(1)
الشاعر العراقي أسعد الغريري، فقد شقيقه الأصغر، ولم يلحق بجنازته. دخل البيت ولم يجده، فكتب هذه الكلمات المؤثرة في رثائه والتي زادها كاظم الساهر شجنا بصوته الحزين الذي يحمل بين نبراته هما كربلائيا:
استعجلت الرحيل.. ورحلت في غير أوانك..
هنا خطوط أيديك.. صمتك.. صدى صوتك.. عنفوانك.. هنا ضحكت.. هنا بكيت.. هنا على صدري غفيت.. هنا تصاويرك على حايط البيت.. هنا على كتفي لعبت لعب الأطفال.. هنا بقايا من بقايا أمنياتك.. رحلت أنت وهي ظلت في مكانك.
في وجوه الناس أطالع وجهك الحاضر الغايب.. وين أنت؟ ومتى أشوفك؟ وحدي أسأل وحدي أجاوب.. حتى في أصغر أشيائك أبقى أتأمل وأراقب.. أستجدي صوتك.. أستجدي وجهك.. ولو في لحظة وهم.. جمدت الدمعة بعيوني وانتهى إحساس القلم.
استعجلت الرحيل.. ورحلت في غير أوانك.
(2)
ربما هذا أصعب مقال أكتبه في حياتي.
ريم السماحي.. استعجلت الرحيل.
لم أقابلها مطلقا في حياتي. لكني عرفتها عن قرب. عرفتها من كتاباتها. عرفتها من مبادئها. عرفتها من قوة إيمانها. شابة نضرة في ربيع عمرها «22 سنة». اسمها معروف على موقع «تويتر». تنشر تغريداتها في فضاء الموقع، فتجد صداها سريعا عبر متابعيها الكثر.
من عمق تغريداتها تظنها أكبر من سنها. من خفة ظل ما تكتبه تذكرك بروح العبقري الراحل جلال عامر. صوتها يمتلئ بهجة وإشراقا وثقة في المستقبل. كنا نتناقش كثيرا في أحوال مصر، فتعطي تحليلات للموقف تفوق ما يطرحه المنظرون المقعرون على الشاشات.
(3)
ريم السماحي. لم تكن فقط فتاة مصرية حرة عندها مبدأ وموقف وثبات على الحق، لكنها كانت تعبر عن مصر التي نحلم بها.. مصر البهية، الشابة، المثقفة، المؤمنة، الصادقة، المتحضرة، الخيرة. مصر التي لا تتأثر بحملات إعلامية منحطة مدفوعة الأجر. مصر التي تعمل عقلها وتفرق بين الغث والثمين. مصر التي لا تقبل الضيم.. ولا تنزل على رأي الفسدة.. ولا تعطي الدنية أبداً من وطنها ودينها وشرعيتها.
(4)
رغم أنها من مدينة بعيدة عن القاهرة شرقي الدلتا، ورغم صغر سنها أيام ثورة 25 يناير، فإنها كانت تأتي من مدينتها «الزقازيق» لتشارك في مليونيات ميدان التحرير.
بعد الكارثة المدوية التي حلت بمصر ووأد التجربة الديمقراطية واختطاف الرئيس المنتخب، ومصادرة البلد لصالح عصابة «الترامادول»، كانت من أوائل من ولوا وجوههم شطر «رابعة الصمود والعز والفخر». هي من الحرائر اللاتي كن في مرمى اتهامات إعلام العهر والضلال.
(5)
بعد فض الاعتصام والمجزرة البشعة، لم تتخلف عن المشاركة في كل المظاهرات بمدينتها، وتنقلها أولا بأول على مواقع التواصل الاجتماعي. كنت أمازحها: «يا بنتي بطلي بقى مظاهرات.. إنتي لسة متعينة معيدة في الجامعة.. لو عرفوا إنك بتشاركي هيقولوا عنك إرهابية ويفصلوكي». كانت تضحك: «والله يا أستاذ شريف مش مهم.. الإنسان بيعيش مرة واحدة وبياخد نصيبه.. نعيش بكرامة أفضل ما نعيش عبيد».
كانت تحب الرئيس الدكتور محمد مرسي، لكنها كانت تلومه على طيبته المفرطة في التعامل مع المسؤولين من بقايا عصر مبارك، والذين دبروا الانقلاب ضده وضد المسار الديمقراطي و.. ضد مصر.
(6)
في يوم قدره الله، تعرضت «ريم» لحادث مروري خطير. كانت مع والدها في السيارة. انتقل الوالد -المهندس المحترم- إلى جوار ربه فورا. أما الغالية الصابرة فكان نصيبها عدة أشهر من العمليات الجراحية الخطيرة في ألمانيا. عادت إلى مصر وفرح كل محبيها بعودتها، وطمأنتنا أختها «رغد». لكن فجأة سافرت مرة أخرى إلى فرنسا لإجراء عملية في ساقها. كانت العملية الأخيرة. عادت بعدها إلى بارئها، لتزين السماء بوجهها الملائكي وروحها الطيبة.
(7)
لن أتحدث عن فعل الخير الذي كانت تؤديه هذه الإنسانة الملاك. لقد عرفت بعضه بالصدفة، وأحسبه في ميزان حسناتها. يكفي فقط أنها كانت ترسل لي ولغيري زملاء لها لا يجدون عملا لمساعدتهم في البحث عن وظيفة. لن أذكر ما فعلته هي وأسرتها مع امرأة مغلوب على أمرها ألقاها زوجها في الشارع مع أولادها.
(8)
أدعو الله أن يلهم أمها الصبر، وأن يعينها على اختبار ربها، وأن تتذكر دائما أن الله إذا أحب عبدا ابتلاه، وريم الغالية النقية تعرضت رغم سنها الصغيرة لاختبارات قاسية جدا، وتحملت ما لا يتحمله بشر. وعلى قدر الاختبار يكون الجزاء من الخالق العادل، جنة وارفة مع الصديقين والشهداء. لقد تركت الدنيا الفانية إلى خالقها وهو أرحم بها منا.
(9)
أترككم مع بعض من تغريدات ريم السماحي، وقد غابت عنها روح الدعابة، فكلها كانت بعد الحادث الأليم:
• السرقة أصبحت شطارة وقلة الأدب ديمقراطية، والطيبة هبل. اللهم عافنا واعف عنا.
• الكرامة بنك بلا سيولة حقا، لكن ليس كل الناس يملكون رصيدا فيه.
• ليست كل البنوك على الأرض.. هناك بنك في السماء يعطي بلا حساب لكل من يرفع يديه متضرعا طالبا صونا لكرامته التي توشك أن تنهار في بورصات اللصوص.
• صحيح إما أن نصبر أو نقتدي بقول أبي ذر «عجبت لمن لا يجد قوت عياله كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه».
• لا تنشغل بالناس وأنت تدخل بيتاً من بيوت الله، انشغل بالجبار المتكبر، كيف ترضيه، كيف تريه قلباً منكسراً يشتاق إلى ربه، ويرجو رحمته.
• بحب بلدي وتراب بلدي وأرفض حكم العسكر لأني عايزاها مرفوعة الراس.. عايزاها حرة.
• أبحث عن متنفس للوجع، أشهق منه الأمل وأزفر رياح اليأس دون ألم.. باتت الأوجاع صاخبة والأحلام ضائعة، والقلم عجز عن وصف الألم.. فصمت واكتفى.
• ﻻ ﺃﻧكر ﻳوﻣﺎً أﻧﻲ سئمت ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﻻ ﺃﻧكر ﺿﻌﻔﻲ ﻣﻦ بعض الظروف، لكني ﺃﻋﺮﻑ أﻥ الحياة تتعثر، لكنها ﻻ تتوقف. اﻷمل ﻳﺨﺘﻔﻲ، ﻟكن ﻻ ﻳموت ﺃبدﺍً!!
• (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما). يبدو أن شريحة من الناس وجدوا ضالتهم في الانتحار هربا من الجحيم الذي يعيشونه، وسط التصفيق الحاد للظالم.
• في النهاية لازم نقاوم ونحقق اللي حلمنا بيه.. ونتحدى أي حد اغتصب أحلامنا ودمرها بطمعه ومصالحه الشخصية. حسبنا الله ونعم الوكيل.
• آآآآآآآآآآآه على أوطان تقام فيها صلاة الجنازة، أكثر مما تقام الصلوات المفروضة!
وهذه التغريدة قبل الأخيرة وكأنها كانت تعلم بالغيب:
• الحياة عبارة عن تذكرة سفر لا نعلم متى نهاية المحطة الأخيرة، وستكون في أي بلد وأي يوم وأي ساعة.
وهذه آخر تغريدة لريم، قبل أن تتركنا وترجع إلى ربها راضية مرضية.. ولاحظوا كلماتها المعبرة لنعرف كيف كانت حالة ومتاعب زهرة بريئة مثلها:
• فوق رأسي هموم وأوجاع يضيق بها المكان، وفي داخلي ذكريات محفورة لا يمحوها الزمان، فأنا عبارة عن مزيج لشتى أنواع العذاب وجدت بإنسان. الحمد لله.
(10)
آخر كلماتها أدمت قلوب كل من قرأها. ريم السماحي.. يا أختنا وابنتنا.. يا عروس السماء.. ستظلين عندنا نحن كل محبيك «ضحكتنا التي تشرق بالدموع ووجعنا الذي لن يطيب». إن العين لتدمع.. وإن القلب ليحزن.. وإنا على فراقك يا ريم لمحزونون.
• shrief.abdelghany@gmail.com
@shrief_ghany
10/03/2015
شريف عبدالغني يكتب : ريم السماحي.. الملاك الذي رحل في صمت
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ADDS'(9)
ADDS'(3)
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى