كنت تماما وسط المعركة حينما قررت العودة للمكتب -بعدما قضيت ما يزيد عن ساعة ونصف الساعة وسط التظاهرات- حتى أنقل للزملاء ما يدور في المنطقة، وما رأيته حتى ينقلوه للزملاء في الدوحة في نشرة الساعة الثالثة التي كان قد اقترب وقتها.
قال مرافقي من الأفضل أن نسير بمحاذاة دار القضاء العالي ونقابة المحامين والصحفيين حتى نتجنب الصدامات التي كانت قائمة بين المتظاهرين في شارع الجلاء وقوات الأمن أمام جمعية الشبان المسلمين؛ وبالفعل تحركنا.. لكن، ما إن وصلنا أمام نقابة المحامين حتى وجدت أحد الضباط بلباس مدني يركض نحوي من الجهة المقابلة للشارع وحوله عصابته من الشرطة السرية بلباس مدني، وكان واضحا من طريقته في الهجوم علي أنه قد عرفني لأن آخرين غيري كانوا يمشون في الشارع بشكل عادي دون أن يسألهم أحد عن شيء طالما أنهم لا يشاركون في التظاهرات.
وقف الضابط أمامي وأخذ يصرخ في وجهي بهستيريا وصوت مرتفع عدة مرات متلاحقة: “من أنت ولماذا جئت إلى هنا؟ بينما أحاط بي رجاله من الشرطة السرية من كل جانب ولم أعد أرى أحدا سواهم ،حتى مرافقي لم أعرف أين ذهب؟ قلت له بهدوء: طالما سألتني من أنا فمن المؤكد أنك تعرفني؟ قال: أعطني هويتك الصحفية؟ مددت يدي في جيبي حتى أخرج هويتي فأطبق رجاله الخناق علي وبدأ بعضهم بالاعتداء علي، قاومتهم رغم كثرتهم وصرخت فيه قائلا: “من يضربني سوف أضربه أيها الجبناء”، وكررتها أكثر من مرة بصوت عال غاضب.
فى هذه اللحظة لمحني ضابط آخر، ويبدو أنه عرفني، لأنه صاح فيهم لا تضربوه، لكني رفعت صوتي عليهم وأهنتهم وكدت أضربهم بعدما خففوا الخناق عني لولا أن أحد الذين أمسكوا بي صاح فيهم: ابتعدوا لا تضربوه واتركوه لي.. بينما أخذ الضابط الأول بطاقتي الصحفية وأخذ يركض تجاه ضابط أكبر منه يرتدي الزي المدني، وسمعته يقول له: “أبلغ القيادة” فقد كنت صيدا ثمينا بالنسبة لهم، أوقفوني في البداية وسط سيارات الأمن المركزي التي كانت تقف على جانب الشارع بينما طلب ضابط الأمن المركزي إبعادي عن السيارة، لكن الضابط الذي كان يرافقني طلب من رجال الأمن الذين كانوا يرافقونني أن أبقى مكاني. كنت قريبا من ضباط الأمن وأسمع كلامهم وتوجيهاتهم للقوات وشعرت أنهم في حالة هيستريا وفقدان للتوازن، حيث تكثر الشوارع الجانيبة في تلك المنطقة التي كان الشباب يفرون إليها ثم يفاجئون رجال الأمن بالخروج من شارع آخر، وفي كل مرة كان ضباط الأمن يطلبون مزيدا من القوات وقاذفات القنابل ليخرجوا لمواجهة مزيد من التظاهرات.
بالنسبة لي يبدو أنهم حينما اتصلوا بالقيادة طلبوا منهم إبقائي رهن الاعتقال، وهذا كان اختطافا لأني صحفي أقوم بواجبي وعملي وليس من حق أحد اعتقالي أو احتجازي أثناء قيامي بأداء عملي، لم أكن أعلم شيئا عن مرافقي لكني علمت بعد ذلك أنه أفلت بذكاء شديد من بين أيديهم حينما وجدهم مشغولين باعتقالي وكأني صيد ثمين بالنسبة لهم وذهب إلى مكتب قناة الجزيرة وأبلغ الزملاء بالاعتداء علي واختطافي من قبل رجال أمن بلباس مدني وبث الخبر مباشرة على شاشة الجزيرة.
بعد قليل طلب الضابط من رجال الأمن الذين كانوا يحيطون بي أن يدخلوني إلى العمارة رقم 47 شارع رمسيس وأن يحتفظوا بي في المدخل بعدما كان كثير من الناس الذين يمشون في الشارع يتعرفون علي وبعضهم كان يتجه نحوي للسلام علي ثم يفاجأ أني بقبضة البوليس السري.
ومن الطرائف التي أذكرها هنا، أن أحد الناس الذين كانوا يمرون في الشارع لمحني من بعيد فاعتقد أني أقف في الشارع فجاء نحوي مسرعا وحياني وقال لي: هل تسمح لي بصورة معك؟ قلت له: أنا مقبوض علي ومحتجز من قبل الأمن، امتقع المسكين وهرول بعيدا وهو يلملم أطراف نفسه، وطرفة أخرى أن أحد رجال الأمن جاءني وأنا رهن الأعتقال وقال لي هل يمكن أن تعطيني بطاقة لك أريد أن أفخر أمام أهلي أني قابلتك، قلت له: يمكنك أن تفخر أمامهم أنك شاركت في اعتقالي، استحى الرجل وقال لي : لو كان الأمر بيدي لأطلقت سراحك فورا فأنت تستحق التقدير لا الاعتقال.
بقيت في مدخل العمارة أرقب ما يدور وأستمع لما يحدث في المنطقة واعتبرتها جزءا من مهمتي في رصد ما يحدث وشاهدت أشياء كثيرة من أهمها أن رجال الأمن الذين كانوا يرتدون اللباس المدني ويتحركون للقبض على المتظاهرين واعتقالهم مع الضباط معظمهم من المجرمين والبلطجية ورجال السوابق ومرشدي الأمن الذين يعمل بعضهم في وظائف مدنية عادية، كما أن الكثير من سائقي سيارات الميكروباص الذين يعملون معهم كانوا موجودين بسياراتهم حتى يضعوا المقبوض عليهم في السيارات حينما تضيق سيارات الأمن الكبيرة بهم.
وسمعت أحد رجال الأمن وهو يقول للآخر، كلما مر ضابط ومعه عصابته حوله، “فلان بيه وعصابته”، وبعد قليل يمر آخر فيقول “فلان بيه وعصابته”، فأدركت أن معظم هؤلاء الضباط مجرمون يستخدمون مجرمين لمهاجمة الشباب وتجاوز كل حقوق الإنسان والتعدي على الشعب.
لم أتخيل مطلقا أن أجد ضابطا مصريا يقتل مصريا بغل وحقد وكراهية كما شاهدت هؤلاء الضباط الذين كانوا يطلقون الرصاص المطاطي والقنابل على المتظاهرين الذين كانوا يتساقطون جرحى فيحملون بعضهم إلى الصفوف الخلفية ثم إلى المستشفيات وكأنما هم جنود في معركة بينما يواصل الآخرون مواجهة رجال الأمن الذين يحمون النظام الفاسد.
وقلت في نفسي من المستحيل أن يقوم ضابط مصري بإطلاق النار على أخيه المصري بهذه الطريقة إلا بعد أن يتم شحنه نفسيا بالكراهية والحقد والغل، وأيضا منح الامتيازات المالية والوعود والأماني حتى يمارس القتل والاجرام لصالح الفاسدين الكبار، وكأنه مرتزق مأجور بدلا من أن يحمي الناس يقتلهم.
مر علي حوالي ساعة ونصف الساعة وأنا في حالة الاختطاف هذه، أو الاعتقال، لم أتبرم لأني كنت أشاهد بقية المشهد الدامي وأعرف المزيد من التفصيلات من خلال متابعتي لرجال الأمن الذين دخلوا مرحلة من الارهاق والتشتت من المؤكد أنهم لم يحسبوا حسابها، لا سيما مع الشجاعة المذهلة التي وجدتها من الشباب وهم يواجهون الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع بصدور عارية وشجاعة متناهية وبسالة مذهلة.
لاحظت أن الضباط يستخدمون الحمام الخاص ببواب العمارة التي كنت محتجزا فيها ومن ثم كانوا يدخلون تباعا إلى العمارة ليقضوا حاجتهم، إلى أن جاء ضابط يبدو عليه أنه من ضباط أمن الدولة وحينما وجدني كأنما فوجئ بوجودي، كنت ممتلئا من داخلي بالغضب على ما يحدث للشباب وحينما تكلم معي صببت عليه جام غضبي وكأني غاضب لنفسي وليس لهم، وقلت له أني لن أتهاون مع هذا الضابط الذي اختطفني من الشارع ولن أتسامح مع من اعتدوا علي وإذا لم تخرجوني فورا من المكان فإني أحملكم مسؤولية سلامتي لا سيما وأني قد عرفت أسماءهم جميعا ومناصبهم وسوف ألاحقهم.
قابل هذا الضابط غضبي بإنصات وهدوء، وحاول أن يمتص غضبي وتفهم وطلب مني أن أهدأ ووعدني أن يرد إلي حقي خلال دقائق، وأبلغني أنه يتابع برامجي هو ووالده وقد تعلم كثيرا منها لا سيما “شاهد على العصر” وقال لي: سوف تخرج فورا لكن سأرد إليك حقك أولا لأنك “شخص محترم ويجب على الجميع احترامك”.
هدأت كثيرا بعد كلماته وما هي إلا دقائق معدودة حتى وجدته يعود إلي ومعه بطاقتي الصحفية والضابط الذي اختطفني من الشارع؛ وقال لي “لقد أحضرته حتى يعتذر إليك”، قلت له بغضب شديد: “لن أقبل اعتذاره وأنا أعرف وجهه وعرفت اسمه وسوف آخذ حقي منه في ما بعد لأني لن أتسامح مع من اعتدوا علي، أخذ الضابط الذي اختطفني يلح علي في قبول الاعتذار وحاول أن يقبل رأسي فأبعدته ولم أجبه وتوعدته، قال الضابط الآخر الذي أفرج عني: إلى أين تريد أن تذهب؟ قلت سأعود إلى مكتب قناة الجزيرة في ميدان عبدالمنعم رياض” قال : لن تستطيع فهناك اشتباكات شديدة ومشتعلة هناك والأفضل أن تتجه لشارع رمسيس أو منطقة العتبة، قلت له لا حاجة لي بشارع رمسيس أو العتبة ولا بد أن أعود إلى المكتب فزملائي ينتظرونني، قال لي: أريد أن أؤمن خروجك من هذا المكان حتى لا أتحمل أية مسؤولية تجاهك. قلت له أنا أعرف طريقي وسوف أذهب. قال إذن اسمح لي أن أرسل لك مرافق من مساعدي يصحبك إلى هناك، ونادى على أحد مساعديه حتى يصحبني لكن قنابل الغاز المسيل للدموع التي يحملها الهواء القادم من ناحية ميدان عبد المنعم رياض لم تمكنا من المسير أكثر من عشرة أمتار، فقد كانت كثيفة وغزيرة وعبأت الهواء كله بالرذاذ حتى الجنود كانوا لم يستطيعوا تحملها.
بقيت بعض الوقت في شارع رمسيس، لكن برغبتي هذه المرة وحينما طلب مني أحد الضباط أن أمشي قلت له: أنا محتجز من قبلكم حتى يتركني فابتعد عني. لكني كنت أقف حتى أرصد باقي المشهد فوجدت رجال الأمن في وضع بائس أمام بطولات الشباب وصمودهم.
جاءني الضابط الذي أفرج عني مرة أخرى وقال: سأحضر سيارة حتى تنقلك إلى شارع رمسيس. لكني رفضت وقلت له سأعود لمكتب الجزيرة مهما كان الثمن، حينما لاحظ تصميمي قال لي: إذن اسمح لي أن أصحبك وبالفعل جاء معي ولكن لعدة أمتار فقط فقد كان غاز القنابل المسيلة للدموع القادم من ناحية ميدان عبد المنعم رياض لم يتوقف وكان كثيفا بشكل مريع، التجأت إلى أحد المباني في الطريق وقلت له: سأواصل أنا الطريق ويمكنك أن تعود، حاولت طوال نصف ساعة من الوقت أن أتوجه لميدان عبد المنعم رياض لكن المعركة بين الشباب وقوات الأمن كانت حامية الوطيس، ومثلها في شارع الجلاء وشارع رمسيس حتى كانت قوات الأمن مشتتة وتخوض معارك طاحنة ضد شباب أعزل لكنه قرر أن يشتري حريته بدمائه وأن يحرر مصر من اللصوص الذين سطوا عليها.
حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف كيف أتعامل مع الغاز المسيل للدموع، لكني قررت أن أتوجه ركضا إلى ميدان عبد المنعم رياض، وأن أحتمل الغازات ما استطعت حتى أصل للمكتب، لكني ما إن وصلت للميدان حتى هالني ما رأيت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى