كتساح الاسلاميين أول برلمان مصرى بعد الثورة، كان القاسم المشترك فى أحاديث المصريين بعد انتهاء الجولة الأولى من الإنتخابات، يقابله حصيلة مثيرة للشفقة للأحزاب الليبرالية والمدنية.
والإكتساح المعنى هو ذلك الفوز الكبير لحزب حركة الاخوان المسلمين المعروف بالحرية والعدالة ومعه حزب النور السلفى بنسبة تفوق الثلثين من جملة مقاعد المرحلة الأولى للإنتخابات المصرية.
قدرات تنظيمية وأموال
وهو الفوز الذى أثار بدوره نقاشا حادا حول ما ستحمله أحزاب الاسلام السياسى إن حكمت منفردة. وأثار أيضا البحث فى أسباب فشل القوى المدنية قديمها ممثلا فى حزب الوفد العريق وجديدها ممثلا فى أحزاب تشكلت بعد الثورة سواء بجهد قيادات شبابية أو رموز فى الحياة العامة. لكن المتفق عليه هو أن هذا الفوز للاسلام السياسى كان متوقعا ومنتظرا لاسباب موزعة بين عناصر قوة تنظيمية وشعبية لكل من الاخوان والسلفيين تحديدا، ومعها خبرة فى الانتشار بين الفئات الشعبية والتواصل مع الجموع من طبقات مختلفة، بالاضافة إلى بناء هيكل تنظيمى محدد الصلاحيات فى كل مستوياته، وقيادة محددة واجبة الطاعة من الاتباع والاعضاء.
وكذلك أسباب أخرى تتعلق بأخطاء كثيرة وقع فيها المنافسون من القوى المدنية حيث غاب الإستعداد الجيد لمنافسة انتخابية فى ظل بيئة انتقالية غير محددة الملامح، ناهيك عن منظمات الشباب التى ظهرت بكثافة شديدة بعد سقوط نظام مبارك السابق، ولم تجهز نفسها جيدا للإنتقال من حالة الثورة المستمرة فى الميادين والساحات إلى حالة تحقيق أهداف الثورة عبر المؤسسات والعمل المنظم والمنهجى وفقا لما تقتضيه اعتبارات إدارة دولة فى حال انتقال من الإستبداد إلى الديموقراطية والمشاركة الشعبية.
الفوز والفزع
المهم أن هذا الفوز اثار فزع قوى مدنية عديدة، وظهرت المطالبات بأن يقدم الاخوان رسائل طمأنة للجميع بأنهم لن ينفردوا بكتابة الدستور وسيحافظون على التوافق مع الاخرين. ولم يقف عند هذا الموقف، فقد بشر الكثير من السياسيين بأن المرحلة المقبلة ستشهد صداما بين الاخوان والمجلس العسكرى لا محالة.
وجاء انسحاب الاخوان من المجلس الإستشارى الذى شكله المجلس العسكرى من عدد من الرموز السياسية والفكرية والاعلامية لتقديم المشورة والتوصيات للمجلس العسكرى قبل الاقدام على إصدار تشريع أو قرار يهم الجميع، ليعطى مبررا أكبر بأن الاخوان ومعهم السلفيين يشحذون الهمم من أجل معركة "كسر عظم" مع المجلس العسكرى سواء بالنسبة لتشكيل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور او بانسبة لصلاحيات البرلمان المقبل.
ونظرا لأن الأمر يحتوى على مخاطر قد تطيح بالأخضر واليابس، فقد ظهر الاخوان أكثر حرصا على تهدئة الجميع وإنكار النية فى الصدام مع أي كان، مما هدأ الأمر قليلا. لكن المتربصين لم يتوقفوا بعد عن الإلحاح بأن المستقبل سيأتى ومعه "انقلاب كبير". وإن تراجع الاخوان والسلفيين فى ضوء تطمينات المجلس العسكرى التزامه نقل السلطة فى موعدها وأن مجلسه الإستشارى بلا صلاحيات تشريعية، فسوف يهدأ الامر أكثر وأكثر ولو إلى حين.
بيئة مختلفة تماما
جدير بالذكر ان هذه الانتخابات التى انتهت مرحلتها الاولى وما زال هناك مرحلتان، تجرى فى ظل بيئة قانونية وسياسية لم تعهدها مصر من قبل، أبرز ملامحها أنها تتم تحت حكم يقوده عسكريون بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى خوّله الرئيس السابق إدارة شؤون البلاد بعد رحيله عن المشهد السياسى، وهم العسكريون الذين تعهدوا بتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة تكتمل حلقاتها مع انتخاب رئيس للبلاد قبل نهاية يونيه 2012.
ورغم وضوح هذا التعهد وتأكيده أكثر من مرة وبصيغ مختلفة، فقد ظل هناك ـ لاسيما من ائتلافات الشباب وبعض السياسيين المشهورين بالقدرة على التحريض الدائم بلا انقطاع ـ من يشكك فى إنجاز هذا التعهد، ويشكك بالتالي فى إتمام الإنتخابات أصلا.
ولذا جاء النجاح فى المرحلة الاولى وفقا للموعد المعلن ليسكب دشا باردا جدا على هؤلاء، وليضيف شعبية أخرى وتأييدا للمجلس العسكرى لدى فئات الشعب البسيطة، التى طالما حُرمت من حقوقها السياسية والانتخابية تحديدا، وكانت فرصة بالنسبة لهم أن يعيشوا لحظة الإختيار الحر دون ضغوط من أحد. وتمثل ذلك فى مشهد عجيب فاجأ الجميع حين طالت طوابير الإنتظار من الرجال والنساء من كل الأعمار أمام اللجان الانتخابية لساعات طويلة دون ملل أو شكوى. وساعد على ذلك حالة الإنضباط الأمنى حول مقار اللجان الانتخابية بفعل انتشار جيد للشرطة والقوات المسلحة.
مشاركة شعبية كبيرة
كانت المشاركة الشعبية الكبيرة بنسبة زادت عن 62% فى المرحلة الأولى من الإنتخابات أمرا ملفتا للنظر عكس شوق المصريين لممارسة حقوقهم التى حُجبت عنهم قسرا فى العهد البائد، وكانت دليلا على الرغبة فى الفعل الايجابى فى ظل بيئة سياسية تتسم بالتعقيد وعدم الوضوح وسيادة اللايقين بشأن المستقبل.
جزء من تميز هذه الانتخابات هو فى اشتمالها على منافسة قوية بين أحزاب متنوعة فكريا وإيديولوجيا وشعبيا، ولكل منها فرصة فى التحرك فى أى اتجاه وفقا لقدراتها الذاتية، فضلا عن كونها جميعا بعيدة عن السلطة، واختفاء الحزب المهيمن سياسيا، وحيادية أجهزة الدولة لاسيما الإعلام الرسمى والأجهزة المحلية فى المحافظات والنجوع ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع وامتناعها عن التدخل لصالح أى طرف، واختفاء التزوير اللهم فى حالات شخصية عابرة ومحدودة جدا وتم كشفها من قبل القضاة المشرفين لأول مرة على كل مجريات العملية الإنتخابية من خلال لجنة عليا يرأسها رئيس محكمة الإستئناف، وهى المحكمة الأقدم فى مصر والعالم العربى.
فى الوقت ذاته لم يكن للداخلية التى احترفت فى السابق "طبخ" الإنتخابات على هوى الحزب الوطنى الحاكم سابقا والمنحل حاليا، أى دور اللهم تأمين وحماية المقار الإنتخابية من خارجها، ومنع أي تعديات على القضاة من أي طرف كان.
ولكل ذلك، صال الاعلام بأشكاله المختلفة المرئية والمسموعة والالكترونية وجال فى مساحة رحبة بدون أي ضغوط لمتابعة كل صغيرة وكبيرة فى العملية الإنتخابية، محللا مسيرتها ومتابعا نتائجها أولا بأول.
النتائج المثيرة
وكما كانت بيئة جديدة فى كل مفرداتها، تدين للثورة وشهدائها ومصابيها الكُثر، كانت نتائجها مثيرة ومفاجئة لكل من راهن على توقعات لا يسندها رديف شعبى ومجتمعى. وإذا كان فوز حزب الحرية والعدالة التابع للاخوان المسلمين بنسبة تقترب من 43% منفردا، يمكن تفسيره فى ضوء القدرات المالية والتنظيمية والانتشار وحجم العضوية والتضحيات على مدار عقود طويلة وحالة تعاطف شعبى نسبى ورغبة فى منح الاخوان المسلمين فرصة للحكم لاختبار مقولاتهم وشعاراتهم، فإن صعود حزب النور السلفى كان بمثابة الحصان الأسود، أو مفاجأة المفاجآت.
فقد اقتنص الحزب الناشئ ما يقرب من 20% من الأصوات، وهو الذى ظهر للنور بالفعل بعد الثورة واستند إلى تراث فكرى ودينى للسلفيين كان يحرم سابقا أى انخراط فى العمل السياسى، وكان يُحرّم الخروج على الحاكم، وكان يتعامل مع المؤسسات الامنية للنظام السابق بكل أريحية ودون خجل، وكان يحرم مجرد النطق بلفظة الديموقراطية أو الحزبية باعتبارهما من عمل الشيطان ويكاد المؤمن بهما أن يكون شيطانا ملعونا فى الدنيا وكافرا فى الآخرة.
أما بعد الثورة فقد اختلف الحال، واصبح انخراط السلفيين فى العملية السياسية والمشاركة فى الانتخابات أمرا إيجابيا وشرعيا، فسره كبار شيوخها بأنه من أجل حماية الشريعة وهوية البلاد الدينية ولعدم ترك الساحة لليبراليين والديموقراطيين يعيثون فيها فسادا، أو يحتكروا كتابة الدستور الجديد ان كانوا وحدهم أو غالبيتهم فى البرلمان.
أما مفاجأة النسبة التى تقارب خُمس عدد أعضاء البرلمان فى المرحلة الأولى، فقد فسرها المنافسون بأنها نتيجة طبيعية لهطول كميات من الأموال من دول خليجية كل همها أن يسود الفكر السلفى فى مصر، من خلال دعم ومساندة الجمعيات السلفية بلا حدود.
مفاجأت الاقباط والليبراليين
أما مفاجآت المنافسين من الليبراليين ودعاة الدولة المدنية فكانت عديدة، لعل أبرزها تلك المشاركة الواسعة للأقباط في التصويت بنسبة تقارب 70%، فى سابقة لم تحدث من قبل، فيما دل على أن الأقباط باتوا يشعرون بمسؤولية كبيرة تجاه أنفسهم وتجاه وطنهم فى آن واحد، وهو ما جاء تعبيرا عن رغبة فى الخروج من عباءة الكنيسة إلى رحابة الوطن.
لكن الحديث الذى شاع عن وجود قوائم بأسماء محددة شارك فى وضعها قساوسة من الكنيسة الارثوذكسية على أن يلتزم بها الأقباط فى تصويتهم، قد فجر قضية كبرى تتعلق بانخراط الكنيسة فى الشأن السياسى المباشر خلافا لما يقتضيه القانون، وهنا أثار البعض ما اعتبره حق الاقباط فى أن يشكلوا حزبا مسيحيا، فيما فضل آخرون أن يشارك الأقباط فى الحياة السياسية من خلال الأحزاب الموجودة بالفعل دون أن يحصروا انفسهم فى حزب مسيحى قد يكون مستهدفا من قبل أحزاب أصولية متطرفة.
أما حزب المصريين الأحرار الذى أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، وبرغم حداثته النسبية وكذلك الاحزاب التى شاكته فى تكوين تحالف الكتلة المصرية، فقد حقق مفاجأة ان يكون فى الترتيب الثالث قبل حزب الوفد الليبرالى العريق، فيما قيل أن أصوات الاقباط كانت السبب وراء هذا الترتيب بنسبة فى حدود 14 % من جملة المقاعد.
توقعات وتكهنات
وفى ضوء هذه النتائج، بات الحديث عن توقعات التصويت فى المرحلتين الثانية والثالثة محصورا فى اتجاهين، إما أن يستمر الإتجاه على حاله ويفوز الإسلاميون بنسبة الثلثين أو ربما أكثر من المقاعد في مجلس الشعب، وهنا يصبح البرلمان الجديد تحت تأثير طاغ لتيار بعينه، وإما أن يتغير الإتجاه قليلا لصالح القوى المدنية عموما، التى وجدت أن عليها مراجعة الكثير من طريقة معالجتها للإنتخابات، فكان أن اجتمع ناشطون وسياسيون وقرروا بناء تيار "المبادرة الايجابية"، التى يختصر دورها فى وضع قائمة بأسماء محددة تكون معبرة عن الثورة، ويتم التوافق الحزبى عليها من أجل دعمها فى الدوائر التى تخوض فيها الإنتخابات.
وبينما ظهرت الإعلانات الجذابة فى وسائل إعلام مختلفة تجتمع على دعم ستين مرشحا، أنكرت "الكتلة المصرية" و"الثورة مستمرة" أي علم لها بهذا الجهد، وبدلا من التوافق على مرشحين ذوى فرصة كبيرة فى الفوز، تحول الأمر إلى شجار ربما يعكس نفسه سلبا على حظوظ القوى الليبرالية للمرة الثانية، وكأن خبرة المرحلة الاولى عصيّة على فهم.. البعض!
د. حسن أبو طالب - القاهرة- swissinfo.ch
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى