خرجت مثل مئات الآلاف من المصريين في ذلك اليوم الجمعة الثامن والعشرين من يناير عام 2011 لأشارك المصريين في يوم الغضب، وذلك امتدادا لثورة الشباب التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير -والتي لم أكن محظوطا للمشاركة في بدايتها حيث كنت خارج مصر-، ولأن الصحفيين شهود يؤدون شهادتهم للتاريخ فقد حرصت من اللحظة الأولى أن أكون وسط الناس أنقل نبضهم وأسجل مطالبهم.
ذهبت صباحا إلى مكتب قناة الجزيرة في ميدان عبد المنعم رياض، المواجه لميدان التحرير حتى أشارك الزملاء تغطيتهم لهذا الحدث المهم، وقد تم ترتيب الزملاء وتقسيمهم إلى مجموعات انطلقت إلى أماكن مختلفة في القاهرة لتصوير التظاهرات التي كانت ستنطلق من المساجد بعد صلاة الجمعة لتتوجه جميعها في النهاية إلى ميدان التحرير.
وبعد مشاورات مع الزملاء أجمعوا على ألا أذهب بعيدا لأني سأكون هدفا لقوات الأمن حسب تقديراتهم والأفضل أن أصلي معهم قريبا من المكتب، قررت أن أذهب لأداء الصلاة في مسجد عمر مكرم الذي يقع في ميدان التحرير الذي حدده شباب الثورة ليكون مكانا لتجمع المظاهرات، لكني فوجئت بأن الميدان مغلق من قبل قوات الأمن وأبلغوني أن صلاة الجمعة ألغيت في مسجد عمر مكرم وأمروني كما أمروا الجميع بالعودة.
ذهبت لأقرب مسجد بجوار مكتب قناة الجزيرة قريبا من مبنى التليفزيون وأديت الصلاة في الشارع مع جموع الناس، وكان معي بعض الزملاء الذين قرروا العودة للمكتب فأخبرتهم أني سأذهب إلى شارع رمسيس لمتابعة التظاهرات القريبة لا سيما عند نقابة المحامين بعدما تم تفريغ نقابة الصحفيين من المتظاهرين فيها بالقوة -يوم الخميس- وأجمع لهم بعض المعلومات عما يدور هناك، فأنا صحفي ميداني ولا أحب الحصول على المعلومات في المكاتب، وأخبرتهم أني إذا لم أعد خلال ساعتين فعليهم أن يدركوا أني قبض علي أو أصبحت مفقودا، لم أجد أحدا في البداية يصاحبني فقررت الذهاب وحدي رغم مخاطر ذلك لكن أحد الزملاء قرر في اللحظة الأخيرة أن يصاحبني.
ما إن دخلنا إلى شارع رمسيس من ناحية ميدان عبد المنعم رياض حتى وجدنا حشودا هائلة من قوات الأمن محتشدة إلى جوار معهد الموسيقي العربية وجمعية الشبان المسلمين، فيما كانت قوات أخرى تحيط بنقابة المحامين التي كان فيها مجموعات من المحامين محاصرة لا يستطيع أحد أن يدخل إليهم وهم لا يستطيعون الخروج إلى الشارع، وسط الحشود الهائلة لقوات الأمن التي كانت متحفزة كانت هناك سيارتان لقوات الأمن مدرعتان من قاذفات القنابل تقفان في مواجهة نقابة المحامين مستعدتان للتوجه إلى أي مظاهرة تتحرك في المنطقة.
كان هناك عدد كبير من سيارات الأمن المركزي تقف في شارع رمسيس وشارع 26 يوليو بينما كان المئات من رجال الأمن بالزي المدني الذي يرتديه عامة الناس يقفون مجموعات حول ضباط المباحث وضباط أمن الدولة الذين يرتدون الملابس المدنية غير التشكيلات التي كانت ترتدي الزي العسكري، وكانت كل مجموعة من هؤلاء الذين يرتدون الملابس المدنية يحملون الهروات الخشبية بينما آخرون لا يحملون شيئا وعلمت أن هؤلاء يندسون وسط المتظاهرين ويختطفونهم بينما كان الكثيرون منهم ينتشرون في الطرقات يتنصتون على الناس ويرصدون تحركاتهم.
كان زميلي يعرف كثيرا من السيناريوهات التي تتم في مثل هذه المواجهات، لذا طلب مني أن أتمالك نفسي ولا أنفعل لأي شيء أراه أمامي، وأن أحرص أن أكون هادئا، وفي النهاية فإني صحفي جئت لنقل الحقيقة إلى الناس. ثم طلب مني أن أخرج بطاقتي الصحفية وأن أضعها في جيب متاح لأنها ستطلب مني كثيرا في ظل هذا العدد الهائل من رجال الشرطة السرية ورجال الأمن الذين من السهل عليهم التعرف علي ومحاولة إبعادي عن المكان.
كنت ألتزم بما يقوله لي لأني في النهاية أريد البقاء والاطلاع على كل ما يحدث لأعود للزملاء بحصيلة كبيرة من المعلومات كشاهد عيان نقدمها للمشاهدين رغم عدم وجود كاميرا معي.
ما أن وصلنا إلى تقاطع الإسعاف حتى سمعنا صوت أول تظاهرة قادمة من شارع رمسيس باتجاهنا ويبدو أنها كانت قادمة من مسجد قريب سرعان ما تحرك نحوها رجال الشرطة السرية فأحاطوا بها، وكان كثيرون منهم مندسين داخلها ومن آن لآخر كانت كل مجموعة منهم يخرجون بأحد الشباب يحيطون به ويضربونه ثم يأخذوه إلى سيارة أمن مركزي كبيرة يدخلونه فيها وقد رأيت معظم الشباب يقاومون رجال الأمن بقوة ويمشون بعد ذلك بعزة رافعي الرؤوس تجاه سيارات الأمن، وحينما وصلنا أمام سيارة الأمن كانوا يدخلون لها أحد الشباب وصاح الضابط قائلا: “هذا رقم 25″.
لا أنكر أني كنت أفور من داخلي وهممت أكثر من مرة أن أهجم عليهم حتى أخلص أحد الشباب من بين أيديهم، بينما كان زميلي يلح علي أن أتمالك نفسي حتى نكمل مهمتنا.
كان رجال الأمن يتعاملون بهستيريا مع الجميع ويضربون الصحفيين ويكسرون كاميراتهم، حتى أني وجدتهم يضربون شخصا يحمل كاميرا بقسوة تبين لي أنه غربي وحينما حملوه إلى الضابط أخرج جواز سفره فتركوه بعدما أوسعوه ضربا، ثم جاء ناحيتي وهو يلهث ويلملم نفسه قلت له: من أين أنت؟ قال من فرنسا؟ قلت له هل أنت صحفي؟ تلعثم لا أعرف خوفا مني أن أكون من الشرطة السرية أم من الضرب المؤلم الذي تعرض له في كل أجزاء جسده، قلت له: لا تخف أنا صحفي مثلك وأخرجت له هويتي حتى يطمئن، لكن صراخ رجال الأمن فينا أن نتحرك بسرعة من المكان جعله يلملم حاجاته ويختفي، كنت أدرك أن أوامر صارمة صدرت لرجال الأمن أن يقتلوا الحقيقة عبر مهاجمة الصحفيين والاعتداء عليهم وكسر كاميراتهم من اللحظة الأولى.
بعد اختطاف عدد كاف من الشباب صدر الأمر للسيارتين اللتين تقذفان القنابل أن تتوجها للمسيرة وبالفعل جاءت السيارتان ووقفتا بمحازاتنا تماما، حيث كنا على أطراف التظاهرة من ناحية رجال الأمن، وسرعان ما بدأتا تمطران المتظاهرين بوابل من القنابل المسيلة للدموع بشكل هستيري حاقد وكأنهم يقاتلون أعداء وليسوا أخوانا لهم في الوطن، وكانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها بشكل مباشر مثل هذه المواجهات القاسية من قبل رجال الأمن تجاه المتظاهرين، حيث كانت بالفعل حربا غير متكافئة.
لقد غطيت عدة حروب، ورأيت كيف يتعامل السوفييت مع الأفغان والأمريكان مع العراقيين والصرب مع مسلمي البوسنة والهرسك، لكنها كانت المرة الأولى لي التي أرى فيها مصريين يطلقون فيها القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي القاتل، وبعد ذلك الرصاص الحي على مصريين مثلهم، وهذا ما كان يجعل الدماء تغلي في عروقي وتلح علي أن أتجاوز الموقف كشاهد إلى مشارك مع المتظاهرين، لكن بطولة الشباب وعنادهم ومواجهتهم البطولية لرجال الأمن كانت تشفي غليلي وتملأ نفسي بالأمل واليقين أن الدولة الأمنية في مصر تسقط أمامي، الآن في هذا اليوم المجيد، طالما أن المصريين قرروا أن يحرروا بلادهم من مختطفيها الذين يحكمونهم، يحرروها بدمائهم التي بدأت تسيل أمامي في يوم الجمعة الدامي. تفرق الشباب بعد إطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم بكثافة رهيبة ودخل كثيرون منهم شارع سوق التوفيقية المتفرع من شارع رمسيس وشوارع جانيبة أخرى.
أذهلني ما رأيت بعد ذلك فقد تحركت إحدى السيارتين القاذفتين للقنابل ووقفت على رأس الشارع وخرج منها ضابط برتبة نقيب وأخذ يطلق الرصاص المطاطي بشراسة وحقد دفين على المتظاهرين وبشكل مباشر مع كم هائل من القنابل المسيلة للدموع وصاح رجال الأمن فينا أن نتحرك بعيدا.
بعدما بدأ التوتر الشديد يخيم على المشهد، طلب مني مرافقي أن نبتعد لكني طلبت منه أن نبقى قليلا ووقفنا بالفعل لنجد شيئا زاد ذهولي، فقد تجمع الشباب مرة أخرى وبسرعة فائقة وقاموا وهم عزل بهجوم مضاد على رجال الأمن الذين وجدتهم يتقهقرون أمامهم كالفئران المذعورة رغم ما في أيديهم من سلاح وعتاد وقوة، ثم تراجع الشباب مرة أخرى بعدما فر رجال الأمن ولا أدري أين ذهبوا لكني سرعان ما وجدت السيارات القاذفة للقنابل تتحرك تجاه شارع 26 يوليو مع أعداد كبيرة من رجال الشرطة السرية والضباط وحتى الجنود، وقال مرافقي من المؤكد أن هناك مظاهرة أخرى قادمة من هذا الشارع، لكني فوجئت بأن الشباب لديهم خطة مدروسة وهي إنهاك رجال الأمن في هذه الشوارع الفرعية الكثيرة الموجودة في تلك المنطقة ـوهذا ما قاموا به بالفعل- لأني سرعان ما سمعت أصوات تظاهرة أخرى قادمة من جهة بولاق أبو العلا وصحيفة الأهرام اتجهت نحوها قوة أخرى من رجال الأمن وبعض السيارات ثم ظهر تجمع ثالث قادم من ناحية مسجد الفتح في شارع رمسيس، فأسقط في يد الأمن وأصبح يتعامل بهستيريا وقسوة شديدة مع الموقف ولا يعرف من أين يمكن أن يلاحق التظاهرات التي جاءت من كل مكان.
أخذت قوات الأمن تتبعثر فيما كان الضباط يصدرون الأوامر بسهتيريا إلى الجنود الاحتياطيين الذي كانوا لا يزالون في السيارات أن ينزلوا ويشاركوا زملاءهم الهجوم على التظاهرات التي كانت تنشق الأرض من كل شارع وتخرج تهتف بسقوط مبارك ونظامه، فيما بدأت القوات تتبعثر وتطلق القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي بغزارة شديدة فأصبحنا في ساحة حرب حقيقية أبطالها شباب مصري عزّل خرج يحرر بلاده من الفاسدين الذين سطوا عليها ويحكموها وجنود هذا النظام الفاسد الذي كان يتعامل مع المصريين بامتهان واستلاب لثرواتهم وآدميتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة.
أصبح دخان القنابل المسيلة للدموع يغطي المكان بشكل مريع لا سيما وأن الهواء كان يحرك كما هائلا من الدخان من ناحية ميدان عبد المنعم رياض، الذي نظرت إليه فوجدته مشتعلا بتظاهرات أخرى وقوات أخرى من الأمن تواجهه، تتمركز في ناحية المتحف المصري وميدان التحرير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى