ما إن وصلت إلى ميدان عبد المنعم رياض ركضا من شارع رمسيس حتى هالني ما رأيت، فقد كان الميدان ساحة حرب حقيقية بكل المعايير، وكان منقسما إلى نصفين النصف الأول عبارة عن قوات كثيفة من الأمن موجودة باتجاه المتحف وميدان التحرير والنصف الثاني أعداد هائلة من الثوار في الجانب الآخر بجوار هيلتون رمسيس وعمارة دوحة ماسبيرو التي يقع بها مبنى مكتب قناة الجزيرة وقنوات تليفزيونية أخرى.
كانت قوات الأمن تقذف المتظاهرين من الثوار بالقنابل المسيلة للدموع وتطلق الرصاص المطاطي بينما كان الثوار يدافعون عن أنفسهم بالحجارة، ووجدت نفسي وسط الميدان وحدي بين الجانبين، وكان واضحا أن المعركة على أشدها فقد كانت هناك عربتان لقوات الأمن المركزي تحترقان في آن واحد تحت كوبري السادس من أكتوبر الذي يخترق وسط الميدان.
وقفت استطلع الموقف لبرهة حتى أحدد مساري ثم شققت طريقي من أقصى اليمين ركضا بكل ما استطيع من قوة متوجها ناحية الثوار الذين كانوا موجودين بكثافة أمام عمارة دوحة ماسبيرو بينما كان دخان القنابل المسيلة للدموع يغطي المكان وأصوات الرصاص المطاطي من قبل رجال الشرطة لا تتوقف، ما إن وصلت وسط الثوار حتى تعرفوا علي واجتمعوا حولي وأخبروني بسقوط أول شهيدة في صفوفهم بينما كان آخرون كثيرون مصابون لكنهم لم يغادروا ساحة المعركة وعالجوا بعضهم بإسعافات أولية، وبينما كان البعض ملتفا حولي سمعنا هتافات لمجموعات الثوار الذين كانوا في المقدمة هجموا بعدها بصدور عارية على قلب رجل واحد تجاه قوات الأمن فذهلت حينما وجدت قوات الأمن المدججة بالأسلحة والمدرعات تفر أمام المتظاهرين كالفئران المذعورة تجاه ميدان التحرير، وظل هذا المشهد سيد الموقف إلى نهاية اليوم كر وفر واستدراج من قبل الثوار لقوات الأمن ثم هجوم مضاد يفر الجنود والضباط أمامهم فيه كالفئران.
لم أكن أصدق ما أراه بعيوني، وكان الزملاء يبثون هذا على الهواء مباشرة على شاشة الجزيرة بعدما تغلبنا على قيام السلطات المصرية بقطع وصلة البث المباشر عنا، صعدت إلى المكتب ركضا في الطابق الخامس من المبني، وما إن دخلت حتى التف الزملاء حولي وكنت منهكا إلى حد بعيد كما أن غاز القنابل المسيلة للدموع كان قد أصاب عيوني بالتهاب شديد وعدم قدرة على أن أفتحها كما أن حلقي كان ملتهبا إلى حد بعيد من الغاز وأشعر أنه يحترق، ولم أكن حتى اللحظة أعرف كيف أتعامل مع غاز القنابل المسيلة للدموع، كان زميلي عبد الفتاح فايد على الهواء مباشرة ولكن عبر الهاتف مع الجزيرة، وما إن رآني حتى أبلغ الزملاء في الدوحة أني قد أفرج عني وأني وصلت إلى المكتب، كنت مجهدا ومتعبا ويملؤني الغضب مما رأيته من ممارسة قوات الأمن ضد الشباب الثائرين، لكن بطولات الشباب في المقابل لا تكاد تصدق وجعلتني أنسى تعبي وهمومي وأعيش همومهم وبطولاتهم التي سيسطرها التاريخ .
أحضر لي الزملاء بيبسي كولا وخلا وطلبوا مني أن أغسل عيوني بالبيبسي وأن أشم الخل وسرعان ما بدأت أستعيد وعيي وطاقتي بعد قليل، واتضح لي بعد ذلك أن معظم الشباب في الشوارع كانوا يحملون زجاجات البيبسي والخل وكانت هي الدواء الناجع لغاز القنابل المسيلة للدموع، بعدما استعدت بعض طاقتي قررت النزول للشارع مرة أخرى حتى أجمع معلومات لزملائي عما يحدث فقد كانت السلطات قطعت عن مكتب الجزيرة كل الهواتف الأرضية كما كانت الهواتف الخليوية في كل مصر معطلة أيضا، ولم يكن هناك سوى هاتف أرضي واحد يعمل في المكتب لم تلتفت السلطات إليه كان هو وسيلتنا الوحيدة للتواصل مع مكتب الجزيرة في الدوحة، ومن ثم فإن الحصول على المعلومات أصبح أمرا بالغ التعقيد.
طلبت أن يصحبني أحد الزملاء للنزول إلى الشارع فلم أجد أحدا ورغم اعتراضهم على نزولي وحدي إلا أني في النهاية قررت النزول وحدي، وما إن رآني الثوار في الشارع حتى اجتمعوا حولي يروون لي تفاصيل مذهلة عما تقوم به قوات الأمن، وقد أكد لي كثيرون منهم أن قوات الأمن لا تستخدم الرصاص المطاطي فقط وإنما يستخدمون الرصاص الحي وأن كثيرا من الجرحى والشهداء قد سقطوا برصاص حي.
لم يكن لدي دليل حتى ذلك الوقت حتى أبث هذا الخبر لكن الحقيقة بعد ذلك أن الرصاص الحي استخدم وكثير من الشهداء سقطوا بالرصاص الحي، التحمت هذه المرة بصفوف الثوار ففوجئت بأنهم ليسوا فقط من شباب الجامعات أو المثقفين أو المتعلمين الذين دعوا إلى التظاهرات بداية عبر شبكات الانترنت، ولكني وجدت بينهم الفلاحين والعمال البسطاء ومن كل طبقات المجتمع ومن كل الأعمار رجالا ونساء شيبا وشبانا وحتى أطفالا يافعين، بعضهم قال لي إنه جاء من الصعيد وبعضهم جاء من أحياء القاهرة الأخرى وبعضهم جاء من المنصورة وطنطا وغيرها من المدن والمحافظات الأخرى، وأنهم جاؤوا للمشاركة في تظاهرة يوم جمعة الغضب مناصرة للثوار من الشباب.
اقترب مني أحدهم وقال لي “أنا سائق غلبان من الصعيد كرهت الظلم من الحكومة وسأقف إلى جانب هؤلاء وأناصرهم ضد الحكومة الظالمة” اقترب مني آخر وقال: “كل من تراهم هنا لهم مظالم ضد هذا النظام الفاسد” وأذكر أن هذا الرجل وكان في الخمسين من عمره التقاني بعد ذلك في ميدان التحرير وذكرني بنفسه وقال هل تصدق أني جامعي وأعمل في توصيل الطلبات في أحد المطاعم وأنا في هذا السن، جاء بعد ذلك رجل يركض نحوي وهو يحمل طفلا ويبكي قائلا : “هؤلاء الكفرة -ويقصد رجال الأمن- أطلقوا علينا ومعنا نساء وأطفال قنابل الغاز والرصاص المطاطي التجأنا إلى محطة مترو الأنفاق بأطفالنا ونسائنا فهجموا علينا وقذفوا علينا القنابل المسيلة للدموع داخل المحطة، لقد اختنق أطفال كثيرون ومات بعضهم من قنابل الغاز، اطلبوا لنا سيارات الإسعاف“.
كنت أشعر بعجز وضعف شديد أمام ما يحدث حولي، للأسف لم تكن الهواتف تعمل وكان المكان ساحة معركة وكر وفر وتألمت كثيرا لحال الأطفال لكن ماذا يمكن أن أفعل وأين سيارات الأسعاف الآن بل إن السيارات العادية لم تكن تستطيع السير في هذه المنطقة، كل هذا كان يحدث وسط معركة طاحنة بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي من قبل قوات الأمن من جهة وطوب الثوار من جهة أخرى لكن الأمر تطور وفوجئت برجال الأمن يرمون الطوب والزجاجات الفارغة على الثوار أيضا، لكن شيئا عجيبا رصدته في هذا اليوم سواء في ساحة ميدان عبد المنعم رياض أو شارع رمسيس أو بعد ذلك حينما كنت أرصد من مكتب الجزيرة التظاهرات القوية التي كانت على كوبري قصر النيل حيث كان الهواء يأتي مندفعا بقوة من جهة الثوار الذين يريدون الوصول لميدان التحرير باتجاه رجال الأمن الذين كانوا في الجهة الأخرى وهذا كان يعني شيئا مهما جدا في مصلحة الثوار، فقد كان الهواء يرد دخان الغاز للقنابل المسيلة للدموع باتجاه الجنود، كانت القنابل تسقط وسط الثوار لكن الهواء كان يأخذ الغاز في الاتجاه العكسي جهة الجنود وكثيرا ما كانت القنابل تسقط بجوار الجنود فيذهب الغاز كله عليهم، وكان المشهد بحق آية من آيات الله، وكان الغاز في أغلبه يأتي من الجهة الأخرى من النهر من ناحية المهندسين والدقي حيث كانت هناك تظاهرات أخرى وتجمعات كبيرة للثوار، فكان الهواء الذي يحمل الغاز من تلك الجهات حينما يعبر نهر النيل ويأتي للمتظاهرين كان خفيفا إلى حد بعيد صحيح أنه كان يؤثر على العيون والحلق أيضا لكن تأثيره كان أقل من الغاز المباشر الذي كان يصطلي به الجنود، أيضا نجح الثوار و تفننوا في استخدام قنابل الغاز التي كانت تقذف عليهم بحيث يجعلون ضررها يقع على الجنود فقد كان بعضهم يجيد إعادة إلقاء القنبلة على الجنود بعدما يلتقطها بيده من على الأرض فتسقط في وسطهم يساعده الهواء على ذلك، وكان آخرون يحملون دلاء فارغة ودلاء بها ماء أما الفارغة فكانوا يغطون بها القنبلة ويحصرون الغاز داخل الدلو ثم يرفعون الدلو بعد مدة فيكون الغاز قد تبخر وأصبح اثره أقل وآخرون يلقون الماء على القنبلة عندما تسقط فكنت أراها تنطفئ مثل إلقاء الماء على النار، وأذكر أني من خلال تغطيتي للحروب كنت أجد المقاتلين البسطاء يتفننون كذلك في وسائل المواجهة مع الأسلحة العاتية وبسرعة يكتشفون ما يبطلها وقد كان المتظاهرون يتفننون في التعامل مع قنابل الغاز لكنهم لم يكن لهم حيلة مع الرصاص المطاطي والرصاص الحي .
نكمل …
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى