندرية وأسر فى حرب 48 واستشهد أخوه فى عدوان 1956، كان الرجل يريد الحرب ولم يرد الانصياع لأمر الانسحاب.
■ ماذا حدث بعد أن رفض القائد قرار الانسحاب؟
- حدثت المعارك مع الإسرائيليين يوم 5 يونيو ليلاً، وأحدثوا بنا إصابات خطيرة وكثيرة فقد كان لديهم أجهزة رؤية ليلية يستطيعون من خلالها رؤيتنا من حيث لا نراهم، ويوم 6 نهارا، كان الجو حارا مع الخسائر وبدأت الوحدات تنسحب، حتى فوجئنا بالدبابات فى منطقة أم قطف، فانقلبت سيارتنا وانفجر بعضها ومات الجنود، ومن بقى من القوة انتظر حتى مجىء الليل ليكمل السير فى الظلام، أما أنا فقد أصبت وأنا بكابينة السيارة، وجاءت مجموعة من 5 عساكر مصريين تبقوا من القوة سمعوا صوتى فى الكابينة فأخرجونى، وسرنا فى الصحراء نحو 4 أسابيع، تحديدا 28 يوما.
■ هل قابلتم أحدا يدلكم على الطريق من البدو أو من زملائكم؟
- مضينا أول 5 أيام دون أن نقابل أحداً فى الصحراء ونحن بلا ماء أو طعام، حتى وجدنا سيارة فاقترح أحد الجنود أن نشرب ماء رادياتير السيارة كانت مياه ساخنة سوداء مختلطة بالسولار، ومع ذلك نام الجميع على بطنه وأخذ يشرب منها.
■ كيف عثرتم على جثث الشهداء؟
- أول يوم وقعنا بالسيارة ليلا، أقبل علينا 2 ضباط قادة ألوية برتبة عميد، وكانوا يسألوننا عن اتجاه معين لم نكن نعرفه، فأنا ضابط صغير لا أعلم شيئاً عن سيناء والعساكر معى كانوا بوحدة عائدة من اليمن فلم يكونوا على علم بسيناء ودروبها، فتركانا وسارا بمفردهما وبعدها بيومين وجدنا دبابة إسرائيلية ضرباهم فى السيارة الجيب وكانا أول من دفناهم، فى جانب الطريق.
■ أين كان يتم دفن الشهداء؟
- معظم الشهداء تم دفنهم فى 3 أماكن إما بجانب الأسفلت، خاصة فى المحور الأوسط وإما فى خزانات المياه الفارغة أو فى مواقع الاستشهاد، ولم يكن معنا أدوات حفر فحفرنا بأيدينا فى الرمال ودفناهم، وعندما مررنا بخزان مياه فارغ وجدنا رائحة سيئة، فإذا بـ 50 جنديا داخل عربة مضروبين برشاشات، وكل عسكرى إما ممسك بكعب زمزمية أو كوب حتى يشرب.
■ ألم تتعرضوا لهجوم إسرائيلى أثناء سيركم؟
- كثيراً. كان أولها بعد أن أستيقظنا فى ذلك اليوم، بدأنا نكمل المسير، حتى وصلنا لجبل لبنى، فهاجمتنا طيارة هليوكوبتر إسرائيلية وأخذوا يطلقون النار علينا، فدخلنا مغارة أحد الجبال، ووجدنا سيارة إسعاف إسرائيلية هجمنا عليها لكن الجنود أصابتهم هيستريا بسبب الجوع والعطش فشرب بعضهم أدوية سائلة وبعضهم تناول مراهم وكريمات حروق ومات نحو 4 من المجموعة.
■ ولماذا لم تقابلوا بدوا طيلة هذه الفترة؟
- علمنا أن معظمهم آوى إلى الجبال بعد الهزيمة خوفا من اليهود وكنا منذ لحظة الانسحاب نبحث عن أى بدوى يدلنا على الطريق وفجأة فى خامس يوم لمحنا بدويا يمشى على مرمى البصر، وعندما شاهدنا دعانا إلى مخبأه.
وبعد العشاء تذكرنا مجموعة من زملائنا تركناهم خلفنا، فأخبرنا عنهم البدوى فأرسل مجموعة من شباب القبيلة معنا للبحث عنهم فوجدناهم ماتوا عطشا وسط الصخور فى جبل المغارة «كل اثنين ثلاثة فى حفرة داخل الجبل كان أحدهم مازال حيا عندما وجدناه ولكنه لفظ أنفاسه الأخيرة بين أيدينا». وحكى لنا البدوى يوم 12 يونيو ما حدث من الأحداث التى كنا نجهلها من الهزيمة وانسحاب الجيش وأن عبدالناصر قد تنحى ثم عاد للحكم، ولأول مرة ننام بلا خوف. واستيقظنا فى الصباح على صوت البدوى يوقظنا للإفطار ثم أعطانا خبزاً ناشفاً وجركن مياه ودلنا على الطريق.
■ متى اكتشفتم دهس الإسرائيليين للأسرى المصريين بالدبابات؟
- بعد مساعدة البدوى، تهنا فى الصحراء ثلاثة أيام نصطاد فيها السحالى والغربان ونعتصر الجريد الأخضر لنشرب أى سوائل تنزل منه، وأخذنا نبحث عن المياه مرة أخرى حتى وصلنا إلى منطقة نخيل بها آثار للدبابات الإسرائيلية، واكتشفنا أن ذلك هو مكان دهس الأسرى بالدبابات فى المنطقة الوسطى، ووجدنا صوتا يتأوه فبحثنا عنه فإذا به جندى مصرى مدفون فى الرمل لا يظهر منه إلا رأسه، فحاولنا أن نخرجه ولكنه رفض لأن الإسرائيليين قد دهسوه حيا بالدبابة، فشرب جرعة ماء ثم مات، ووجدنا 13 ضابطا وجنديا تم دهسهم بنفس الطريقة، كنا عندما نريد دفن أى من المدهوسين من الأسرى نكوم أجزائه فوق بعضها، لأنها مفككة ونقلبه على وجهه لأننا لم نكن نستطيع النظر فى وجهه من هول مشهد الرعب المرسوم على ملامحه.
■ وماذا فعلتم بعد ذلك؟
- سرنا فى هذا المكان الكئيب ونحن مذهولين ومرعوبين أن نلاقى نفس مصير زملائنا الذين أتوا إلى سيناء للحرب بشرف، وأخذنا نردد «لو كنا هنا ورأيناهم لدافعنا عنهم وماتركناهم يلقون هذا المصير».
■ وكيف وصلتم؟
- وكأن الله أراد أن يختبر صدقنا فبعد ثلاثة أيام تهنا فى الطريق ووجدنا نفسنا عدنا إلى هذا المكان مرة أخرى، لأننا كنا نستعين بالنجوم فى سيرنا ووجدنا بئر مياه فى وسط النخيل فشربنا وركنا إلى النخل، فإذا بصوت دبابة إسرائيلية آتية فى الطريق، تسحل خلفها 6 من الجنود المصريين على الأرض مربوطين بالحبال، وأخذوا يضربونهم بالأيدى والأرجل، فوجدنا أن اثنين منهم قد ماتوا وبقى أربعة، ووجدناهم يلقون بالأربعة على وجوههم فوق الأرض ويربطون أيديهم للخلف، ويهمون بدهسهم، بعد أن نزل الثلاثة ضباط الإسرائيليين من الدبابة وأخذوا يضربون الأسرى المصريين ويمشون على أجسادهم ويضربهم أحدهم بقدمه فوق رؤوسهم.
■ وكيف تصرفتم؟
- كان على اتخاذ القرار بالدفاع عن المصريين فاختبأنا خلف النخيل وكان معنا 6 بنادق فى كل بندقية طلقتان إدخرناها للذئاب، وقسمنا أنفسنا على الضباط الإسرائيليين الأربعة، وقضينا عليهم، وذهبنا كى نفك أسر المصريين فوجدناهم ضابطاً برتبة رائد اسمه «وليم شفيق» وملازماً أول واثنين صف ضباط، وفوجئنا بالرائد ومن معه يرفضون السير معنا لأنهم يعلمون أن هناك سبعة من زملائهم سيأتون بهم فى المكان نفسه لدهسهم بدبابة أخرى.
وطلبوا منا السير فى طريقنا كى لا تكون الخسائر كبيرة، وكان الرائد وليم شفيق يريد لنفسه وزملائه أن يموتوا محاربين لا أسرى مدهوسين.
فاختبأت أنا وباقى عساكرى عند البئر، وبقى زميل لنا ينظر ما سيحدث فرأى دبابتين إسرائيليتين تجران المصريين السبعة، واستطاع المصريون الأربعة تحرير زملائهم السبعة ويقضون على طاقم الدبابتين، لولا أن توالت الطائرات الهليوكوبتر التى حصدتهم وهم فى ميدان المعركة.
■ كم تقدر عدد شهداء 1967؟
- إذا كنا نحن 28 وبقى منا ثلاثة على قيد الحياة، فبالمقارنة يتجاوز عدد شهداء 1967 الأرقام التى يرددونها بكثير.
■ ما تفسيرك لاكتشاف رفات جديدة لأسرى النكسة بعد السيول فى سيناء؟
- هذا شىء طبيعى وكل فترة وارد أن تكشف جريمة من هذه الجرائم فمن السهل الكشف عن المقابر الجماعية التى دفن فيها البدو أو الجنود زملاءهم، أما الإسرائيليون فقد كانوا يضعون مئات الأسرى المقتولين فى مقابر جماعية عميقة كى يصعب اكتشافها.
المصرى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى