السلطة والثروة والعلاقة الشوهاء
كيف تحول الفساد إلى بنية مؤسسية متكاملة في مصر؟
رسم توضيحي لمؤسسة الفساد في مصر من إعداد المؤلف
عبد الخالق فاروق
عندما تثار قضية الفساد في مصر أو في غيرها من البلاد ينقسم الرأي العام عادة بين تيارين رئيسيين، يعبر كل منهما عن رؤية أحيانا أو عن مصالح مختلفة أحيانا أخرى، فأغلبية الرأي العام الساحقة التي تعاني من تدهور مستويات معيشتها تشكل مظاهر الفساد المتفشية تحديا لمشاعرها، واستفزازا لوجدانها، وهي بهذا تنظر إلى هذه الممارسات الفاسدة باعتبارها جرائم اقتصادية وأخلاقية قبل أن تتوقف عند مضامينها السياسية والثقافية.
أما التيار الثاني -والذي يمثله رجال المال والأعمال ودوائر رسم وصنع السياسات والقرارات وبعض الدوائر الإعلامية والصحفية المرتبطة بهم– فتروج لمفهوم مختلف ينطلق من مقولة أن "الفساد موجود في كل الدنيا"، وأن هذه الممارسات الفاسدة هي "جزء من اقتصاد الدول الحديثة"، أو أن هذه الممارسات "ذات طبيعة فردية وشخصية"، وأنها "الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة العامة التي هي سليمة وصحيحة".
وإذا كان الأمر كذلك فقد يكون من المستحسن أن نبدأ هذه الدراسة بتعريف الفساد، ثم بعد ذلك نشرح وسائله وآلياته وكيفية تغلغله في مؤسسات الدولة وبنية النظام الحاكم.
أولا: المفاهيم .. الآليات .. النتائج
ثانيا: أشكال الفساد وأنواعه
ثالثا: مجالات وقطاعات الفساد
رابعا: آليات الإفساد
خامسا: النتائج والتداعيات
أولا: المفاهيم .. الآليات .. النتائج
الفساد:
عندما زادت ممارسات الفساد في كثير من دول العالم، خاصة منذ منتصف السبعينيات في الدول النامية، تجمع عدد من الخبراء الاقتصاديين ورجال القانون الدوليين، وفي طليعتهم المحامي النيوزيلاندي "جيرمي بوب" والألماني "بيتر إيغين" وقاموا -وبتمويل من مؤسسة فورد الأميركية- بتأسيس ما سمي "منظمة الشفافية الدولية" عام 1994.
وحاول هؤلاء على مدار خمسة أعوام صياغة موقف دولي صادر من منظمات المجتمع المدني الدولي تجاه هذه الظاهرة التي باتت تدمر أسس التنافس الحر المبني على وضع المعايير وشفافيتها.
وقد عرفت منظمة الشفافية الدولية في بداية عهدها الفساد بأنه "سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة". بيد أن هذا التعريف لم يكن شاملا أو جامعا، لذا عادت المنظمة في وقت متأخر، وتحت تأثير اجتهادات عدد من الباحثين، مثل "سوزان روز أكرمان" Suzan rose-Ackerman – لتعرف الفساد بأنه "السلوك الذي يمارسه المسؤولون في القطاع العام أو القطاع الحكومي، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية ومن خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم".
أما قانون العقوبات الفرنسي فقد ميز بين ما أسماه "الفساد النشط" و"الفساد السلبي"، فعرف الأول بأنه "سعي الموظف الحكومي بنشاط من أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد"، أما الفساد السلبي فقد عرفه بأنه "قبول المسؤول لهدية أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة".
وفي قانون العقوبات المصري نصت المادة (103 مكرر) على تعريف المرتشي بأنه "كل موظف عمومي يطلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه".
لكن تطور الحياة الاقتصادية في مصر، وفي غيرها من الدول والمجتمعات منذ منتصف السبعينيات قد أوجد أشكالا جديدة وعديدة للفساد، فلم تعد الرشوة أو الاختلاس هما مظاهرها الوحيدة، بل هناك عشرات السلوكيات والممارسات التي تندرج في توصيف الفساد بالمعنى القانوني والأخلاقي للكلمة.
وعلى صعيد النظرية الاقتصادية، انشغل العقل الاقتصادي بقضية الفساد، واحتلت جانبا من النظرية الاقتصادية الحديثة، وكذا في الدراسات الاقتصادية التطبيقية، وكان من نتائج هذا الاهتمام ما يسمى في النظرية الاقتصادية بـ"الاقتصاد الخفي" hidden economy أو "الاقتصاد الأسود "black economy، وتعني تلك الأنشطة المالية أو الاقتصادية التي تجري في الخفاء وتخالف القوانين المعمول بها، وعادة لا تجد طريقة ما لتسجيلها في سجلات الحسابات القومية national accounts، ومن ثم هي لا تتضمن داخل مصفوفة الدخل القومي الرسمي national income matrix رغم أهميتها وثقلها في صيرورة التدفقات المالية والنقدية في البلاد.
كما برزت على ضفاف هذا الإطار النظري الجديد مفاهيم إضافية مثل "دخول الظل" shadow income، التي تتمثل في الدخول النقدية التي يحصل عليها بعض الأفراد أو الجماعات -وغالبيتهم من الموظفين في المصالح الحكومية- بصورة غير قانونية مثل الدروس الخصوصية أو الأعمال الموازية أثناء وقت العمل الرسمي –مثل قيادة سيارات الأجرة (التاكسي) أو أنشطة تجارية أو غيرها- ويندرج فيها أيضا الحصول على الإكراميات والرشا نظير أداء أعمالهم أو التبرع للقيام بهذه الأعمال.. إلخ. وبسبب ضعف الأجور والرواتب الناجم عن السياسات الحكومية في هذا المجال، إلى انتشار كثير من مظاهر الفساد (رشا) لإنهاء الأعمال في المصالح الحكومية.
وقد دفعت هذه الظواهر المتنامية بعض المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى دراسة هذه الظاهرة الاقتصادية والمالية. ففي العام 1998 أعد مجموعة خبراء بصندوق النقد الدولي I.M.F دراسة حول موضوع الاقتصاد الخفي على مستوى العالم، وقدرتها الدراسة بنحو 9 تريليونات دولار، أي ما يعادل 23% من الناتج المحلي العالمي الذي بلغ ذلك العام 39 تريليون دولار.
ثم توالى الاهتمام من الباحثين المرموقين في هذا الحقل المعرفي الجديد، وكان من أبرز هؤلاء عالم الاقتصاد النمساوي البارز "فردريك شنيدر" Frederick Schneider الأستاذ بجامعة "هانز كبلر"، الذي قام بدراسة اقتصاد 76 دولة على مستوى العالم، وتبين فيها أن نسبة ممارسة الاقتصاد الخفي تتراوح بين 15% و35% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، واللافت أن هناك ثلاث دول تجاوزت هذا المعدل الوسطي، وهي تايلند (73% ) ونيجيريا (70%) ومصر (65%)، وذلك عام 1998، بينما بلغت النسبة 8% في الولايات المتحدة و19% في كندا و35% في البرازيل و20% في الدانمارك.
ثانيا: أشكال الفساد وأنواعه
الحالة المصرية تكاد تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة -مهما اتسع وازداد عدد المنخرطين فيها في قمة هرم السلطة- إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة. وهنا نستطيع أن نميز في تحليل ظاهرة الفساد وحقائقه في مصر بين نوعين:
"
الحالة المصرية تكاد تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة مهما اتسع وازداد عدد المنخرطين فيها في قمة هرم السلطة، إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة
"
الأول: ما نسميه "فساد الكبار" المتنفذين والمتربعين على قمة الهرم الاجتماعي والسياسي، سواء في الفرع التنفيذي (الحكومة) أو التشريعي (مجلس الشعب/البرلمان) أو الأمني، حيث شكلوا شبكات مصالح تتنازع فيما بينها أحيانا، وتتناغم في توزيع المزايا والغنائم أحيانا أخرى.
الثاني: ما نطلق عليه "فساد الصغار والفقراء"، حيث لم تعد ممارسات الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبية تقتصر أو تنحصر في "الكبار" وحدهم، بل إنها -وعبر سياسات الإفقار واتساع الفجوة في الدخول وارتفاع الأسعار المستمر وغياب "القدوة" في قمة هرم السلطة والمجتمع وتآكل دور أجهزة الرقابة- قد تسربت إلى ممارسات الناس العادية في قطاعات الخدمات الحكومية وغير الحكومية.
وتختلف الدول المتقدمة عن كثير من دول العالم الثالث في طريقة تعاملها مع ظواهر الفساد ورموزه ومدى سطوة القانون في إخضاع ممارسات الفساد للقصاص العادل، فبينما يطبق القانون في أقصى أشكاله على رموز الفساد ووقائعه في الدول المتقدمة (اليابان وأميركا وأوروبا.. إلخ)، فإننا على العكس في بلادنا نجد أن المفسدين والفاسدين هم الذين يصوغون القواعد القانونية عبر سيطرتهم المباشرة على أجهزة التشريع والتنفيذ، وأحيانا بعض أفرع الهيئات القضائية. كما يتبين من الشكل الذي يتصدر هذه الدراسة.
ثالثا: مجالات وقطاعات الفساد
تشير دراسة منظمة الشفافية الدولية المنشورة عام 2001 إلى حقيقة كون أكثر المجالات الحكومية عرضة للفساد في الدول النامية هي:
المشتريات الحكومية.
تقسيم وبيع الأراضي والعقارات.
نظم الجباية الضريبية والجمركية.
التعيينات الحكومية.
إدارات الحكم المحلي بالمحافظات.
بيد أن الحالة المصرية قد ضربت الأرقام القياسية، فاتسع نطاق ومجالات الفساد التي انغمس فيها بصورة شبة دائمة كبار رجال الدولة وأبناؤهم، مثل:
قطاع المقاولات وتخصيص الأراضي وشقق المدن الجديدة والطرق والكباري والبنية الأساسية.
عمولات التسلح ووسائل نقلها.
قطاع الاتصالات والهواتف المحمولة والثابتة.
خصخصة وبيع الشركات العامة ونظم تقييم الأصول والممتلكات والأراضي المملوكة لهذه الشركات.
البنوك ونظم الائتمان وتهريب الأموال إلى الخارج عبر القنوات المصرفية الرسمية.
شركات توظيف الأموال وما جرى فيها.
تجارة المخدرات واختراق قيادات الأجهزة الأمنية والمؤسسة السياسية.
تجارة العملات الأجنبية والمضاربة على سعر صرف الجنيه المصري.
تجارة الدعارة وشبكات البغاء.
نظم الاستيراد وأذون الاستيراد وبرامج الاستيراد السلعي.
طرق توزيع مشروعات المعونة الأميركية.
الصحافة ومؤسساتها، وإفساد الصحفيين عبر وسائل شتى، والإعفاء غير القانوني للمؤسسات الصحفية (القومية) من أداء الضرائب العامة، وتسهيل سبل الارتزاق السري وغير القانوني لبعض الصحفيين.
ما يسمى "علاوة الولاء" التي تمنح بصورة سرية وبالمخالفة لقواعد المشروعية المالية لكبار قيادات الجيش والأمن.
إفساد النظام التعليمي الرسمي والصمت على جريمة الدروس الخصوصية بل وخلق الظروف الملائمة لتفشيها.
إبقاء فساد النظام الصحي الحكومي من أجل إتاحة الفرص لتوسع المستشفيات الاستثمارية ذات الصلة ببعض المتنفذين.
المضاربات والتلاعب في البورصة وسوق الأوراق المالية وسوق التأمين.
"
ما يقارب 500 مليار جنيه مصري جرت من خلف ظهر الحسابات القومية ومصفوفة تدفقات الدخل القومي الرسمية في السنوات العشر الماضية أو الخمسة عشر عاما على أكثر تقدير، وهي كلها أموال لا تسدد ضرائب عنها، علاوة على ما ألحقته من أضرار على نمط توزيع الدخول واستشراء "ثقافة الفساد
"
هذه عينة من بعض القطاعات التي أفسدتها السياسات العامة، وسوف نتعرض لها تفصيلا بعد قليل.
أما مجالات الفساد لدى صغار المواطنين ومحدودي الدخل فتتنوع بدورها، بحيث أصبحت تشكل تيارا عريضا من الممارسات وجزءا أساسيا مما يسمى "الاقتصاد الخفي" hidden economy أو دخول الظل shadow income أو الاقتصاد الموازي، وتشمل الأنشطة التالية:
العمل على إبقاء النظام التعليمي الحكومي غير فعال لصالح نظام تعليمي غير رسمي أو السوق التعليمية السوداء black educational market، سواء في صورة الدروس الخصوصية أو انتشار المدارس الخاصة والاستثمارية والأجنبية وأخيرا ما يسمى "مدارس التميز"، وقد بلغ حجم الأموال المنفقة على الدروس الخصوصية وحدها -وفقا لتقرير مجلس الشورى المصري عام 1994– حوالي 10 مليارات جنيه تحملتها الأسر المصرية الفقيرة، وقد بلغت عام (2004) حوالي 18 مليار جنيه خاصة بعد تقسيم مرحلة الثانوية العامة إلى سنتين دراسيتين بدلا من عام دراسي واحد.
عدم فاعلية نظام الأمن الرسمي لصالح نمو وتفشي نظام الأمن غير الرسمي أو "الموازي"، حيث لا تحرر أقسام الشرطة محاضر للمواطنين إلا بالوساطة، ولا تجري عمليات التحري لكشف السرقات وضبط المتهمين إلا من خلال المحسوبية والرشا والإكراميات، كل ذلك يتم على مرأى ومسمع من الجميع وداخل معظم إدارات ومديريات الأمن.
عدم تحريك إعلانات القضايا بالمحاكم "قلم المحضرين" وغيرها من تسلسل أعمال التقاضي، حيث يجري النظر في ثلاثة ملايين قضية سنويا أمام المحاكم المختلفة، إلا بعد دفع الرشا والإكراميات.
عدم تقديم الخدمة المناسبة في المستشفيات العامة والحكومية، والتي يتردد عليها حوالي 47 مليون مريض وفقا لتقرير وزارة الصحة عام 2006، إلا من خلال الإكراميات والوساطة، وحسب الحالة الصحية وخطورة المرض.
الرشا والإكرامات التي تدفع أثناء إنهاء المعاملات في المصالح الجمركية والضرائبية والخدمات الجماهيرية الأخرى، حيث تقدم الإدارات الحكومية حوالي 627 خدمة متنوعة للجمهور، خاصة في المحليات، ولا سيما أثناء منح تراخيص البناء أو رخص النشاط أو تعلية الأدوار في المساكن.. إلخ.
هذه الرشا وتلك الإكراميات يتعاطاها كثير من الموظفين الحكوميين بسبب تدني الأجور والمرتبات، فيأخذونها مجبرين حماية لأبنائهم وأسرهم من العوز والجوع. وإذا كان رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وأحد أقطاب الحزب الوطني الحاكم النائب زكريا عزمي قد اعترف علنا وداخل جلسة مصورة لمجلس الشعب بأن الفساد وصل "للركب" (كناية عن الكثرة) في المحليات، فإن الحقيقة هي أن الفساد قد وصل إلى الأعناق.
رابعا: آليات الإفساد
رغم أن الفساد كان موجودا في مصر قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 وبعدها، فإن الجديد منذ العام 1974، وفي عهد الرئيس حسني مبارك تحديدا هو تحول الفساد من مجرد انحرافات شخصية آخذة في الاتساع إلى بنية مؤسسية متكاملة من خلال مجموعة من الآليات هي:
الآلية الأولى: إيجاد سياسات تتيح المجال لعاملين في بعض مؤسسات الدولة ممارسة الفساد.
الآلية الثانية: وجود قواعد عرفية بين "جماعات الفساد" والمنخرطين فيها تلزم أعضاءها بالتزامات متبادلة ومناطق نفوذ متعارف عليها بينهم.
الآلية الثالثة: وجود خطوط اتصالات دائمة وواضحة بين هذه الجماعات وبعض شاغلي قمة الهرم السياسي والتنفيذي مباشرة أو عبر أقربائهم وأبنائهم، وجميعه يجري تحت لافتة "تشجيع الاستثمار".
الآلية الرابعة: استمرار سياسات الإفقار للطبقات محدودة الدخل، خاصة الموظفين (5.5 ملايين موظف) والعمال وغيرهم، بما يدفع الجميع إلى تعاطي "الإكراميات"، وهي النظير القانوني لمفهوم "الرشوة".
الآلية الخامسة: إفساد بعض أجهزة الرقابة بتوريط بعض قياداتها وكوادرها الوسيطة في ممارسات فساد، كما يظهر على سبيل المثال في بعض المؤسسات الصحفية.
الآلية السادسة: وسائل صياغة القوانين والقرارات الإدارية، وهو ما يسمى في الفقه القانوني القوانين المشرعة والقوانين غير المشرعة، بحيث تفتح ثغرة واسعة للفساد المحمي من الدولة خاصة في القوانين الاقتصادية والضريبية وغيرها.
الآلية السابعة: آلية التحايل القانوني عبر ما يسمى "الصناديق الخاصة" و"الوحدات ذات الطابع الخاص" خارج نطاق الميزانية الحكومية الرسمية، التي زاد عددها المعروف بنهاية العام 2008 على 8900 صندوق ووحدة، وتقوم هذه الصناديق وتلك الوحدات بفرض رسوم على المواطنين وتوزيع مكافآت على العاملين فيها، يأخذ نصيب الأسد منها كبار المسؤولين، بما يشكل شبكة واسعة من الفساد والإفساد. فكيف حدث هذا؟
هذه بعض الأمثلة للكيفية التي يتسلل منها الفساد:
(1) آليات إفساد المؤسسة التشريعية:
تبدأ عمليات الإفساد هنا في مرحلة مبكرة، ربما قبل "الانتخاب" الصوري لهؤلاء الأعضاء، وهي تتم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تتمثل في طريقة اختيار قوائم الحزب الحاكم، حيث تحدد معايير الاختيار بصورة يمتزج فيها كل السيئات، مثل أن يكون المرشح للقائمة الرسمية للحزب من المقربين إلى قيادات الحكم أو الحزب، أي غلبة الطابع الشخصي لا الكفاءة الموضوعية في الاختيار. أو أن يكون من كبار "المتبرعين" للحزب أو بعض قياداته المؤثرة، بصرف النظر عن ماضيه غير المشرف أو الإجرامي أو حتى المشبوه مثل تجار المخدرات والمتهربين من الخدمة العسكرية أو المشهورين بأعمال البلطجة .. إلخ. أو أن يكون من قيادات أجهزة الأمن، أو من المتعاملين معها.
المرحلة الثانية: التدخل الإداري والبوليسي المباشر في عملية التصويت والفرز، سواء عبر التلاعب في الجداول الانتخابية أو أثناء التصويت بما يؤكد مفهوما واحدا أمام الجميع، وهو أن النجاح ودخول هذه المؤسسة التشريعية مرهون برضاء الحكومة والنظام وقياداته، ومن ثم فإن "ولاء" العضو يجب أن يكون لرئيس النظام ثم إلى الأمين العام للحزب ثم إلى أمين التنظيم، وليس هناك لدى أغلب المرشحين ولاء لقضايا عامة بل لأشخاص، ومؤخرا دخل على الخط الولاء لشخص نجل رئيس الجمهورية.
المرحلة الثالثة: بعد دخول الشخص إلى نادي "عضوية مجلس الشعب" أو الشورى، تتم المرحلة الثالثة التي تطول أحيانا بعض أعضاء الأحزاب الأخرى سواء كانوا من المعارضة أو المستقلين، وتتمثل في "إغداق" الخدمات على العضو ورعاية طلباته الشخصية ووساطته وشمولها بعين العطف والقبول، وفي حال تمرد هذا العضو على الحكومة والرئيس، كما هو حال عدد محدود جدا من شرفاء هذه المجالس، تبدأ عمليات الإنكار والعزل وتجاهل طلباته، أي خنقه سياسيا.
وتبدأ عمليات الترغيب وشراء الولاء بوسائل شتى، منها الموافقة على طلبات التعيين في الوظائف الهامة لأبنائهم وأقربائهم أو بعض أبناء دوائرهم في حدود معينة، وتمر عبر أذون من الحديد والإسمنت بأسعار "مريحة" يجري بيعها بأسعار السوق وحصول العضو على عدة آلاف من الجنيهات عن كل إذن، أو تصاريح الحج أو السفر في رحلات إلى الخارج مع الوفود البرلمانية، وكذا الحصول على قطع أراض في المناطق الساحلية وغيرها بأسعار رمزية أو شقق سكنية أو فيلات فاخرة بأسعار زهيدة في بعض القرى السياحية أو الشواطئ.. إلخ.
ويدخل في باب إفساد المؤسسة التشريعية تلك القرارات الجمهورية التي تتخذ بين الحين والآخر لتعديل هذه المادة أو تلك لتحقيق مصالح خاصة بفئة أو شريحة معينة داخل البرلمان. فعلى سبيل المثال تنص المادة (95) من الدستور المصري الراهن على أنه "لا يجوز لعضو مجلس الشعب أثناء مدة عضويته أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقاضيها عليه أو أن يبرم مع الدولة عقدا بوصفه ملتزما أو موردا أو مقاولا".
والسؤال هل احترمت الحكومة والنظام الحاكم هذا النص الدستوري؟ الإجابة للأسف بالنفي، فقد تدخل الرئيس أنور السادات لتعديل هذا النص ونصوص كثيرة مماثلة واردة في قانون مجلس الشعب رقم (38) لسنة 1972، فقام بإصدار القرار الجمهوري بقانون رقم (109) لسنة 1976، وأدخل عليه تعديلات عديدة على المواد (28) و(30) و(34 مكرر 1 و2 و3) التف بها على هذا النص، حيث نصت المادة (28) من القرار الجمهوري المذكور بأنه "لا يجوز أن يعين عضو مجلس الشعب في وظائف الحكومة أو القطاع العام وما في حكمها أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته، ويبطل أي تعيين على خلاف ذلك، إلا إذا كان التعيين نتيجة ترقية أو نقل من جهة إلى أخرى أو كان بحكم قضائي أو بناء على قانون".
لقد فتح تعبير "إلا إذا" عمل الشيطان كما يقولون، وهي الصيغة التي استغلتها الحكومة، وتحديدا إبان رئاسة الدكتور عاطف عبيد لمجلس الوزراء سابقا، من أجل إفساد العشرات من أعضاء مجلس الشعب، وذلك بتعيينهم أعضاء مجالس إدارة منتدبين في شركات قطاع الأعمال العام الذي كان يجري تفتته وبيعه ومشاركتهم في مأدبة البيع والتصفية.
أما المادة (30) المضافة بالقرار الجمهوري فقد نصت على أن "يستخرج لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب اشتراك للسفر بالدرجة الأولى الممتازة بسكك حديد جمهورية مصر العربية أو إحدى وسائل المواصلات العامة الأخرى أو الطائرات من الجهة التي يختارها في دائرته الانتخابية إلى القاهرة. وتبين لائحة المجلس التسهيلات الأخرى التي يقدمها المجلس لأعضائه لتمكينهم من مباشرة مسؤولياتهم.. إلخ".
وهذه الفقرة التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة وبريئة في شكلها أدخلت ثغرة إبليس إلى المجلس وأعضائه، إذ تسابق رؤساء مجلس الشعب المتعاقبون على توسيع نطاق المزايا والتسهيلات حتى تحولت إلى فساد في فساد.
أما المادة (34 مكرر، مكرر 1 ومكرر 2 ومكرر3 ومكرر 4) فقد شملت طيفا واسعا من الفساد والإفساد، ورسخت من هيمنة رئيس الجمهورية على أعضاء مجلس الشعب، فتحولوا إلى مجرد موظفين في رئاسة الجمهورية.
كما هو الحال مثلا في نص المادة (34 مكرر) التي تقول "يجوز إنشاء وظائف وكلاء وزارات لشؤون مجلس الشعب، ويعين وكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب من بين أعضاء هذا المجلس بقرار من رئيس الجمهورية، ويتضمن قرار التعيين إلحاقه بمجلس الوزراء أو بأحد القطاعات الوزارية أو بوزارة معينة أو أكثر.. إلخ". أي أن رئيس الجمهورية قد امتلك ميزة منح العطايا لهذا العضو أو ذاك، أو منعها عن هذا العضو أو ذاك، والمدهش في الأمر أن أعضاء المجلس قد فرحوا بهذه الغنيمة، دون أن يفكروا للحظة واحدة في مضامينها السياسية وهيمنة السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية تحديدا على أعمالهم ونشاطهم الرقابي.
والأخطر من ذلك ما نصت عليه الفقرة الثالثة من هذه المادة، حيث جاء فيها "كما لا يجوز لوكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب أثناء توليه منصبه أن يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا أو أن يشغل أي وظيفة أخرى أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه". وهكذا، وطبقا للقاعدة القانونية الشهيرة بأن الخاص يقيد العام، حصر المشرع عملية حظر مزاولة مهنة حرة أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة .. إلخ في وكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب وتركها طليقة من كل قيد لبقية الأعضاء.
قد يرد البعض بأن هذا لا يسري في حال اختلاف المراتب القانونية للنص، نص دستوري مقابل قرار جمهوري بقانون، بيد أن الواقع الفعلي وممارسة غالبية أعضاء البرلمان تشير إلى أن هؤلاء قد وجدوا في مثل هذه الثغرة "الشيطانية" غطاء قانونيا للممارسات المخالفة والخرق الدستوري الوارد في المادة (95) السابق الإشارة إليها، وهذا ما يفسر قولنا إن الفساد تحول من مجرد انحرافات شخصية إلى مفهوم "المأسسة" institutionalism، أي إيجاد غطاء من نص "قانوني" سواء في لائحة أو قرار جمهوري.
(2) آليات إفساد أعضاء المؤسسة القضائية
ظلت الهيئة القضائية المصرية عصية على الكسر أو الاحتواء لسنوات طويلة، سواء قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 أو بعدها. وقد حاول الرئيس السادات الحفاظ على علاقة ودية مع السلطة القضائية المصرية في سنوات حكمه الأولى، حتى وقعت أحداث انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977، واكتشف الرجل بحاسته السياسية أن الهيئة القضائية المصرية لا تساير النظام في توجهاته نحو توقيع أقصى العقوبات على المتهمين في هذه القضية، وجاءت أحكام محكمة أمن الدولة العليا في القضية رقم 100 لسنة 1977 بمثابة لطمة قاسية وجهت إلى النظام، حيث جاءت حيثيات الحكم مؤكدة على مسؤولية الحكومة وقراراتها الاقتصادية في اندلاع أحداث الانتفاضة. وبعدها اتبعت رئاسة الجمهورية والحكومة مجموعة من السياسات الجديدة بهدف اختراق المؤسسة القضائية واحتوائها، وقد تمثلت هذه السياسات الحكومية في أربعة أساليب متكاملة، وهي:
الأسلوب الأول: بدءا من العام 1979 جرى السماح لأول مرة في تاريخ القضاء بالتحاق ضباط الشرطة بمختلف درجاتهم ورتبهم دون رتبة المقدم بسلك النيابة العامة، وهي كما هو معروف أولى مراحل السلك القضائي، وقد أدت هذه السياسة المستمرة لربع قرن إلى انضمام نحو 3000 ضابط شرطة ومباحث إلى سلك القضاء بما أصبح عددهم يعادل ربع العاملين في هذه المؤسسة العريقة التي تميزت بالعقل القانوني المدني، فإذا بها الآن تطعم أو تخترق بعقل قانوني ذي طابع عسكري وشرطي، مارس الكثيرون منهم وسائل الضرب وامتهان كرامة المواطنين، فكيف لهؤلاء أن يعتدل ميزان العدل بين أيديهم؟
الأسلوب الثاني: مع تزايد أعداد خريجي كليات الحقوق سنويا، ورغبة الكثيرين منهم في الالتحاق بسلك القضاء "النيابة العامة"، أو حتى الهيئات القضائية الأخرى، مثل مجلس الدولة أو النيابة الإدارية، فإن إغراق المؤسسة القضائية وتوريط بعض أعضائها في ممارسات غير قانونية وغير أخلاقية من نوع الوساطة والمحسوبية في تعيين أبنائهم وأقربائهم في سلك النيابة العامة، وفي المقابل إهدار حقوق بعض المتقدمين في المسابقات الذين هم أكثر جدارة وكفاءة.
بل ولجوء بعض أعضاء الهيئات القضائية إلى دفع "تبرعات" دون أن نقول رشا لذوي النفوذ في الحكومة والحزب الحاكم أو التنازل والقبول بعلاقة من نوع ما مع الحكومة وبعض قياداتها، كل هذا كان بمثابة مساس بهيبة القضاة وأخلاقية هذه المؤسسة العريقة.
كما أن تورط بعض رجال القضاء في ممارسات الوساطة والمحسوبية والتمييز بين المتقدمين في المسابقات على أساس القرابة أو صلات الدم هو تلويث مباشر لهؤلاء بما يسمح في المستقبل بابتزازهم من النظام الحاكم، سواء في قضايا تمس تلك القيادات، أو رغبة الحكومة في توجيه بعض الأحكام القضائية بما يخدم مصالحها السياسية.
الأسلوب الثالث: يتمثل في تهرب حكومات الرئيس مبارك المتعاقبة من إصدار قانون بتعديلات السلطة القضائية التي أعدها القضاة منذ مؤتمر العدالة الأول عام 1986، بما يحفظ للقضاء المصري استقلاله ويصون كرامته. وهذا التهرب الحكومي الذي استمر زهاء ربع قرن كامل هو موقف سياسي تمليه رغبة نظام الرئيس مبارك في الاستحواذ على أوراق التأثير المباشر أو غير المباشر على أعضاء الهيئة القضائية المصرية.
الأسلوب الرابع: ويتمثل في سياسات إعارة وندب القضاة مستشارين للوزارات والهيئات والمصالح الحكومية، التي جعلتهم مجرد خبراء تحت طلب السلطة التنفيذية، خاصة لدى الوزراء، مع إغداق مكافآت كبيرة شهريا على القضاة المنتدبين، مما جعل من الصعب تخليهم عن هذه الوظائف الثانوية التي تحولت رويدا رويدا إلى ركيزة لضمان مستوى معيشة القاضي، وكذلك سياسات الإعارة الخارجية أو الداخلية.
والحقيقة أنه رغم كل تلك الجهود والمحاولات والسياسات الحكومية التي اتبعت من أجل احتواء السلطة القضائية والسيطرة على أعضائها، فإن الميراث العريق لهذه الهيئة وطبيعة التركيبة القانونية لعقلها المهني قد حال دون نجاح مجمل هذه السياسات الحكومية، فظل التيار الرئيسي للهيئة القضائية المصرية نظيفا ومستقلا، وهو ما يظهر جليا في الأسابيع الحافلة والساخنة طوال الفترة من مايو/أيار إلى سبتمبر/أيلول 2005 فيما سمي "انتفاضة القضاة" أو حركة 14 مارس التي قادها قضاة نادي قضاة الإسكندرية، ثم نادي قضاة مصر بالقاهرة، واستجمعت حولها أكثر من 4000 قاض من أجل المطالبة بإصدار قانون "استقلال القضاء" وتمكين القضاة من الإشراف الحقيقي والكامل على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة وغيرها من مطالب الإصلاح القانوني التي تصب في مجرى المطالب الشعبية الواسعة للإصلاح السياسي والديمقراطي في البلاد.
خامسا: النتائج والتداعيات
والآن ما الحجم التقديري للاقتصاد الخفي والأموال السوداء في الاقتصاد المصري في ربع القرن الماضي؟
تقدر الأحجام الكلية لأموال وتدفقات الاقتصاد الخفي والأموال السوداء بما يتراوح بين 57 مليار جنيه و70 مليار جنيه سنويا في العقد الماضي وحده، وهذا يكاد يعادل 20% إلى 25% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي الرسمي في نفس الفترة، وهذا التقدير يقل إلى حد ما عن التقدير الذي توصل إليه عالم الاقتصاد النمساوي "شنيدر" في دراسته عام 1998 وشملت مصر، حيث قدره بنحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي، بيد أن إدخالنا لعمليات تهريب الأموال من داخل مصر إلى خارجها التي زادت سرعتها وأحجامها في السنوات العشر الأخيرة -خاصة في عهد تولي عاطف عبيد مسؤولية رئاسة الوزراء- وقدرتها بعض المصادر المصرفية والاقتصادية المصرية بنحو ثلاثة مليارات دولار سنويا (أي ما يعادل 30 مليار دولار في السنوات العشر الأخيرة) فإننا نكون بصدد حركة أموال سوداء تقارب 35% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالإجمال فإننا نكون إزاء ما يقارب 500 مليار جنيه مصري جرت من خلف ظهر الحسابات القومية ومصفوفة تدفقات الدخل القومي الرسمية في السنوات العشر الماضية أو الـ15 عاما على أكثر تقدير، وهي كلها أموال لا تسدد ضرائب عنها، علاوة على ما ألحقته من أضرار على نمط توزيع الدخول واستشراء "ثقافة الفساد" لدى جميع قطاعات السكان في البلاد. إنها باختصار كارثة اجتماعية وأخلاقية دون زيادة أو نقصان.
__________
عبد الخالق فاروق، خبير اقتصادي ومتخصص في قضايا الفساد.
كيف تحول الفساد إلى بنية مؤسسية متكاملة في مصر؟
رسم توضيحي لمؤسسة الفساد في مصر من إعداد المؤلف
عبد الخالق فاروق
عندما تثار قضية الفساد في مصر أو في غيرها من البلاد ينقسم الرأي العام عادة بين تيارين رئيسيين، يعبر كل منهما عن رؤية أحيانا أو عن مصالح مختلفة أحيانا أخرى، فأغلبية الرأي العام الساحقة التي تعاني من تدهور مستويات معيشتها تشكل مظاهر الفساد المتفشية تحديا لمشاعرها، واستفزازا لوجدانها، وهي بهذا تنظر إلى هذه الممارسات الفاسدة باعتبارها جرائم اقتصادية وأخلاقية قبل أن تتوقف عند مضامينها السياسية والثقافية.
أما التيار الثاني -والذي يمثله رجال المال والأعمال ودوائر رسم وصنع السياسات والقرارات وبعض الدوائر الإعلامية والصحفية المرتبطة بهم– فتروج لمفهوم مختلف ينطلق من مقولة أن "الفساد موجود في كل الدنيا"، وأن هذه الممارسات الفاسدة هي "جزء من اقتصاد الدول الحديثة"، أو أن هذه الممارسات "ذات طبيعة فردية وشخصية"، وأنها "الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة العامة التي هي سليمة وصحيحة".
وإذا كان الأمر كذلك فقد يكون من المستحسن أن نبدأ هذه الدراسة بتعريف الفساد، ثم بعد ذلك نشرح وسائله وآلياته وكيفية تغلغله في مؤسسات الدولة وبنية النظام الحاكم.
أولا: المفاهيم .. الآليات .. النتائج
ثانيا: أشكال الفساد وأنواعه
ثالثا: مجالات وقطاعات الفساد
رابعا: آليات الإفساد
خامسا: النتائج والتداعيات
أولا: المفاهيم .. الآليات .. النتائج
الفساد:
عندما زادت ممارسات الفساد في كثير من دول العالم، خاصة منذ منتصف السبعينيات في الدول النامية، تجمع عدد من الخبراء الاقتصاديين ورجال القانون الدوليين، وفي طليعتهم المحامي النيوزيلاندي "جيرمي بوب" والألماني "بيتر إيغين" وقاموا -وبتمويل من مؤسسة فورد الأميركية- بتأسيس ما سمي "منظمة الشفافية الدولية" عام 1994.
وحاول هؤلاء على مدار خمسة أعوام صياغة موقف دولي صادر من منظمات المجتمع المدني الدولي تجاه هذه الظاهرة التي باتت تدمر أسس التنافس الحر المبني على وضع المعايير وشفافيتها.
وقد عرفت منظمة الشفافية الدولية في بداية عهدها الفساد بأنه "سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة". بيد أن هذا التعريف لم يكن شاملا أو جامعا، لذا عادت المنظمة في وقت متأخر، وتحت تأثير اجتهادات عدد من الباحثين، مثل "سوزان روز أكرمان" Suzan rose-Ackerman – لتعرف الفساد بأنه "السلوك الذي يمارسه المسؤولون في القطاع العام أو القطاع الحكومي، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية ومن خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم".
أما قانون العقوبات الفرنسي فقد ميز بين ما أسماه "الفساد النشط" و"الفساد السلبي"، فعرف الأول بأنه "سعي الموظف الحكومي بنشاط من أجل الحصول على هدية أو منفعة أو رشوة قبل تقديمه الخدمة أو منح العقد"، أما الفساد السلبي فقد عرفه بأنه "قبول المسؤول لهدية أو مكافأة أخرى بعد منح العقد أو تقديم الخدمة".
وفي قانون العقوبات المصري نصت المادة (103 مكرر) على تعريف المرتشي بأنه "كل موظف عمومي يطلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه".
لكن تطور الحياة الاقتصادية في مصر، وفي غيرها من الدول والمجتمعات منذ منتصف السبعينيات قد أوجد أشكالا جديدة وعديدة للفساد، فلم تعد الرشوة أو الاختلاس هما مظاهرها الوحيدة، بل هناك عشرات السلوكيات والممارسات التي تندرج في توصيف الفساد بالمعنى القانوني والأخلاقي للكلمة.
وعلى صعيد النظرية الاقتصادية، انشغل العقل الاقتصادي بقضية الفساد، واحتلت جانبا من النظرية الاقتصادية الحديثة، وكذا في الدراسات الاقتصادية التطبيقية، وكان من نتائج هذا الاهتمام ما يسمى في النظرية الاقتصادية بـ"الاقتصاد الخفي" hidden economy أو "الاقتصاد الأسود "black economy، وتعني تلك الأنشطة المالية أو الاقتصادية التي تجري في الخفاء وتخالف القوانين المعمول بها، وعادة لا تجد طريقة ما لتسجيلها في سجلات الحسابات القومية national accounts، ومن ثم هي لا تتضمن داخل مصفوفة الدخل القومي الرسمي national income matrix رغم أهميتها وثقلها في صيرورة التدفقات المالية والنقدية في البلاد.
كما برزت على ضفاف هذا الإطار النظري الجديد مفاهيم إضافية مثل "دخول الظل" shadow income، التي تتمثل في الدخول النقدية التي يحصل عليها بعض الأفراد أو الجماعات -وغالبيتهم من الموظفين في المصالح الحكومية- بصورة غير قانونية مثل الدروس الخصوصية أو الأعمال الموازية أثناء وقت العمل الرسمي –مثل قيادة سيارات الأجرة (التاكسي) أو أنشطة تجارية أو غيرها- ويندرج فيها أيضا الحصول على الإكراميات والرشا نظير أداء أعمالهم أو التبرع للقيام بهذه الأعمال.. إلخ. وبسبب ضعف الأجور والرواتب الناجم عن السياسات الحكومية في هذا المجال، إلى انتشار كثير من مظاهر الفساد (رشا) لإنهاء الأعمال في المصالح الحكومية.
وقد دفعت هذه الظواهر المتنامية بعض المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى دراسة هذه الظاهرة الاقتصادية والمالية. ففي العام 1998 أعد مجموعة خبراء بصندوق النقد الدولي I.M.F دراسة حول موضوع الاقتصاد الخفي على مستوى العالم، وقدرتها الدراسة بنحو 9 تريليونات دولار، أي ما يعادل 23% من الناتج المحلي العالمي الذي بلغ ذلك العام 39 تريليون دولار.
ثم توالى الاهتمام من الباحثين المرموقين في هذا الحقل المعرفي الجديد، وكان من أبرز هؤلاء عالم الاقتصاد النمساوي البارز "فردريك شنيدر" Frederick Schneider الأستاذ بجامعة "هانز كبلر"، الذي قام بدراسة اقتصاد 76 دولة على مستوى العالم، وتبين فيها أن نسبة ممارسة الاقتصاد الخفي تتراوح بين 15% و35% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، واللافت أن هناك ثلاث دول تجاوزت هذا المعدل الوسطي، وهي تايلند (73% ) ونيجيريا (70%) ومصر (65%)، وذلك عام 1998، بينما بلغت النسبة 8% في الولايات المتحدة و19% في كندا و35% في البرازيل و20% في الدانمارك.
ثانيا: أشكال الفساد وأنواعه
الحالة المصرية تكاد تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة -مهما اتسع وازداد عدد المنخرطين فيها في قمة هرم السلطة- إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة. وهنا نستطيع أن نميز في تحليل ظاهرة الفساد وحقائقه في مصر بين نوعين:
"
الحالة المصرية تكاد تكون نموذجية في دراسة كيفية تحول الفساد في مجتمع ما من حالات انحرافات فردية معزولة مهما اتسع وازداد عدد المنخرطين فيها في قمة هرم السلطة، إلى ممارسة مجتمعية شاملة بالمعنى الحقيقي لا المجازي للكلمة
"
الأول: ما نسميه "فساد الكبار" المتنفذين والمتربعين على قمة الهرم الاجتماعي والسياسي، سواء في الفرع التنفيذي (الحكومة) أو التشريعي (مجلس الشعب/البرلمان) أو الأمني، حيث شكلوا شبكات مصالح تتنازع فيما بينها أحيانا، وتتناغم في توزيع المزايا والغنائم أحيانا أخرى.
الثاني: ما نطلق عليه "فساد الصغار والفقراء"، حيث لم تعد ممارسات الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبية تقتصر أو تنحصر في "الكبار" وحدهم، بل إنها -وعبر سياسات الإفقار واتساع الفجوة في الدخول وارتفاع الأسعار المستمر وغياب "القدوة" في قمة هرم السلطة والمجتمع وتآكل دور أجهزة الرقابة- قد تسربت إلى ممارسات الناس العادية في قطاعات الخدمات الحكومية وغير الحكومية.
وتختلف الدول المتقدمة عن كثير من دول العالم الثالث في طريقة تعاملها مع ظواهر الفساد ورموزه ومدى سطوة القانون في إخضاع ممارسات الفساد للقصاص العادل، فبينما يطبق القانون في أقصى أشكاله على رموز الفساد ووقائعه في الدول المتقدمة (اليابان وأميركا وأوروبا.. إلخ)، فإننا على العكس في بلادنا نجد أن المفسدين والفاسدين هم الذين يصوغون القواعد القانونية عبر سيطرتهم المباشرة على أجهزة التشريع والتنفيذ، وأحيانا بعض أفرع الهيئات القضائية. كما يتبين من الشكل الذي يتصدر هذه الدراسة.
ثالثا: مجالات وقطاعات الفساد
تشير دراسة منظمة الشفافية الدولية المنشورة عام 2001 إلى حقيقة كون أكثر المجالات الحكومية عرضة للفساد في الدول النامية هي:
المشتريات الحكومية.
تقسيم وبيع الأراضي والعقارات.
نظم الجباية الضريبية والجمركية.
التعيينات الحكومية.
إدارات الحكم المحلي بالمحافظات.
بيد أن الحالة المصرية قد ضربت الأرقام القياسية، فاتسع نطاق ومجالات الفساد التي انغمس فيها بصورة شبة دائمة كبار رجال الدولة وأبناؤهم، مثل:
قطاع المقاولات وتخصيص الأراضي وشقق المدن الجديدة والطرق والكباري والبنية الأساسية.
عمولات التسلح ووسائل نقلها.
قطاع الاتصالات والهواتف المحمولة والثابتة.
خصخصة وبيع الشركات العامة ونظم تقييم الأصول والممتلكات والأراضي المملوكة لهذه الشركات.
البنوك ونظم الائتمان وتهريب الأموال إلى الخارج عبر القنوات المصرفية الرسمية.
شركات توظيف الأموال وما جرى فيها.
تجارة المخدرات واختراق قيادات الأجهزة الأمنية والمؤسسة السياسية.
تجارة العملات الأجنبية والمضاربة على سعر صرف الجنيه المصري.
تجارة الدعارة وشبكات البغاء.
نظم الاستيراد وأذون الاستيراد وبرامج الاستيراد السلعي.
طرق توزيع مشروعات المعونة الأميركية.
الصحافة ومؤسساتها، وإفساد الصحفيين عبر وسائل شتى، والإعفاء غير القانوني للمؤسسات الصحفية (القومية) من أداء الضرائب العامة، وتسهيل سبل الارتزاق السري وغير القانوني لبعض الصحفيين.
ما يسمى "علاوة الولاء" التي تمنح بصورة سرية وبالمخالفة لقواعد المشروعية المالية لكبار قيادات الجيش والأمن.
إفساد النظام التعليمي الرسمي والصمت على جريمة الدروس الخصوصية بل وخلق الظروف الملائمة لتفشيها.
إبقاء فساد النظام الصحي الحكومي من أجل إتاحة الفرص لتوسع المستشفيات الاستثمارية ذات الصلة ببعض المتنفذين.
المضاربات والتلاعب في البورصة وسوق الأوراق المالية وسوق التأمين.
"
ما يقارب 500 مليار جنيه مصري جرت من خلف ظهر الحسابات القومية ومصفوفة تدفقات الدخل القومي الرسمية في السنوات العشر الماضية أو الخمسة عشر عاما على أكثر تقدير، وهي كلها أموال لا تسدد ضرائب عنها، علاوة على ما ألحقته من أضرار على نمط توزيع الدخول واستشراء "ثقافة الفساد
"
هذه عينة من بعض القطاعات التي أفسدتها السياسات العامة، وسوف نتعرض لها تفصيلا بعد قليل.
أما مجالات الفساد لدى صغار المواطنين ومحدودي الدخل فتتنوع بدورها، بحيث أصبحت تشكل تيارا عريضا من الممارسات وجزءا أساسيا مما يسمى "الاقتصاد الخفي" hidden economy أو دخول الظل shadow income أو الاقتصاد الموازي، وتشمل الأنشطة التالية:
العمل على إبقاء النظام التعليمي الحكومي غير فعال لصالح نظام تعليمي غير رسمي أو السوق التعليمية السوداء black educational market، سواء في صورة الدروس الخصوصية أو انتشار المدارس الخاصة والاستثمارية والأجنبية وأخيرا ما يسمى "مدارس التميز"، وقد بلغ حجم الأموال المنفقة على الدروس الخصوصية وحدها -وفقا لتقرير مجلس الشورى المصري عام 1994– حوالي 10 مليارات جنيه تحملتها الأسر المصرية الفقيرة، وقد بلغت عام (2004) حوالي 18 مليار جنيه خاصة بعد تقسيم مرحلة الثانوية العامة إلى سنتين دراسيتين بدلا من عام دراسي واحد.
عدم فاعلية نظام الأمن الرسمي لصالح نمو وتفشي نظام الأمن غير الرسمي أو "الموازي"، حيث لا تحرر أقسام الشرطة محاضر للمواطنين إلا بالوساطة، ولا تجري عمليات التحري لكشف السرقات وضبط المتهمين إلا من خلال المحسوبية والرشا والإكراميات، كل ذلك يتم على مرأى ومسمع من الجميع وداخل معظم إدارات ومديريات الأمن.
عدم تحريك إعلانات القضايا بالمحاكم "قلم المحضرين" وغيرها من تسلسل أعمال التقاضي، حيث يجري النظر في ثلاثة ملايين قضية سنويا أمام المحاكم المختلفة، إلا بعد دفع الرشا والإكراميات.
عدم تقديم الخدمة المناسبة في المستشفيات العامة والحكومية، والتي يتردد عليها حوالي 47 مليون مريض وفقا لتقرير وزارة الصحة عام 2006، إلا من خلال الإكراميات والوساطة، وحسب الحالة الصحية وخطورة المرض.
الرشا والإكرامات التي تدفع أثناء إنهاء المعاملات في المصالح الجمركية والضرائبية والخدمات الجماهيرية الأخرى، حيث تقدم الإدارات الحكومية حوالي 627 خدمة متنوعة للجمهور، خاصة في المحليات، ولا سيما أثناء منح تراخيص البناء أو رخص النشاط أو تعلية الأدوار في المساكن.. إلخ.
هذه الرشا وتلك الإكراميات يتعاطاها كثير من الموظفين الحكوميين بسبب تدني الأجور والمرتبات، فيأخذونها مجبرين حماية لأبنائهم وأسرهم من العوز والجوع. وإذا كان رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وأحد أقطاب الحزب الوطني الحاكم النائب زكريا عزمي قد اعترف علنا وداخل جلسة مصورة لمجلس الشعب بأن الفساد وصل "للركب" (كناية عن الكثرة) في المحليات، فإن الحقيقة هي أن الفساد قد وصل إلى الأعناق.
رابعا: آليات الإفساد
رغم أن الفساد كان موجودا في مصر قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 وبعدها، فإن الجديد منذ العام 1974، وفي عهد الرئيس حسني مبارك تحديدا هو تحول الفساد من مجرد انحرافات شخصية آخذة في الاتساع إلى بنية مؤسسية متكاملة من خلال مجموعة من الآليات هي:
الآلية الأولى: إيجاد سياسات تتيح المجال لعاملين في بعض مؤسسات الدولة ممارسة الفساد.
الآلية الثانية: وجود قواعد عرفية بين "جماعات الفساد" والمنخرطين فيها تلزم أعضاءها بالتزامات متبادلة ومناطق نفوذ متعارف عليها بينهم.
الآلية الثالثة: وجود خطوط اتصالات دائمة وواضحة بين هذه الجماعات وبعض شاغلي قمة الهرم السياسي والتنفيذي مباشرة أو عبر أقربائهم وأبنائهم، وجميعه يجري تحت لافتة "تشجيع الاستثمار".
الآلية الرابعة: استمرار سياسات الإفقار للطبقات محدودة الدخل، خاصة الموظفين (5.5 ملايين موظف) والعمال وغيرهم، بما يدفع الجميع إلى تعاطي "الإكراميات"، وهي النظير القانوني لمفهوم "الرشوة".
الآلية الخامسة: إفساد بعض أجهزة الرقابة بتوريط بعض قياداتها وكوادرها الوسيطة في ممارسات فساد، كما يظهر على سبيل المثال في بعض المؤسسات الصحفية.
الآلية السادسة: وسائل صياغة القوانين والقرارات الإدارية، وهو ما يسمى في الفقه القانوني القوانين المشرعة والقوانين غير المشرعة، بحيث تفتح ثغرة واسعة للفساد المحمي من الدولة خاصة في القوانين الاقتصادية والضريبية وغيرها.
الآلية السابعة: آلية التحايل القانوني عبر ما يسمى "الصناديق الخاصة" و"الوحدات ذات الطابع الخاص" خارج نطاق الميزانية الحكومية الرسمية، التي زاد عددها المعروف بنهاية العام 2008 على 8900 صندوق ووحدة، وتقوم هذه الصناديق وتلك الوحدات بفرض رسوم على المواطنين وتوزيع مكافآت على العاملين فيها، يأخذ نصيب الأسد منها كبار المسؤولين، بما يشكل شبكة واسعة من الفساد والإفساد. فكيف حدث هذا؟
هذه بعض الأمثلة للكيفية التي يتسلل منها الفساد:
(1) آليات إفساد المؤسسة التشريعية:
تبدأ عمليات الإفساد هنا في مرحلة مبكرة، ربما قبل "الانتخاب" الصوري لهؤلاء الأعضاء، وهي تتم على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تتمثل في طريقة اختيار قوائم الحزب الحاكم، حيث تحدد معايير الاختيار بصورة يمتزج فيها كل السيئات، مثل أن يكون المرشح للقائمة الرسمية للحزب من المقربين إلى قيادات الحكم أو الحزب، أي غلبة الطابع الشخصي لا الكفاءة الموضوعية في الاختيار. أو أن يكون من كبار "المتبرعين" للحزب أو بعض قياداته المؤثرة، بصرف النظر عن ماضيه غير المشرف أو الإجرامي أو حتى المشبوه مثل تجار المخدرات والمتهربين من الخدمة العسكرية أو المشهورين بأعمال البلطجة .. إلخ. أو أن يكون من قيادات أجهزة الأمن، أو من المتعاملين معها.
المرحلة الثانية: التدخل الإداري والبوليسي المباشر في عملية التصويت والفرز، سواء عبر التلاعب في الجداول الانتخابية أو أثناء التصويت بما يؤكد مفهوما واحدا أمام الجميع، وهو أن النجاح ودخول هذه المؤسسة التشريعية مرهون برضاء الحكومة والنظام وقياداته، ومن ثم فإن "ولاء" العضو يجب أن يكون لرئيس النظام ثم إلى الأمين العام للحزب ثم إلى أمين التنظيم، وليس هناك لدى أغلب المرشحين ولاء لقضايا عامة بل لأشخاص، ومؤخرا دخل على الخط الولاء لشخص نجل رئيس الجمهورية.
المرحلة الثالثة: بعد دخول الشخص إلى نادي "عضوية مجلس الشعب" أو الشورى، تتم المرحلة الثالثة التي تطول أحيانا بعض أعضاء الأحزاب الأخرى سواء كانوا من المعارضة أو المستقلين، وتتمثل في "إغداق" الخدمات على العضو ورعاية طلباته الشخصية ووساطته وشمولها بعين العطف والقبول، وفي حال تمرد هذا العضو على الحكومة والرئيس، كما هو حال عدد محدود جدا من شرفاء هذه المجالس، تبدأ عمليات الإنكار والعزل وتجاهل طلباته، أي خنقه سياسيا.
وتبدأ عمليات الترغيب وشراء الولاء بوسائل شتى، منها الموافقة على طلبات التعيين في الوظائف الهامة لأبنائهم وأقربائهم أو بعض أبناء دوائرهم في حدود معينة، وتمر عبر أذون من الحديد والإسمنت بأسعار "مريحة" يجري بيعها بأسعار السوق وحصول العضو على عدة آلاف من الجنيهات عن كل إذن، أو تصاريح الحج أو السفر في رحلات إلى الخارج مع الوفود البرلمانية، وكذا الحصول على قطع أراض في المناطق الساحلية وغيرها بأسعار رمزية أو شقق سكنية أو فيلات فاخرة بأسعار زهيدة في بعض القرى السياحية أو الشواطئ.. إلخ.
ويدخل في باب إفساد المؤسسة التشريعية تلك القرارات الجمهورية التي تتخذ بين الحين والآخر لتعديل هذه المادة أو تلك لتحقيق مصالح خاصة بفئة أو شريحة معينة داخل البرلمان. فعلى سبيل المثال تنص المادة (95) من الدستور المصري الراهن على أنه "لا يجوز لعضو مجلس الشعب أثناء مدة عضويته أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقاضيها عليه أو أن يبرم مع الدولة عقدا بوصفه ملتزما أو موردا أو مقاولا".
والسؤال هل احترمت الحكومة والنظام الحاكم هذا النص الدستوري؟ الإجابة للأسف بالنفي، فقد تدخل الرئيس أنور السادات لتعديل هذا النص ونصوص كثيرة مماثلة واردة في قانون مجلس الشعب رقم (38) لسنة 1972، فقام بإصدار القرار الجمهوري بقانون رقم (109) لسنة 1976، وأدخل عليه تعديلات عديدة على المواد (28) و(30) و(34 مكرر 1 و2 و3) التف بها على هذا النص، حيث نصت المادة (28) من القرار الجمهوري المذكور بأنه "لا يجوز أن يعين عضو مجلس الشعب في وظائف الحكومة أو القطاع العام وما في حكمها أو الشركات الأجنبية أثناء مدة عضويته، ويبطل أي تعيين على خلاف ذلك، إلا إذا كان التعيين نتيجة ترقية أو نقل من جهة إلى أخرى أو كان بحكم قضائي أو بناء على قانون".
لقد فتح تعبير "إلا إذا" عمل الشيطان كما يقولون، وهي الصيغة التي استغلتها الحكومة، وتحديدا إبان رئاسة الدكتور عاطف عبيد لمجلس الوزراء سابقا، من أجل إفساد العشرات من أعضاء مجلس الشعب، وذلك بتعيينهم أعضاء مجالس إدارة منتدبين في شركات قطاع الأعمال العام الذي كان يجري تفتته وبيعه ومشاركتهم في مأدبة البيع والتصفية.
أما المادة (30) المضافة بالقرار الجمهوري فقد نصت على أن "يستخرج لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب اشتراك للسفر بالدرجة الأولى الممتازة بسكك حديد جمهورية مصر العربية أو إحدى وسائل المواصلات العامة الأخرى أو الطائرات من الجهة التي يختارها في دائرته الانتخابية إلى القاهرة. وتبين لائحة المجلس التسهيلات الأخرى التي يقدمها المجلس لأعضائه لتمكينهم من مباشرة مسؤولياتهم.. إلخ".
وهذه الفقرة التي تبدو للوهلة الأولى بسيطة وبريئة في شكلها أدخلت ثغرة إبليس إلى المجلس وأعضائه، إذ تسابق رؤساء مجلس الشعب المتعاقبون على توسيع نطاق المزايا والتسهيلات حتى تحولت إلى فساد في فساد.
أما المادة (34 مكرر، مكرر 1 ومكرر 2 ومكرر3 ومكرر 4) فقد شملت طيفا واسعا من الفساد والإفساد، ورسخت من هيمنة رئيس الجمهورية على أعضاء مجلس الشعب، فتحولوا إلى مجرد موظفين في رئاسة الجمهورية.
كما هو الحال مثلا في نص المادة (34 مكرر) التي تقول "يجوز إنشاء وظائف وكلاء وزارات لشؤون مجلس الشعب، ويعين وكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب من بين أعضاء هذا المجلس بقرار من رئيس الجمهورية، ويتضمن قرار التعيين إلحاقه بمجلس الوزراء أو بأحد القطاعات الوزارية أو بوزارة معينة أو أكثر.. إلخ". أي أن رئيس الجمهورية قد امتلك ميزة منح العطايا لهذا العضو أو ذاك، أو منعها عن هذا العضو أو ذاك، والمدهش في الأمر أن أعضاء المجلس قد فرحوا بهذه الغنيمة، دون أن يفكروا للحظة واحدة في مضامينها السياسية وهيمنة السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية تحديدا على أعمالهم ونشاطهم الرقابي.
والأخطر من ذلك ما نصت عليه الفقرة الثالثة من هذه المادة، حيث جاء فيها "كما لا يجوز لوكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب أثناء توليه منصبه أن يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا أو أن يشغل أي وظيفة أخرى أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه". وهكذا، وطبقا للقاعدة القانونية الشهيرة بأن الخاص يقيد العام، حصر المشرع عملية حظر مزاولة مهنة حرة أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة .. إلخ في وكيل الوزارة لشؤون مجلس الشعب وتركها طليقة من كل قيد لبقية الأعضاء.
قد يرد البعض بأن هذا لا يسري في حال اختلاف المراتب القانونية للنص، نص دستوري مقابل قرار جمهوري بقانون، بيد أن الواقع الفعلي وممارسة غالبية أعضاء البرلمان تشير إلى أن هؤلاء قد وجدوا في مثل هذه الثغرة "الشيطانية" غطاء قانونيا للممارسات المخالفة والخرق الدستوري الوارد في المادة (95) السابق الإشارة إليها، وهذا ما يفسر قولنا إن الفساد تحول من مجرد انحرافات شخصية إلى مفهوم "المأسسة" institutionalism، أي إيجاد غطاء من نص "قانوني" سواء في لائحة أو قرار جمهوري.
(2) آليات إفساد أعضاء المؤسسة القضائية
ظلت الهيئة القضائية المصرية عصية على الكسر أو الاحتواء لسنوات طويلة، سواء قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 أو بعدها. وقد حاول الرئيس السادات الحفاظ على علاقة ودية مع السلطة القضائية المصرية في سنوات حكمه الأولى، حتى وقعت أحداث انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977، واكتشف الرجل بحاسته السياسية أن الهيئة القضائية المصرية لا تساير النظام في توجهاته نحو توقيع أقصى العقوبات على المتهمين في هذه القضية، وجاءت أحكام محكمة أمن الدولة العليا في القضية رقم 100 لسنة 1977 بمثابة لطمة قاسية وجهت إلى النظام، حيث جاءت حيثيات الحكم مؤكدة على مسؤولية الحكومة وقراراتها الاقتصادية في اندلاع أحداث الانتفاضة. وبعدها اتبعت رئاسة الجمهورية والحكومة مجموعة من السياسات الجديدة بهدف اختراق المؤسسة القضائية واحتوائها، وقد تمثلت هذه السياسات الحكومية في أربعة أساليب متكاملة، وهي:
الأسلوب الأول: بدءا من العام 1979 جرى السماح لأول مرة في تاريخ القضاء بالتحاق ضباط الشرطة بمختلف درجاتهم ورتبهم دون رتبة المقدم بسلك النيابة العامة، وهي كما هو معروف أولى مراحل السلك القضائي، وقد أدت هذه السياسة المستمرة لربع قرن إلى انضمام نحو 3000 ضابط شرطة ومباحث إلى سلك القضاء بما أصبح عددهم يعادل ربع العاملين في هذه المؤسسة العريقة التي تميزت بالعقل القانوني المدني، فإذا بها الآن تطعم أو تخترق بعقل قانوني ذي طابع عسكري وشرطي، مارس الكثيرون منهم وسائل الضرب وامتهان كرامة المواطنين، فكيف لهؤلاء أن يعتدل ميزان العدل بين أيديهم؟
الأسلوب الثاني: مع تزايد أعداد خريجي كليات الحقوق سنويا، ورغبة الكثيرين منهم في الالتحاق بسلك القضاء "النيابة العامة"، أو حتى الهيئات القضائية الأخرى، مثل مجلس الدولة أو النيابة الإدارية، فإن إغراق المؤسسة القضائية وتوريط بعض أعضائها في ممارسات غير قانونية وغير أخلاقية من نوع الوساطة والمحسوبية في تعيين أبنائهم وأقربائهم في سلك النيابة العامة، وفي المقابل إهدار حقوق بعض المتقدمين في المسابقات الذين هم أكثر جدارة وكفاءة.
بل ولجوء بعض أعضاء الهيئات القضائية إلى دفع "تبرعات" دون أن نقول رشا لذوي النفوذ في الحكومة والحزب الحاكم أو التنازل والقبول بعلاقة من نوع ما مع الحكومة وبعض قياداتها، كل هذا كان بمثابة مساس بهيبة القضاة وأخلاقية هذه المؤسسة العريقة.
كما أن تورط بعض رجال القضاء في ممارسات الوساطة والمحسوبية والتمييز بين المتقدمين في المسابقات على أساس القرابة أو صلات الدم هو تلويث مباشر لهؤلاء بما يسمح في المستقبل بابتزازهم من النظام الحاكم، سواء في قضايا تمس تلك القيادات، أو رغبة الحكومة في توجيه بعض الأحكام القضائية بما يخدم مصالحها السياسية.
الأسلوب الثالث: يتمثل في تهرب حكومات الرئيس مبارك المتعاقبة من إصدار قانون بتعديلات السلطة القضائية التي أعدها القضاة منذ مؤتمر العدالة الأول عام 1986، بما يحفظ للقضاء المصري استقلاله ويصون كرامته. وهذا التهرب الحكومي الذي استمر زهاء ربع قرن كامل هو موقف سياسي تمليه رغبة نظام الرئيس مبارك في الاستحواذ على أوراق التأثير المباشر أو غير المباشر على أعضاء الهيئة القضائية المصرية.
الأسلوب الرابع: ويتمثل في سياسات إعارة وندب القضاة مستشارين للوزارات والهيئات والمصالح الحكومية، التي جعلتهم مجرد خبراء تحت طلب السلطة التنفيذية، خاصة لدى الوزراء، مع إغداق مكافآت كبيرة شهريا على القضاة المنتدبين، مما جعل من الصعب تخليهم عن هذه الوظائف الثانوية التي تحولت رويدا رويدا إلى ركيزة لضمان مستوى معيشة القاضي، وكذلك سياسات الإعارة الخارجية أو الداخلية.
والحقيقة أنه رغم كل تلك الجهود والمحاولات والسياسات الحكومية التي اتبعت من أجل احتواء السلطة القضائية والسيطرة على أعضائها، فإن الميراث العريق لهذه الهيئة وطبيعة التركيبة القانونية لعقلها المهني قد حال دون نجاح مجمل هذه السياسات الحكومية، فظل التيار الرئيسي للهيئة القضائية المصرية نظيفا ومستقلا، وهو ما يظهر جليا في الأسابيع الحافلة والساخنة طوال الفترة من مايو/أيار إلى سبتمبر/أيلول 2005 فيما سمي "انتفاضة القضاة" أو حركة 14 مارس التي قادها قضاة نادي قضاة الإسكندرية، ثم نادي قضاة مصر بالقاهرة، واستجمعت حولها أكثر من 4000 قاض من أجل المطالبة بإصدار قانون "استقلال القضاء" وتمكين القضاة من الإشراف الحقيقي والكامل على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة وغيرها من مطالب الإصلاح القانوني التي تصب في مجرى المطالب الشعبية الواسعة للإصلاح السياسي والديمقراطي في البلاد.
خامسا: النتائج والتداعيات
والآن ما الحجم التقديري للاقتصاد الخفي والأموال السوداء في الاقتصاد المصري في ربع القرن الماضي؟
تقدر الأحجام الكلية لأموال وتدفقات الاقتصاد الخفي والأموال السوداء بما يتراوح بين 57 مليار جنيه و70 مليار جنيه سنويا في العقد الماضي وحده، وهذا يكاد يعادل 20% إلى 25% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي الرسمي في نفس الفترة، وهذا التقدير يقل إلى حد ما عن التقدير الذي توصل إليه عالم الاقتصاد النمساوي "شنيدر" في دراسته عام 1998 وشملت مصر، حيث قدره بنحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي، بيد أن إدخالنا لعمليات تهريب الأموال من داخل مصر إلى خارجها التي زادت سرعتها وأحجامها في السنوات العشر الأخيرة -خاصة في عهد تولي عاطف عبيد مسؤولية رئاسة الوزراء- وقدرتها بعض المصادر المصرفية والاقتصادية المصرية بنحو ثلاثة مليارات دولار سنويا (أي ما يعادل 30 مليار دولار في السنوات العشر الأخيرة) فإننا نكون بصدد حركة أموال سوداء تقارب 35% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالإجمال فإننا نكون إزاء ما يقارب 500 مليار جنيه مصري جرت من خلف ظهر الحسابات القومية ومصفوفة تدفقات الدخل القومي الرسمية في السنوات العشر الماضية أو الـ15 عاما على أكثر تقدير، وهي كلها أموال لا تسدد ضرائب عنها، علاوة على ما ألحقته من أضرار على نمط توزيع الدخول واستشراء "ثقافة الفساد" لدى جميع قطاعات السكان في البلاد. إنها باختصار كارثة اجتماعية وأخلاقية دون زيادة أو نقصان.
__________
عبد الخالق فاروق، خبير اقتصادي ومتخصص في قضايا الفساد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى