قناة السويس
قبل ظهور الإنسان وفي العصور الجيولوجية سحيقة القدم، لم تكن صورة خريطة مصر كما استقرت عليه في عصور ما قبل التاريخية، فقد كان البحران الأحمر والأبيض بعد ظهورهما على الأرض، يتصلان وينفصلان نتيجة حركات القشرة الأرضية التى تحدث على مدى ملايين السنين، فيتغير شكل الخريطة تبعًا للتغيرات الجيوبوجية.
"أكبر مشروع لأعظم ملك في التاريخ"
كان قرار سنوسرت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة وهي من أعظم الأسرات في التاريخ المصري، بحفر قناة تربط بين النيل والبحيرات المرة التى كانت لاتزال جزءًا متصلا بخليج السويس، فكان أول اتصال في التاريخ وانفتح الطريق الملاحي بحيث تنطلق السفينة من أي من المواني الواقعة على سواحل أي من البحرين، إلى بعضها البعض بلا أي عائق وصارت مواني العالم القديم كلها متصلة بحريًا، لأول مرة منذ استقرار البحرين على وضعهما الحالي، قبل ظهور الإنسان، فصار - بفضل القناة - بوسع الملاح أن ينطلق بزورقه من مضيق جبل طارق مثلا، إلى ما بعد مضيق باب المندب، لا يعترضه عائق بري، فانفتحت بتلك القناة جميع بحار العالم وتواصلت من خلاله كل المواني في أهم حدث بحري وتجاري في تاريخ الإنسانية.
وقد بدأ سنوسرت الثالث في حفر القناة عام 1887 وانتهى منها 1874 قبل الميلاد وسجل على عادة ملوك مصر القديمة لوحة بافتتاحها على واجهة معبده بالكرنك.
تبدأ الرحلة في القناة من الشمال في بحيرة المنزلة فتسير في أول فروع النيل السبعة آنذاك من جهة الشرق المعروف بالفرع البيلوزي الذي يصب عند مدينة بيلوزم القريب موقعها من بورسعيد وينسب إليها الفرع، وتبدأ القناة من بوبست بمحافظة الشرقية (الآن تقريبا تقع مكانها مدينة الوقازيق عاصمة الإقليم) ومتجهة إلى الشرق لتنتهي عند "تيخاو" (قرية أبو صير الآن التابعة لمحافظة الإسماعيلية) وتصب القناة في البحيرات المرة التى كانت تشكل الجزء الشمالي من خليج السويس، ثم إلى البحر الأحمر.
كانت تمر خلال القناة السفن التجارية ما بين الشرق والغرب، محملة بالبضائع من التوابل والثمار والأخشاب المجلوبة من غابات لبنان والحيوانات والحرير والعاج والجلود والمواد الغذائية ومواد البناء أيضا.
وقد كان ملوك الأسرة الثانية عشرة (التى حكمت مصر من 1991 إلى 1778 قبل الميلاد) قد أحدثوا نهضة في البلاد المصرية ليس لها مثيل في التاريخ، فقد حفروا الترع وأقاموا السدود وشيدوا المعابد والأهرامات وكانت هذه الأسرة قد أعادت المجد لمصر بعد ما يعرف بالفترة البينية الأولى التى سادت فيها الفوضى البلاد قرونا عديدة، حتى جاءت الأسرة الحادية عشرة لتبدأ انتشال مصر من التفكك والفوضى ثم أكملت أسرة سنوسرت الثالث المشوار الحضاري لمصر وبلغت بها الأوج.
وساد الأمن البلاد وسار ملوك هذه الأسرة على رأس الجيش المصري في كل الأرجاء يوطدون لملكهم وينشرون رسالة مصر في الحضارة والسلام شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا.
وبلغ من عظمة سنوسرت الثالث أنه أعيد ذكره بعد عدة قورن من رحيله، فأقام تحتمس الثالث المعابد التى كرست لعبادته بجوار الآلهة التقليددين في النوبة لما لمسه بنفسه من بقاء أعمال سنوسرت في جنوب البلاد، فهو الذي هبط إلى الجنوب ووطد أركان المملكة المصرية التى امتدت في الاتجاهات الأربعة باسطه سلطانها على السهل والبحر والصحراء.
ويصف المؤرخون، ملوك هذه الأسرة، خاصة سنوسرت الثالث، بأنهم من أعظم الذين جلسوا على عرش مصر، بل ووصفه معجم الحضارة المصرية القديمة بأنه "ذلك الفرعون الذي قهر العالم وأعظم ملك شهده التاريخ.
ودلالة حفر هذه القناة، دلالة عظيمة فهي تؤكد أن المصريين قد تقدموا في العلوم التى مكنت لهم تنفيذ هذا المشروع العظيم من حيث معرفتهم ودرايتهم بطبيعة الأرض ودراستهم جغرافية المكان وخبرتهم في شق الطرق البرية والبحرية.
وقبل القناة الموصلة بين النيل والبحر الأحمر، كان اهتمام هذه الأسرة بالتجارة مع بلاد السودان كبيرا بجانب الأعمال الحربية، إذ أنه تم حفر قناة على عهد سنوسرت الأول، عند الشلال الأول الواقع على مجرى النيل في جنوبي أسوان، لتفادي صخور هذا الشلال الذي يعيق حركة الملاحة عند مرور السفن عبر النيل شمالاً وجنوبًا.
والمشروعات المائية لهذه الأسرة، كانت عظيمة مثلها، بل كانت أهم مشروعات مائية في تاريخ مصر، فقد استطاع ملوكها أن يحولوا "بحيرة قارون" إلى خزان عملاق لمياه الفيضان عن طريق "بحر يوسف" والتحكم في مياهه بسد اللاهون الشهير، هذا مع حفر شبكة عملاقة من الترع والقنوات التى انتشرت في ربوع مصر، لتستفيد من كل قطرة مياه من النيل.
وقد سمى المؤرخون أهم هذه القنوات وهي هذه القناة الموصلة بين البحرين عن طريق النيل، خطأ باسم "سيزوستريس" وهو تحريف لاسم سنوسرت.
وهذه القناة وردت الإشارة إليها في كثير من المتون غير المصرية، لعل أشهرها ما ذكره هيرودوت الملقب "أبو التاريخ" في في كتابه الثاني من تاريخه العام وهو أقدم وثيقة يونانية تحدثت عن القناة، غير أن هناك من يشككون في بعض روايات هيرودوت ويتهمونه بعدم الدقة.
ولكن يعضد ماذكره هيرودوت، ما حكاه الشاعر اليوناني الشهير "هوميروس" عن قصة عبور "منيلاس" أحد أبطال ملحمته ذات المكانة المميزة في التراث الأدبي اليوناني والإنساني وهي "الأوديسا".
كذلك تحدث عنها الفيلسوف العظيم "أرسطو" الذي كتب يقول: "نحن نعتبر أن أقدم البشر هؤلاء المصريون الذين تظهر بلادهم قاطبة من عمل النيل ولا تعيش إلا به وهذه الحقيقة تفرض نفسها على أي فرد يجوب هذه البلاد ولدينا شاهد ظاهر نجده في إقليم بحر"أرتيري" (البحر الأحمر) والواقع أن أحد الملوك شرع في القيام بحفر البرزخ، فإن جعل هذا الممر صالحا للملاحة كان له فائدة عظمى والظاهر أن "سيزوستريس" هو أول الملوك القدامى الذين تبنوا هذا العمل ولكنه قد لحظ أن مستوى الأراضى كان اكثر انخفاضًا عن مستوى البحر" انتهى كلام أرسطو ولا نظن أنه بحاجة إلى شرح أو بيان".
وبجانب ذلك قد أورد عالم المصريات الكبير الدكتور سليم حسن ما جاء في المؤلفات الإغريقية واليونانية عن قناة السويس في الجزء الثالث عشر من عمله الضخم العظيم "موسوعة مص القديمة" الذي نقلنا منه ترجمة ما كتبه أرسطو "وهو من هو" عن مصر وقناتها.
وقد أفرد سليم حسن في هذا الجزء ملحقا خاصا عن تاريخ قناة السويس بمناسبة ما كتبه عن العهد الفارسي وتجديد الملك دارا الأول لحفر القناة القديمة التى طمرت بالرمال.
وبجانب ما قاله هيرودوت وهوميروس وأرسطو، ورد ذكر القناة عند ديدور الصقلي وسترابون ولوسيان وبليني القديم وجرجوار الطوري والراهب فيدليس.
وفي المراجع العربية كتب عنها الفرجان والمقريزي وشمس الدين وبن سعد وأبو الفداء والمسعودي والكندي وبن الطوير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى