31/03/2008
عقارب الساعة تدور مسرعة إلي النهاية في مصر، والعد التنازلي لنظام مبارك يمضي إلي لحظة الصفر، ولكن من دون أن يكون واضحا إلي أين يذهب البلد العظيم بمكانته في الجغرافيا والبائس بانحداره في التاريخ.
ومبارك نفسه يبدو هاربا من المأزق في الداخل، ومكثرا من زياراته للخارج، ومثيرا لأسئلة حول جدوي جولاته الأخيرة إلي بولندا ثم إلي موسكو، ذهب إلي وارسو في زيارة امتدت لأيام، ومن دون أن يفهم أحد لماذا بولندا بالذات، وهل كانت الزيارة لمجرد تلقي وسام من رئيس أجنبي بعد أن عزت عليه الأوسمة في مصر؟
ثم كان الذهاب إلي موسكو عاكسا لحيرة الأيام الأخيرة، فقد التقي بوتين ـ كما قيل ـ لبحث فرص التعاون النووي السلمي، وفي الوقت الذي لم تحسم فيه القاهرة ـ وربما لن تحسم قريبا ـ فرص اللجوء النووي إلي موسكو، أو تفضيل هوامش حركة أكثر أمانا باتجاه باريس أو واشنطن، وفي الوقت الذي يبدو فيه الطموح النووي ـ حتي لو كان متأخرا ومشوشا ـ سياسة قد تليق برجل يبدأ حكمه، وليس برجل زهق منه كرسي الحكم، وعلي مدي 27 سنة بليدة مرهقة، وأثقلت كاهله سنواته الثمانون التي يتمها في 4 ايار (مايو) 2008، وقد بدا ـ في الصور ـ كمسن ذاهب تطيش يده في الهواء بحثا عن يد الرئيس الروسي المنتخب ديمتري ميدفيديف الذي يخلف بوتين في ايار (مايو) نفسه، وإلي حد بدا معه ميدفيديف مبتسما للمفارقة، فقد كان وجها لوجه مع رجل في ضعف عمره، كان وجها لوجه مع مومياء رئاسية بدت كأثر فرعوني، بينما مبارك يفتح فمه في ضحكة مومياوية، ويتعجب من تقلبات الدنيا التي تلجئه لمصافحة شاب غر يحمل هو الآخر لقب الرئيس، بينما عاصر مبارك ـ في مقام الرئاسة المصرية ـ سبعة رؤساء في موسكو من بريجنيف إلي ميدفيديف!
وفي القاهرة، بدت محنة مبارك أوضح مع وزارته السابعة برئاسة أحمد نظيف، والتي اختار نجله ـ الموعود بالوراثة ـ رئيس وزارئها، وأتي بوزرائها الاقتصاديين بالذات من مجموعته السياسية في الحزب الوطني، وانتهت إلي إفلاس تام لا تفيد معه أوهام ولا أرقام عن نمو اقتصادي غير مسبوق تحت حكم مبارك، بدا الرئيس الشائخ ضائعا بالحيرة والذهول في اجتماعاته مع وزراء الحكومة، وسأل في تعجب عن سر أزمة رغيف العيش، وطوابير الخبز التي تحولت إلي ميادين لحروب أهلية مصغرة، وإلي وظيفة مضمونة لغالبية المصريين إلي آناء الليل وأطراف النهار، وبدا الرئيس ـ المسكون بعقدة الأمن ـ خائفا من العواقب المهددة، خاصة وأن أول حظه السياسي ـ بعد أن عينه السادات نائبا له أواسط السبعينيات ـ كان انتفاضة الخبز في 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، وربما لذلك بدا مبارك مصمما علي استدعاء الاحتياطي الاستراتيجي في لحظة الخطر، فقد أمر باستخدام احتياطي النقد الأجنبي الاستراتيجي (30 مليار دولار) في شراء كميات كافية من القمح، وأمر الجيش بتكليف جهاز الخدمة الوطنية باستخدام أقصي الطاقة الآلية لانتاج الخبز، بل وفوض الجيش أمر توزيع الخبز بالقاهرة وما حولها.
وبدا التصرف عاكسا لانعدام ثقة مبارك كليا في الجهاز الإداري والمدني لدولته، فقد ترهل وفسد وعجز، ونخر السوس في عظامه، وصارت الحكومة صورية، وربما يكون إبدالها بحكومة مدنية لاحقة دورانا في الطاحونة الفارغة، وهو ما دعا أنصارا لمبارك إلي طلب هامس بتشكيل حكومة عسكرية، وإن بدا مبارك كعادته مترددا، فهو لا يعرف إلي أين تمضي الأمور به مع المزيد من خطوات استدعاء الجيش، ويتعرض ـ في الوقت نفسه ـ لضغوط عائلية هائلة من نجله وزوجته المتورمة النفوذ في الجهاز الإداري للدولة، ثم ان المحنة تبدو أكبر من أن تتجاوزها فكرة العسكرة الظاهرة المباشرة للنظام.
فأصل المحنة في اقتصاد جري نهبه وتجريف قواعده الإنتاجية، وتحول إلي اقتصاد ريع يعتمد علي السياحة ورسوم قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين في الخارج، وكلها موارد معرضة للتأثر بتغيرات البيئة الدولية والإقليمية، وقد بدت التغيرات الاقتصادية الدولية الأخيرة عاصفة في تأثيرها علي اقتصاد مبارك الهش، فقد زادت أسعار الغذاء ومنتجات الطاقة دوليا، وتتوالي الزيادات بصورة يومية، وهو ما جعل عبء فاتورة القمح عنصرا ضاغطا بشدة علي فرص بقاء النظام المصري، فقد تحولت مصر ـ مع خراب عهد مبارك ـ إلي المستورد الأول للقمح في العالم كله، وقد زاد سعر طن القمح في السنتين الأخيرتين وحدهما إلي أكثر من الضعف (من 260 دولارا إلي 540 دولاراً)، وهو ما يعني مضاعفة الدعم الموجه لرغيف الخبز، وهي تكلفة فوق طاقة الموازنة المقعدة بعجز يصل إلي ثلث إجماليها، والمثقلة ـ أصلا ـ بأقساط وفوائد ديون خارجية وداخلية تفوق في حجمها إجمالي الناتج القومي.
ولا يملك حكم مبارك أن يسدد فاتورة القمح بغير استنزاف متعجل للاحتياطي النقدي الاستراتيجي، فقد كانت مصر قبل مبارك تستورد ربع احتياجاتها السنوية من القمح فقط، ومع تخريب الزراعة في سنوات حكمه، والتغيير العابث في التركيب المحصولي، فقد أصبحت مصر تستورد أكثر من ثلثي احتياجاتها من القمح، أضف: منتجات الطاقة التي تشتعل أسعارها، وتضاعف ـ أيضا ـ فواتير دعم نقدي سنوي تقدر بخمسين مليون جنيه مصري، فرغم أن مصر بلد مصدر للبترول والغاز الطبيعي، إلا أن انحطاط الصناعة ـ ووأد تطورها ـ جعلها في قائمة المستوردين لمشتقات البترول، وراكم أعباء مالية إضافية، فوق إهدار موارد مالية باتفاقات لصوصية مجحفة في صفقات الغاز الطبيعي بالذات.
أضف: تدهور قيمة الجنيه المرتبط حصريا بالدولار الأمريكي الذي يواصل انخفاضه دوليا، والدولار الآن ـ بسعر الصرف ـ يساوي خمسة جنيهات ونصف تقريبا، وكانت قيمة الجنيه قد نزلت إلي النصف بعد أول قرار اقتصادي لجماعة جمال مبارك لتحرير سعر الصرف في كانون الثاني (يناير) 2003، وهكذا تبدو الصورة مرعبة في تداعياتها، اقتصاد مفلس غير قادر علي توفير الحد الأدني من شبكة الأمان الاجتماعي مع تفاقم مشكلات الفقر والبطالة والعنوسة والغلاء، وتآكل القيمة الحقيقية للأجور، ونزول الغالبية العظمي من المصريين إلي ما تحت خط الفقر الدولي المقدر بدولارين في اليوم للفرد الواحد.
وفوق أزمة الاقتصاد القاتلة لفرص البقاء السياسي، تبدو فضائح النهب العام مدمرة لما تبقي من سمعة النظام المدمرة أصلا، آخر تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات يتهم الحكم بالإهمال وإهدار المال العام في تسعين بالمئة من مشروعات الدولة، والأموال تنزح بمئات المليارات إلي الحسابات الخاصة في الخارج، دوائر اقتصادية مستقلة ترتفع بالرقم النازح إلي 200 مليار دولار، وفي الكتاب الأكثر سوادا الذي أعدته حركة كفاية، بلغت قيمة الأموال المنهوبة في صفقات بيع الأراضي والمنشآت ثلاثة تريليونات جنيه مصري.
وفي الدائرة الضيقة من حول بيت الرئيس تبدو المأساة أفدح، فقد أوكلت للملياردير حسين سالم ـ ضابط المخابرات السابق والمقرب من الرئيس ـ مهام التصرف الأولي في موجودات شرم الشيخ، والتي يقيم الرئيس في قصورها أغلب الوقت، كما أوكلت لحسين سالم صفقة تصدير الغاز لإسرائيل، وبأسعار مجانية تقريبا، وجري تحصين الصفقة من مجرد النقاش ـ دعك من الرقابة ـ في مجلس الشعب، وإلي حد أن الوزير مفيد شهاب رد علي نواب المعارضة والإخوان ـ أخيرا ـ بأن بيانات الصفقة سرية، ولا يصح الكلام فيها لأنها مرتبطة بمذكرة تفاهم سري، وليس باتفاقية دولية يجوز إعلانها ومراقبتها، وهو ما دفع نائبا معارضا لوصف كلام شهاب بأنه قد يصح في قهوة بلدي لا في برلمان، وعقب فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري علي النائب بعتاب، وحذف كلامه من المضبطة، ونصح النائب أن يستخدم كلمة غرزة بدلا من كلمة القهوة البلدي ، و الغرزة ـ في مصر ـ مكان سري منعزل لتعاطي المخدرات وتدبير الجرائم.
والكلام مفهوم بإيحاءات القصة كلها، فليس من حق أحد أن يتحدث عن الرئيس ولا عن أصدقائه، ولا من حق أحد أن يتحدث عن الصفقات لإسرائيل، فلها نفس المزايا السيادية المتاحة للرئيس في مصر، فشبكة الفساد موصولة بخيوطها إلي شبكة الخيانة بالغاز وبغيره، إنها علامات الساعة التي تبدو في البرلمان خالي المقاعد أغلب الوقت، وإلي حد أن هدد فتحي سرور بإغلاقه ربما لفتح غرزة بحد وصفه البليغ! فلم يعد النظام ـ علي ما يبدو ـ في احتياج إلي شكليات برلمانية انتهت بالعوار المفضوح، ويفضل اللجوء المباشر إلي قوة الأمن العاري من ادعاءات السياسة، وهو ما بدا ظاهرا حتي في انتخابات المحليات المقررة في 8 إبريل، فقد أعدت القوائم ـ 52 ألف شخص ـ في بيت الرئاسة، وجري تكليف أحمد عز ـ ملياردير الأونكل ـ بالإشراف علي الصفقة واتاواتها، وجري تكليف جهاز مباحث أمن الدولة برعاية التفاصيل، وجري منع ترشح الإخوان بالجملة، بل وجري منع أعضاء الحزب الوطني الآخرين من الترشح، وخيفة أن يكونوا إخوانا! وهو ما يعني أن الرئيس فقد الثقة حتي في إدارة حزبه، وانتهي إلي حكم منزوع السياسة، والتجأ إلي تكليف جهاز الأمن الداخلي بمعارضة المعارضة والإخوان، تماما كما لجأ إلي الجيش ـ لا القضاء الطبيعي ـ في المحاكمات العسكرية المتصلة بالإخوان.
والانكشاف الاقتصادي والسياسي لحكم مبارك، ولجوؤه المطرد إلي قوة الأمن وقوة السلاح، ودون غطاء من سياسة، ولا مقدرة علي تجديد الرضا الاجتماعي، كلها من عوارض الأيام الأخيرة، بمعني أننا بصدد ألعاب أخيرة لنظام ذاهب، أما ما يجري في الشارع فتلك قصة أخري، فثمة نظام يتراجع إلي خط الكفاف الأمني، وثمة شعب يصحو من غيبوبة، ويتقدم ـ في اطراد ـ إلي عصيان ومقاومة مدنية سلمية، وإلي انتفاضة تستعجل الساعة.
ومبارك نفسه يبدو هاربا من المأزق في الداخل، ومكثرا من زياراته للخارج، ومثيرا لأسئلة حول جدوي جولاته الأخيرة إلي بولندا ثم إلي موسكو، ذهب إلي وارسو في زيارة امتدت لأيام، ومن دون أن يفهم أحد لماذا بولندا بالذات، وهل كانت الزيارة لمجرد تلقي وسام من رئيس أجنبي بعد أن عزت عليه الأوسمة في مصر؟
ثم كان الذهاب إلي موسكو عاكسا لحيرة الأيام الأخيرة، فقد التقي بوتين ـ كما قيل ـ لبحث فرص التعاون النووي السلمي، وفي الوقت الذي لم تحسم فيه القاهرة ـ وربما لن تحسم قريبا ـ فرص اللجوء النووي إلي موسكو، أو تفضيل هوامش حركة أكثر أمانا باتجاه باريس أو واشنطن، وفي الوقت الذي يبدو فيه الطموح النووي ـ حتي لو كان متأخرا ومشوشا ـ سياسة قد تليق برجل يبدأ حكمه، وليس برجل زهق منه كرسي الحكم، وعلي مدي 27 سنة بليدة مرهقة، وأثقلت كاهله سنواته الثمانون التي يتمها في 4 ايار (مايو) 2008، وقد بدا ـ في الصور ـ كمسن ذاهب تطيش يده في الهواء بحثا عن يد الرئيس الروسي المنتخب ديمتري ميدفيديف الذي يخلف بوتين في ايار (مايو) نفسه، وإلي حد بدا معه ميدفيديف مبتسما للمفارقة، فقد كان وجها لوجه مع رجل في ضعف عمره، كان وجها لوجه مع مومياء رئاسية بدت كأثر فرعوني، بينما مبارك يفتح فمه في ضحكة مومياوية، ويتعجب من تقلبات الدنيا التي تلجئه لمصافحة شاب غر يحمل هو الآخر لقب الرئيس، بينما عاصر مبارك ـ في مقام الرئاسة المصرية ـ سبعة رؤساء في موسكو من بريجنيف إلي ميدفيديف!
وفي القاهرة، بدت محنة مبارك أوضح مع وزارته السابعة برئاسة أحمد نظيف، والتي اختار نجله ـ الموعود بالوراثة ـ رئيس وزارئها، وأتي بوزرائها الاقتصاديين بالذات من مجموعته السياسية في الحزب الوطني، وانتهت إلي إفلاس تام لا تفيد معه أوهام ولا أرقام عن نمو اقتصادي غير مسبوق تحت حكم مبارك، بدا الرئيس الشائخ ضائعا بالحيرة والذهول في اجتماعاته مع وزراء الحكومة، وسأل في تعجب عن سر أزمة رغيف العيش، وطوابير الخبز التي تحولت إلي ميادين لحروب أهلية مصغرة، وإلي وظيفة مضمونة لغالبية المصريين إلي آناء الليل وأطراف النهار، وبدا الرئيس ـ المسكون بعقدة الأمن ـ خائفا من العواقب المهددة، خاصة وأن أول حظه السياسي ـ بعد أن عينه السادات نائبا له أواسط السبعينيات ـ كان انتفاضة الخبز في 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977، وربما لذلك بدا مبارك مصمما علي استدعاء الاحتياطي الاستراتيجي في لحظة الخطر، فقد أمر باستخدام احتياطي النقد الأجنبي الاستراتيجي (30 مليار دولار) في شراء كميات كافية من القمح، وأمر الجيش بتكليف جهاز الخدمة الوطنية باستخدام أقصي الطاقة الآلية لانتاج الخبز، بل وفوض الجيش أمر توزيع الخبز بالقاهرة وما حولها.
وبدا التصرف عاكسا لانعدام ثقة مبارك كليا في الجهاز الإداري والمدني لدولته، فقد ترهل وفسد وعجز، ونخر السوس في عظامه، وصارت الحكومة صورية، وربما يكون إبدالها بحكومة مدنية لاحقة دورانا في الطاحونة الفارغة، وهو ما دعا أنصارا لمبارك إلي طلب هامس بتشكيل حكومة عسكرية، وإن بدا مبارك كعادته مترددا، فهو لا يعرف إلي أين تمضي الأمور به مع المزيد من خطوات استدعاء الجيش، ويتعرض ـ في الوقت نفسه ـ لضغوط عائلية هائلة من نجله وزوجته المتورمة النفوذ في الجهاز الإداري للدولة، ثم ان المحنة تبدو أكبر من أن تتجاوزها فكرة العسكرة الظاهرة المباشرة للنظام.
فأصل المحنة في اقتصاد جري نهبه وتجريف قواعده الإنتاجية، وتحول إلي اقتصاد ريع يعتمد علي السياحة ورسوم قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين في الخارج، وكلها موارد معرضة للتأثر بتغيرات البيئة الدولية والإقليمية، وقد بدت التغيرات الاقتصادية الدولية الأخيرة عاصفة في تأثيرها علي اقتصاد مبارك الهش، فقد زادت أسعار الغذاء ومنتجات الطاقة دوليا، وتتوالي الزيادات بصورة يومية، وهو ما جعل عبء فاتورة القمح عنصرا ضاغطا بشدة علي فرص بقاء النظام المصري، فقد تحولت مصر ـ مع خراب عهد مبارك ـ إلي المستورد الأول للقمح في العالم كله، وقد زاد سعر طن القمح في السنتين الأخيرتين وحدهما إلي أكثر من الضعف (من 260 دولارا إلي 540 دولاراً)، وهو ما يعني مضاعفة الدعم الموجه لرغيف الخبز، وهي تكلفة فوق طاقة الموازنة المقعدة بعجز يصل إلي ثلث إجماليها، والمثقلة ـ أصلا ـ بأقساط وفوائد ديون خارجية وداخلية تفوق في حجمها إجمالي الناتج القومي.
ولا يملك حكم مبارك أن يسدد فاتورة القمح بغير استنزاف متعجل للاحتياطي النقدي الاستراتيجي، فقد كانت مصر قبل مبارك تستورد ربع احتياجاتها السنوية من القمح فقط، ومع تخريب الزراعة في سنوات حكمه، والتغيير العابث في التركيب المحصولي، فقد أصبحت مصر تستورد أكثر من ثلثي احتياجاتها من القمح، أضف: منتجات الطاقة التي تشتعل أسعارها، وتضاعف ـ أيضا ـ فواتير دعم نقدي سنوي تقدر بخمسين مليون جنيه مصري، فرغم أن مصر بلد مصدر للبترول والغاز الطبيعي، إلا أن انحطاط الصناعة ـ ووأد تطورها ـ جعلها في قائمة المستوردين لمشتقات البترول، وراكم أعباء مالية إضافية، فوق إهدار موارد مالية باتفاقات لصوصية مجحفة في صفقات الغاز الطبيعي بالذات.
أضف: تدهور قيمة الجنيه المرتبط حصريا بالدولار الأمريكي الذي يواصل انخفاضه دوليا، والدولار الآن ـ بسعر الصرف ـ يساوي خمسة جنيهات ونصف تقريبا، وكانت قيمة الجنيه قد نزلت إلي النصف بعد أول قرار اقتصادي لجماعة جمال مبارك لتحرير سعر الصرف في كانون الثاني (يناير) 2003، وهكذا تبدو الصورة مرعبة في تداعياتها، اقتصاد مفلس غير قادر علي توفير الحد الأدني من شبكة الأمان الاجتماعي مع تفاقم مشكلات الفقر والبطالة والعنوسة والغلاء، وتآكل القيمة الحقيقية للأجور، ونزول الغالبية العظمي من المصريين إلي ما تحت خط الفقر الدولي المقدر بدولارين في اليوم للفرد الواحد.
وفوق أزمة الاقتصاد القاتلة لفرص البقاء السياسي، تبدو فضائح النهب العام مدمرة لما تبقي من سمعة النظام المدمرة أصلا، آخر تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات يتهم الحكم بالإهمال وإهدار المال العام في تسعين بالمئة من مشروعات الدولة، والأموال تنزح بمئات المليارات إلي الحسابات الخاصة في الخارج، دوائر اقتصادية مستقلة ترتفع بالرقم النازح إلي 200 مليار دولار، وفي الكتاب الأكثر سوادا الذي أعدته حركة كفاية، بلغت قيمة الأموال المنهوبة في صفقات بيع الأراضي والمنشآت ثلاثة تريليونات جنيه مصري.
وفي الدائرة الضيقة من حول بيت الرئيس تبدو المأساة أفدح، فقد أوكلت للملياردير حسين سالم ـ ضابط المخابرات السابق والمقرب من الرئيس ـ مهام التصرف الأولي في موجودات شرم الشيخ، والتي يقيم الرئيس في قصورها أغلب الوقت، كما أوكلت لحسين سالم صفقة تصدير الغاز لإسرائيل، وبأسعار مجانية تقريبا، وجري تحصين الصفقة من مجرد النقاش ـ دعك من الرقابة ـ في مجلس الشعب، وإلي حد أن الوزير مفيد شهاب رد علي نواب المعارضة والإخوان ـ أخيرا ـ بأن بيانات الصفقة سرية، ولا يصح الكلام فيها لأنها مرتبطة بمذكرة تفاهم سري، وليس باتفاقية دولية يجوز إعلانها ومراقبتها، وهو ما دفع نائبا معارضا لوصف كلام شهاب بأنه قد يصح في قهوة بلدي لا في برلمان، وعقب فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري علي النائب بعتاب، وحذف كلامه من المضبطة، ونصح النائب أن يستخدم كلمة غرزة بدلا من كلمة القهوة البلدي ، و الغرزة ـ في مصر ـ مكان سري منعزل لتعاطي المخدرات وتدبير الجرائم.
والكلام مفهوم بإيحاءات القصة كلها، فليس من حق أحد أن يتحدث عن الرئيس ولا عن أصدقائه، ولا من حق أحد أن يتحدث عن الصفقات لإسرائيل، فلها نفس المزايا السيادية المتاحة للرئيس في مصر، فشبكة الفساد موصولة بخيوطها إلي شبكة الخيانة بالغاز وبغيره، إنها علامات الساعة التي تبدو في البرلمان خالي المقاعد أغلب الوقت، وإلي حد أن هدد فتحي سرور بإغلاقه ربما لفتح غرزة بحد وصفه البليغ! فلم يعد النظام ـ علي ما يبدو ـ في احتياج إلي شكليات برلمانية انتهت بالعوار المفضوح، ويفضل اللجوء المباشر إلي قوة الأمن العاري من ادعاءات السياسة، وهو ما بدا ظاهرا حتي في انتخابات المحليات المقررة في 8 إبريل، فقد أعدت القوائم ـ 52 ألف شخص ـ في بيت الرئاسة، وجري تكليف أحمد عز ـ ملياردير الأونكل ـ بالإشراف علي الصفقة واتاواتها، وجري تكليف جهاز مباحث أمن الدولة برعاية التفاصيل، وجري منع ترشح الإخوان بالجملة، بل وجري منع أعضاء الحزب الوطني الآخرين من الترشح، وخيفة أن يكونوا إخوانا! وهو ما يعني أن الرئيس فقد الثقة حتي في إدارة حزبه، وانتهي إلي حكم منزوع السياسة، والتجأ إلي تكليف جهاز الأمن الداخلي بمعارضة المعارضة والإخوان، تماما كما لجأ إلي الجيش ـ لا القضاء الطبيعي ـ في المحاكمات العسكرية المتصلة بالإخوان.
والانكشاف الاقتصادي والسياسي لحكم مبارك، ولجوؤه المطرد إلي قوة الأمن وقوة السلاح، ودون غطاء من سياسة، ولا مقدرة علي تجديد الرضا الاجتماعي، كلها من عوارض الأيام الأخيرة، بمعني أننا بصدد ألعاب أخيرة لنظام ذاهب، أما ما يجري في الشارع فتلك قصة أخري، فثمة نظام يتراجع إلي خط الكفاف الأمني، وثمة شعب يصحو من غيبوبة، ويتقدم ـ في اطراد ـ إلي عصيان ومقاومة مدنية سلمية، وإلي انتفاضة تستعجل الساعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى