لا ينكر أحد أن الحديث عن الثروات المنهوبة والمهربة لازال يثير شهية الرأي العام علي الرغبة في التساؤل ويحرض علي البحث عن إجابات قاطعة، حول إمكانية الدولة ومدي قدرتها
علي إعادة هذه الثروات، خاصة الجزء المتعلق بأموال مبارك ونجليه علاء وجمال ومماليك العصر من المقربين والأصهار الذين استباحوا كل شيء، ومنذ أن انفجرت هذه القضية علي السطح لا يمر يوم واحد بدون أن نكتشف كارثة جديدة، تؤكد بوضوح أن هذا البلد، كان محكوماً من عصابة، أتاح لها نفوذها القدرة علي احتراف السرقة والنهب، وتجريف الثروات، فضلاً عن الحصول علي العمولات من التجارة الحرام، بطرق متقنة ومنظمة، واتبع أفرادها أساليب «المافيا» في إخفاء مصادر هذه الأموال عن العيون، والابتعاد عن ملاحقة أجهزة مكافحة جرائم غسيل الأموال، بابتكار آليات يصعب رصدها، أو تتبعها من الأفراد أو الأجهزة.. فجري إيداعها في حسابات سرية ببنوك سويسرا وأوروبا، وبعض البلدان الخليجية، واستثمار الكثير منها في تأسيس شركات الـ«أوف شور»، وهي شركات عنكبوتية، تتوالد وتتكاثر علي طريقة الأرانب، ولا تخضع لأي نوع من الرقابة في الدول، التي يقام علي أراضيها مثل هذا النوع من النشاط الغامض، الذي يعتبر ملاذاً آمناً، لعمليات غسيل الأموال عن طريق تشكيل مجموعات من رجال الأعمال علي غرار «العصابات المنظمة» يدخلون كمساهمين وشركاء غير معلومين لأي جهة بما فيها الدولة التي تؤسس علي أراضيها الشركة.
تفاصيل عمليات الثروات المنهوبة وتهريب الأموال القذرة في شركات غسيل الأموال، كانت ومازالت محل اهتمام من «الوفد الأسبوعي»، التي انفردت قبل 6 أشهر بنشرها مصحوبة بالمستندات، وما نشرناه من معلومات موثقة بعنوان شبكة تهريب أموال علاء وجمال مبارك في شركات عنكبوتية عابرة للقارات، لاقي اهتماماً واسعاً في دوائر صناعة القرار، وصاحبته ردود أفعال رسمية وقضائية، لعل أبرز تداعياتها هو إعلان المستشار عاصم الجوهري، مساعد وزير العدل رئيس اللجنة القضائية المشكلة لاسترداد أموال مصر المنهوبة بالخارج، عن المعلومات التي توصل إليها، ومفادها أن علاء وجمال مبارك، لديهما ودائع ببنوك سويسرا، قدرها 340 مليون دولار أمريكي، أي ما يوازي ملياري جنيه مصري، الأمر الذي يشير إلي أنهما وحدهما يمتلكان الأموال والأرصدة التي أعلنت سويسرا عن طريق حكومتها، بتجميدها حددت قيمتها بـ410 ملايين فرانك سويسري، وكشف المستشار «الجوهري» أن اللجنة وضعت يدها بالفعل علي وثائق ومستندات تؤكد امتلاك حسين سالم الهارب إلي إسبانيا مبالغ مالية تصل إلي 24 مليار جنيه، ومعه نجلاه خالد وماجدة وتم التوصل إلي ذلك برصد التحويلات البنكية التي أجراها حسين سالم وأسرته عن طريق عدة بنوك أجنبية وعربية خلال 6 شهور.
ولم تتوقف مفاجآت رئيس اللجنة القضائية، التي أعلنها قبل يومين فقط، فهو أكد وجود مستندات تفيد امتلاك عدد من رموز النظام السابق لثروات طائلة في بلدان مختلفة، لجأوا لإخفائها عن طريق تكوين شركات «أوف شور»، وفي صدد الجدية الخاصة بملف الثروات المنهوبة، كشف عن تفاصيل تؤكد وجود النية والعزم لدي الدولة في استرداد هذه الأموال بجميع الطرق القانونية، باعتبارها القضية الأهم من بين العديد من القضايا المطروحة التي تحتاج إلي حسم وأفاد بوجود تعاون مع عدد من أجهزة الاستخبارات المالية ومكاتب المحاماة ذائعة الصيت في أوروبا، باعتبار أن هذه الجهات متخصصة في رصد وتتبع الأموال المهربة في الخارج، ولديها مصادر متعددة لتحقيق أهدافها المتفق عليها مع اللجنة القضائية المسئولة عن ملف استرداد الأموال.
المعلومات الموثقة التي أعلن عنها المستشار عاصم الجوهري لا يمكن إغفالها، أو القفز عليها، باعتبارها بقعة ضوء خافتة، لكنها ضرورية في مناخ اتسم بالعتمة والظلمة أحاط بثروات آل مبارك ورموز عصره من المقربين والأصهار وأصحاب السلطة وشلة النجل الذي كان يتطلع بغرور لحكم مصر.
فالقضية التي شغلت الاهتمام، يبدو أنها دخلت فعلياً مرحلة الحسم، لإغلاق باب الجدل المثار حولها، وهذا لا يمنع من القول بأنها خطوة أولي ستتبعها خطوات أخري قطعاً ستكون شاقة، فلا يمكن الحصول علي هذه الأموال بدون مفاوضات سياسية ودبلوماسية، ومعارك قانونية طويلة، والكثير من الأمور، التي نبهت «الوفد الأسبوعي» إليها، أثناء تناول القضية وكشفنا تفاصيلها بالوثائق في أول أبريل الماضي، خصوصاً أن الأرقام التي كشف عنها المستشار عاصم الجوهري ليست هي كل الأموال والثروات التي جري تهريبها بمعرفة العصابة التي كانت تحكم مصر، وحولت الوطن بكل ثرواته ومقدراته، إلي إقطاعيات ومجموعة من العزب الخاصة، يمرحون فيها علي هواهم دون مساءلة أو مراقبة من أحد، ومن بين الذين فعلوا ذلك يبرز نجلا مبارك علاء وجمال، فقد أتاح لهما قربهما من دائرة صناعة القرار، التأثير في الحدث السياسي والاقتصادي، وتحقيق المكاسب والحصول علي أموال بطرق ستظل مجهولة، إلي أن يتم اكتشافها بمعرفة الجهات التي تقوم بهذه المهمة الآن، فلم يكن خافياً علي أحد من العامة أو المهتمين بالشأن العام نفوذ الأسرة التي كانت تحكم مصر، إلي الحد الذي بلغت فيه سلطة «جمال» حداً غير مسبوق في الحياة السياسية، وصل به إلي يأمر فيطاع، وتتحرك جحافل المسئولين في الوزارات والحزب، لتنفيذ ما يطلبه، باعتبار أن طلباته من الأوامر السيادية وبلغ نفوذه وشقيقه «علاء» في أسواق المال والاقتصاد لدرجة تثير الريبة، وتحرض علي البحث في خفايا علاقاته المتشعبة، في أوساط رجال البيزنس داخلياً وخارجياً، إلي جانب اتساع دائرة علاقاته مع حكام ومسئولين في العديد من البلدان، وذلك نتيجة لمصاحبته «مبارك الأب» في الجولات والزيارات التي كان يقوم بها العديد من الدول، وأتاحت له سلطاته في مؤسسة الرئاسة والحزب تعيين الوزراء وتكليفهم بمهام وسياسات فتح مجملها الباب علي مصراعيه للعمولات وانتشار ظاهرة الرشوة التي طالت كل المؤسسات، أما الأخطر من ذلك كله، أن موقعه في قلب صناعة القرار والحدث أتاح له معرفة أسرار سوق البيزنس، وتوقعات المكسب والخسارة في الأنشطة الاستثمارية بالبورصة، وكلها شواهد تؤكد أن النية كانت مبيتة، لارتكاب جرائم النهب والإثراء غير المشروع من خلال شراء ديون الدولة، وإتمام الصفقات المشبوهة، والتفاوض علي عمولات تخليص المصالح، وجري تهريب هذه الثروات والأموال التي تحققت في ظل هذا المناخ إلي الخارج بطرق مريبة، إلي أن تم استثمارها في بلدان سيئة السمعة ولديها تاريخ وعلاقة وطيدة في «تبييض» الأموال القذرة الناتجة عن نهب الثروات في بلدان القمع.
عندما ألقينا الضوء علي تفاصيل هذه العمليات بالوثائق، جري الاهتمام بها في العديد من أجهزة الدولة واللجنة القضائية المسئولة عن استرداد هذه الأموال، فقد كشفت الملفات المتاخمة بوقائع مثيرة أن استثمارات علاء مبارك وجمال تفوح منها رائحة كريهة تشي بأن تدمير الاقتصاد الوطني وتهريب الثروات للخارج هي حرفة متقنة لها أساليب وخرائط، ولا يمكن تمريرها إلا بالنفوذ، ولو لم يكن هناك تدبير لاستغلال النفوذ ما استطاع نجلا مبارك ومعهما شخصيات لامعة في مجال البيزنس، إخراج هذه الأموال واستثمارها، وذلك في الوقت الذي تقدم فيه الدولة جميع التسهيلات للاستثمار في الداخل، وجذب المستثمرين من الخارج.
إن إخراج هذه الأموال يشير بوضوح إلي أن الأمر برمته يهدف إلي إخفاء الثروات، باعتبارها ناتجة عن تصرفات غير مشروعة وإعادة تشغيلات شركات تتداخل فيما بينها بصورة عصية علي الفهم.
أما الأساليب التي جري اتباعها في هذا الشأن غاية في الإثارة، فهي تشير إلي أن الأموال كانت تخرج من مصر بعدة طرق، جزء منها عبارة عن تحويلات إلي سلطنة عمان والجزء الأكبر في حقائب علي طائرات خاصة، واليخوت في البحر الأحمر، ولأنهما نجلا «مبارك»، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع حكام الخليج، كانت تمر العمليات بسهولة، وعلي خلفية ذلك تخرج الأموال من عمان إلي اليونان، وهناك يتم تأسيس شركات قانونية، معنية بأعمال الوكالة والمحاماة حسب النظام المعمول به هنا، وهذه الشركات القانونية بمثابة رجل أعمال، وعلي أساس هذه الطريقة تشكلت دائرة شائكة ومعقدة من الشركات المتداخلة عن طريق شراء الأسهم، أي أن الشركة تشتري أسهما في شركات أخري دون معرفة صاحب الشركة، أو صاحب المال، ومن اليونان إلي قبرص نفس القصة، وهي تأسيس الشركات المتداخلة، وجري اختيار قبرص لأنها لم توقع اتفاقية مكافحة غسيل الأموال.
المغزي الذي توصلنا إليه من هذه الإجراءات المعقدة ليس له وصف دقيق، سوي احتراف السرقة وتهريب الأموال لاستثمارها في شركات الوكالة القانونية، التي لا توجد أي علامات استفهام حولها في أوروبا، وللإمعان في التضليل والخداع، يتم جذب مساهمين من البنوك والشركات الكبري وهو ما فعله جمال مبارك، الذي دخلت معه بنوك الدولة في شراكات متعددة، إلي أن وصل إلي تكوين شبكة عنكبوتية عابرة للقارات والمحيطات، بدأت بشركة «بوليون» في اليونان مع إبراهيم كامل، وأدارها «وليد كابا» فلسطين الأصل وأردني الجنسية، وهو صديق جمال مبارك، وكان زميلاً له في بنك «أوف أمريكا»، وكان بداية نشاطهما في البيزنس هو شراء ديون مصر.
توسعت استثمارات جمال وعلاء عن طريق دخول عرب وأجانب في الشركات المتداخلة، ووصلت الأمور إلي شراكة مع أسرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وكشفت الوثائق تلالاً من المعلومات عن الثروات المنهوبة، التي جري استثمارها في مجالات مختلفة بأوروبا، فدخلت مساهمات نجلي مبارك ومعهما إبراهيم كامل في أنشطة موسيقية وفنية وأنشئت مجموعة من الشركات لهذا الغرض بتاريخ 5/7/2005، مع مستثمرين ينتمون إلي جنسيات مختلفة بولندية وبرتغالية مثل «أولفيرا» ويونانية مثل «لوفاج جورجيت».
وتحتوي التفاصيل علي تأسيس شركة «إيجيبت تراس» وتعني «مصر الثقة» وهي إحدي شركات صناديق الاستثمار والمال، وقد تضمنت أوراقها معلومات لا يوجد فيها ما يشير من بعيد أو قريب إلي أن جمال مبارك شريك أو يملك حصصا فيها وهي تأسست في 23/10/2001، برقم 67534/526/32، لوكسمبرج، لكنها تضمنت فقط أن أعضاء مجلس إدارتها إبراهيم كامل ومايكل بيكيت، ممثلاً عن نادي لندن الدولي، ومايكل ثابت وحافظ الغندور وشاكر ألبرت خياط، وأحمد منير البرادعي ممثلاً عن بنك مصر، ومصر أمريكا الدولي، لكن بعد مرور 4 سنوات خرجت علي السطح أوراق ظلت طويلاً في الأدراج المغلقة، وبالتحديد في 14/1/2005 كشفت هذه الأوراق عن اسم جمال مبارك في هذه الشركة التي أنشئت في جزر الكاريبي، والأسهم المملوكة فيها تخص شركة أخري يملكها جمال اسمها «حورس» للاستثمارات في الأوراق المالية، ودخلت هذه الشركة في مساهمات مع «هيرمس».
فإذا كان ذلك جزءاً ضئيلاً من نشاط البيزنس وتهريب الأموال يخص جمال مبارك، فماذا عن شقيقه علاء، قطعاً الأمر لا يختلف كثيراً فهو لاعب رئيسي في هذا النشاط العنكبوتي فقد كشفت الأوراق التي نشرناها قبل ذلك أن اسمه كان مقروناً بأنه مدير بالشركة الخاصة بجمال، إلي جانب آخرين سعيد شماس «سوري الجنسية» و«وليد كابا» وسقراطوس سولو ميدس «قبرصي» وعزت جارا وبكر السعدي «كويتيان» وأفادت الأوراق بأن إدارته للشركة بدأت منذ تأسيسها عام 1996، وكانت تتم فيها عمليات بيع وهمية للأسهم بأسماء صورية، حتي لا يتم اكتشاف الأصحاب الحقيقيين للأسهم، وهو نوع من عمليات غسيل الأموال.
لم تتوقف مساهمات جمال وعلاء مبارك عند هذا الأسلوب الغامض في شراء الشركات والأسهم، وإعادة استثمارها بشراء المصانع والعقارات، فهناك مساهمات في «هيرمس» المتخصصة في الاستثمارات المالية في أوروبا وأمريكا، والمتشعب نشاطها في العديد من العواصم، لما لها من قدرات مالية فائقة.
إن طريقة خروج هذه الأموال واستثمارها في شركات متداخلة بفتح الباب علي مصراعيه للكثير من الاتهامات، والتأكيد علي أن ما كان يجري في مصر علي يد جمال مبارك وشلته، ليس شأناً سياسياً يحاول صناعته، ولكنه استثمار للوجود في دائرة صناعة القرار، وتحقيق الكثير من المنافع والمآرب وتوسيع الأنشطة وإبعاد دخوله عائداتها إلي مصر.
هذا ما كنا قد ألقينا الضوء عليه قبل أن يقترب أحد من تلك المساحة الشائكة، وكانت المستندات الدامغة هي العنوان الذي فتح لنا ملف فضائح نجلي مبارك ودفعنا ذلك إلي نطلب من الدولة اللجوء لمكاتب الخبرة المتخصصة في تتبع الأموال المهربة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى