كتب:
أسامة دياب
في أحد أيام شهر يناير 2009، ذهب وهبة عيسى، أمين عام وزارة البترول، إلى القصر الجمهوري ليسلم اللواء مصطفى شاهين، سكرتير الرئيس السابق حسني مبارك، لفافة أرسلها له وزير البترول السابق سامح فهمي، ليرسلها إلى مبارك، حسب تحقيقات النيابة مع مبارك في الجناية رقم 3642 لسنة 2011.
بعدما تسلم اللواء مصطفى شاهين اللفافة، طلب من فوزي شاكر مقار، المدير العام برئاسة الجمهورية، تسليمها لمبارك، وتوجه معه بالفعل فى سيارة لمقر الرئاسة، وسلم اللفافة حال وصوله للمقر، وفقا للتحقيقات مع مقار.
كان باللفافة سبيكة ذهب وزنها 5.5 كيلوجرام، وهو ما يجعل قيمتها، وفقا لأسعار الذهب الحالية، حوالي مليون وستمائة ألف جنيه مصري. ظلت السبيكة في مسكن مبارك منذ يناير 2009 حتى التاسع من مايو 2011، أي بعد أربعة أشهر من اندلاع ثورة يناير 2011، وبعد القاء القبض على مبارك وتوجيه تهم له بالكسب غير المشروع، تبرع حينها بالسبيكة الذهبية لمتحف هدايا رئيس الجمهورية في قصر عابدين، بعد إحتفاظه بالسبيكة في منزله الخاص لمدة تزيد عن عامين، حسب أقواله في تحقيقات النيابة.
"هو ممكن يكون سلمنى اللفافة ولم أفتحها وتُرِكت ونسيتها".. هكذا رد مبارك في تحقيقات النيابة عند مواجهته بالأمر. وأضاف: "أنا لم أفتحها ونسيت أن أقوم بإيداعها بالمتحف كالمعتاد مع كل الهدايا التي تقدم إليّ في الرئاسة.. أنا أخذتها على البيت لغاية لما أتأكد هي إيه بالضبط عشان كده لم أتركها بمقر الرئاسة واللي حصل إن أنا لم أشاهدها ونسيتها."
"مدى مصر" زارت متحف رئيس الجمهورية في قصر عابدين، للاطلاع على السبيكة، لكنها لم تكون معروضة.
هذه السبيكة هي أول انتاج لمنجم السكري للذهب في جنوب مصر، وهو أحد أكبر مناجم الذهب في العالم، والذي بدأ الإنتاج به عام 2009، ويقوم باستخراج البترول منه وزارة البترول والثروة المعدنية وشركة سنتامين الأسترالية، التي يرأس مجلس إدارتها رجل الأعمال الأسترالي من أصل مصري جوزيف الراغي.
الشخص الذي قام بإرسال اللفافة لمبارك، هو سامح فهمي وزير البترول الأسبق، المتهم في العديد من قضايا الفساد، والذى تولى حقيبة وزارة البترول في 10 أكتوبر 1999 واستمر فى منصبه لمدة إثنى عشر عاما، حتى اندلاع ثورة يناير، وهو من أكثر الوزراء استمراراً في منصبهم في عهد مبارك، بجانب وزير الثقافة فاروق حسني (24 عاما)، ووزير الدفاع المشير حسين طنطاوي (21 عاما)، ووزير الإعلام صفوت الشريف (22 عاماً)، ووزير الداخلية حبيب العادلي (14 عاما).
قطاع البترول والطاقة المصري، شهد تطورات كثيرة، خلال فترة قيادة «فهمى» له، وهى الفترة التى انتهت ببداية أزمة حادة في الطاقة، شعر بها جميع المصريين، في شكل انقطاعات يومية للتيار الكهربائي، فى حين كانت بدايتها شاهدة على بدء مفاوضات تصدير الغاز السرية ـ والمثيرة للجدل ـ للأردن وإسبانيا واسرائيل.
أحد أهم أسباب أزمة الكهرباء التي تعيشها مصر حاليا هو نقص الغاز الطبيعي، والذي تنبأت الحكومة بأن الطلب عليه سيتخطى المتاح من الإنتاج المحلي.
وفقا لعبدالخالق عياد، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للبترول سابقا، تقدم رجل الأعمال الهارب، المدان في قضايا فساد، حسين سالم في أبريل 2000- أي بعد ستة أشهر من تولي فهمي مسئولية وزارة البترول - بطلب لفهمي لشراء كميات من الغاز الطبيعي، بغرض تصديره لتركيا واسرائيل، مقابل مبلغ دولار ونصف لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، مع تثبيت السعر خلال فترة التعاقد. وكانت هناك شراكة عمل تربط سالم بفهمي، حيث عملا سويا في مصفاة ميدور للتكرير قبل تولي الاخير لوزارة البترول.
ووفقا لمحمد كامل العيسوي، وكيل أول وزارة البترول لشئون الغاز سابقا، فقد تم تكليفه بإعداد دراسة سعرية لتقدير قيمة تكلفة إنتاج الغاز الطبيعي، وتحديد الشروط التعاقدية مع شركة حسين سالم، وجاءت الدراسة بأن تكلفة إنتاج مليون وحدة حرارية بريطانية وقتها، تساوى واحد ونصف دولار، وتم عرض الدراسة على اللجنة العليا للغاز التي يرأسها سامح فهمي.
لكن من الواضح أن فهمي لم يُعجب بهذا العرض، وفي نفس اليوم الذي تقدمت فيه شركة غاز شرق المتوسط، المملوكة لسالم، بطلب جديد تضمن تعديل السعر إلى 75 سنتا، وهو نصف تكلفة الإنتاج وفقا لتقرير العيسوي، قام فهمي بتكليف حسن محمد عقل نائب، رئيس الهيئة العامة للبترول للإنتاج سابقا، وإسماعيل كرارة نائب رئيس الهيئة العامة للبترول للتخطيط، بإعداد مذكرة أخرى، يُخصم فيها من تكلفة إنتاج الغاز، عن طريق استبعاد قيمة الرسوم والضرائب التي تدفعها الهيئة، واستبعاد تكلفة استخراج الغاز من حقل غرب الدلتا العميق ومرتفع التكلفة، مما أدى إلى خفض تكلفة الإنتاج إلى 68 سنتا، مع العلم بأن الغاز الروسي- وهو من أرخص أنواع الغاز - كان ثمنه يتراوح بين 1.99 و2.51 دولار آنذاك، وفقا لأمر الإحالة في القضية المعروفة إعلاميا بتصدير الغاز إلى إسرائيل.
المذكرة الثانية التي تشتمل على التسعير البخس هي التي لاقت نصيبها من الحظ، وهي التي قدمها فهمي إلى مجلس الوزراء في إجتماعه بتاريخ 18/9/2000 وتم الموافقة عليها. وتم التعاقد على نفس هذه الأسعار بدون زيادة بعد خمس سنوات في 13/6/2005 مع شركة غاز شرق المتوسط لصاحبها حسين سالم بغرض تصديره لإسرائيل.
وقد قامت شركة غاز شرق المتوسط، بشراء الغاز من الشركة القابضة للغازات والهيئة العامة للبترول بـ 0.75 -1.25 دولار وبيعه لإسرائيل بـ 2.25 دولار، وفقا لأقوال رئيس المخابرات العامة ونائب رئيس الجمهورية السابق عمر سليمان في تحقيقات النيابة في قضية تصدير الغاز لإسرائيل.
وبجانب علاقة فهمي وسالم، فحسب أقوال سليمان في نفس تحقيقات النيابة، ربطت الرئيس السابق مبارك بحسين سالم علاقة صداقة تقرب من 20 عاما، ووفقا لسليمان قام سالم بتأسيس شركة الغاز، التي ربحت المليارات جراء تصدير الغاز بسعر بخس إلى إسرائيل، بتكليف من رئيس الجمهورية الأسبق "لسابق خبرته في التعامل مع الإسرائيليين في مشروع مصفاة ميدور".
ولكن قد يكون هناك سبب آخر وراء إختيار مبارك لسالم، للاستحواذ علي هذه الصفقة المربحة لشركته، والمكلفة لخزينة الدولة، وهي الصداقة التي تربطه بمبارك والتي ارتبطت بتقديم العطايا.
تجلت هذه الصداقة في بيع سالم خمس فيللات في مدينة شرم الشيخ السياحية، لمبارك ونجليه بسعر شديد الرمزية، في نفس العام الذي بدأت فيه مفاوضات بيع الغاز لإسرائيل، فالفيللا التي قضى مبارك بها أغلب وقته، في سنوات حكمه الأخيرة وشهور قليلة ما بعد الثورة حتى لحظة القبض عليه، تم "شرائها" من شركة نعمة جولف التي يمتلكها سالم، بسعر أقل كثيرا من قيمتها السوقية.
تقع الفيلا الرئيسية المملوكة لمبارك على مساحة تزيد عن 15 ألف متر مربع (حوالي 4 فدادين) في موقع متميز في شرم الشيخ بجوار الفندق الشهير المملوك لسالم هناك.
وفقا لتقرير الخبير الهندسي الذي قامت به إدارة الكسب غير المشروع لتقدير قيمة تلك الفيلات والذي تقدمت به للمكتب الفني للنائب العام، فعقود البيع الخمسة مشهرة جميعها بتاريخ 14/10/2000، نظير «500 ألف جنيه، 400 ألف جنيه، 400 ألف جنيه، 300 ألف جنيه، و300 ألف جنيه». "دفعت نقدا بالكامل ليد البائع من المشترى".
إذا نظرنا للفيلا الخاصة بالرئيس السابق نجد أن متوسط سعر المتر كان 31 جنيه مصري فقط، ومتوسط سعر المتر لإجمالي مساحة الخمس فيلات البالغة 22435 متر مربع كان 84 جنيه مصري.
وفقا لذات التقرير، الذي يقارن سعر هذه الوحدات بمثيلاتها التي بيعت بعد فيللات عائلة مبارك بشهرين، قامت شركة نعمة جولف للاستثمار السياحي ببيع 23 فيلا على مساحة 21،000 متر مربع (أي أقل من مساحة فيلات عائلة مبارك)، بمبلغ 35،650،000 بموجب عقد مشهر بتاريخ 17/12/2000، أي بمتوسط سعر 1697 جنيه مصري للمتر المربع، أي حوالي 54 ضعف الثمن الذي اشترى به مبارك.
وقد قدر التقرير مجموع قيمة المباني التى حصلت عليها عائلة مبارك من سالم بـ"سبعة وثلاثون مليونا وستمائة وتسعين وثمانون ألفا وخمسمائة جنيه، هذا بخلاف أعمال اللاندسكيب والتشجير والأعمال الكهربائية والميكانيكية لحمامات السباحة وأعمال الانشاءات المستجدة التي لم تتم حتى الآن. وعليه فإن سعر الفيلات الثابت بالعقود لا يتناسب مع القيم السوقية وقت الشراء."
وحين وجه المحقق سؤاله لمبارك قائلاً: "ما قولك فيما ورد بمحضر تحريات مباحث الأموال العامة، من أن ثمن شراء الفيلات الخاصة بكم من شركة سالم، لا يتناسب مع ثمن المثل فى وقت الشراء، وأنه يقل كثيرًا عن الثمن المناسب، وأنه ثبت من الاطلاع على عقود شراء شركة المهندسون المصريون للاستثمار العقارى، شرائها لعدد من الفيلات بمساحة 750 مترًا للواحدة، فى أماكن أقل تميزًا بمبلغ يتراوح بين مليون جنيه و300 ألف جنيه إلى مليون وتسعمائة ألف جنيه؟".. كان رد مبارك: "معرفش".
كانت المحكمة قد وجهت لمبارك ونجليه، تهم استعمال نفوذ وقبول عطية، ووجهت لسالم تهمة تقديم عطية، في القضية المعروفة إعلاميا بـ"محاكمة القرن". وفي حكمها الأولي الصادر في يونيو 2012، لم تنكر المحكمة وقوع الجرم، ولكنها قضت بانقضاء الدعوى الجنائية لمرور عشرة أعوام على وقوع الجريمة، وهي فترة التقادم في الجنايات، حسب المادة 15 من قانون العقوبات، التي تنص على "انقضاء الدعوى الجنائية فى مواد الجنايات لمضى عشر سنين من يوم وقوع الجريمة وفى مواد الجنح بمضى ثلاث سنين وفى مواد المخالفات بمضى سنة مالم ينص القانون على خلاف ذلك".
تصف منظمة الشفافية الدولية، اسقاط تهم الفساد بالتقادم بأنه "عد تنازلي نحو الإفلات من العقاب" وتقترح عدة إجراءات، أهمها المرونة في تحديد مدة التقادم في الوظائف التي تمنح أي نوع من أنواع الحصانة وقت ارتكاب الجريمة، ويكون التساؤل هنا، هل كان هناك إمكانية لكشف هذه الواقعة وإجراء التحقيقات قبل إنتهاء مدة التقادم حين كان الرئيس مبارك لا يزال في الحكم؟
أما من لم يفلت من العقاب بقانون الإجراءات الجنائية، فربما يستطيع الإفلات بقانون ضمانات وحوافز الاستثمار الذي يجيز التصالح مع المستثمر المعتدي على المال العام، في مادته السابعة مكرر، التي تنص على أنه: "يجوز التصالح مع المستثمر في الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات التي ترتكب منه بصفته أو بشخصه أو التي اشترك في ارتكابها... ويترتب على تمام التصالح وفقا لما سبق انقضاء الدعوى الجنائية بالنسبة للمستثمر".
وهو ما حدث حين رحبت حكومة حازم الببلاوي بعرض التصالح الذي قدمه أحد الأركان الأخرى في القضية وهو حسين سالم، الذي تم الحكم عليه غيابيا بالسجن 15 سنة، في القضية الأخرى الشهيرة، والمعروفة بـ"تصدير الغاز إلى إسرائيل"، سالم الذى هرب إلى إسبانيا خلال الثورة مستغلا جنسيته الإسبانية، لم يُتم التصالح مع الحكومة حتى الآن، أما سامح فهمي، فما زال يُحاكم حالياً، بعدما أمرت محكمة النقض بإعادة محاكمته وإلغاء الحكم الصادر بحقه، بالسجن المشدد 15 عاماً، في قضية "تصدير الغاز لإسرائيل"، بينما تعاد حالياً محاكمة مبارك ونجليه وحسين سالم، فى "محاكمة القرن"، بعد أن أصدرت محكمة النقض قرارها فى يناير 2013، بقبول الطعن المقدم فى القضية وإعادة محاكمة جميع المتهمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى