فى رحاب السماء يرقدون وأرواحهم فى حواصل الطير أو فى مراتب السماء العلا تمر بميادين الكرامة تنتظر صرخة حرية لتطمئن إلى ما قدمته لوطنها فى الحياة الأولى، تنظر بشغف إلى الجباه النضرة الصلبة.. تمسح على جبين القلوب المخلصة الحرة.. ترفرف على النفوس النقية الطاهرة.. تتحلق حول الإرادة الفتية الوطنية، تندهش من نشاز فرقة النفاق: «عاش الملك.. مات الملك».
فى دولة الظلم.. الشهداء هم مجرد أرقام لكنهم لدينا تفاصيل وحياة وقسمات وتواريخ، ولو توقفت أمام أنات وعبرات ذويهم ستفيق وتتأكد أنك فرّطت فى حقوقهم، وتنكرت لجمائلهم، وخنت دماءهم، فأول الخطيئة نسيان قد ينتهى بنكران.
نبحث عنهم فى صفحات لأنهم يستحقون منا أكثر من مجرد التذكر، فمن يمنحك الحياة، وقبلها الحرية، فأنت أسيره، لأن دماءه الذكية دفعت عنك يد البطش الغليظة، وعبّدت الطريق إلى الحياة، فروت الأرض البور، ومنحت الوطن والنماء، وسارت بك إلى الخلاص.. أصواتكم أيها الشهداء كسرت حواجز الخوف والانسحاق، ورائحتكم زكت المكان والزمان، أعطيتمونا أعماراً أخرى وسنين أخرى فى دنيا لم تعرف سوى الظلم خلال 30 عاماً.
إنها حكايات منهم، وعنهم، ولهم، ترويها أشياؤهم وأماكنهم ومقابرهم وأمهاتم وآباؤهم ورفقاؤهم وأصدقاؤهم، وفيها تلعن الأم لحظات الفراق، وتشتاق الزوجة للحظة اللقاء ويتوق الصديق إلى عناق الأحباء، إحداهن ارتدت ملابس استشهاده، وثانية تحاول جاهدة كل مرة أن تفتح قبره لأنها تظن أنه لم يمت، وأخرى تبحث عنه فى غرفته فلا تجده فتخرج منها «آه» تزلزل كونها.
تلميذة عماد عفت تتحدث عن أربعين يوماً من الرحيل، وابنة صلاح جاهين تعاتب الشيخ على أنه ذهب دون أن تعرفه أكثر، ووالدة بهاء السنوسى تبكيه نثراً: «حبيبى، إنى افتقدك كثيراً، لقد كنت أراك طفلاً جميلاً، وملاكى الرحيم الذى يشملنى بعطفه ويعيننى على الصبر والمكاره»، وتنسج رانيا شاهين وعدا بالكلمات لزوجها «طارق عبداللطيف» بألّا تفرط فى غد أفضل مات من أجله.. وتسأل ميريت بكير شقيقها زياد: يا زيزو أنا مش هاسألك ليه مشيت وسبتنى، بس عايزة أسألك: أجيلك إزاى؟.. وتتوسل ڤيفيان مجدى أن يساعدها خطيبها «مايكل مسعد» فى سداد دينه ودين كل المصريين الذى ذهبوا من أجل حريتنا.
ويزيّن مريد البرغوثى الصفحات بأبياته التى تشهد بأنهم «خلقوا أصلاً للبهجة»، ويدوّن «كأنك جسر بين ضفتى الحزن والمسرة».
إنها كلمات لمصر.. للوطن.. للإنسانية.. للتضحية.. للثورة.. للكرامة، نبدؤها برائعة الأبنودى «إوعوا فى هوجة الكلام.. دم الشهيد تنسوه»
والدة «مصطفى» أول شهيد فى الثورة: الحزن «قايد» فى قلبى.. والدم مايقبلش التصالح
لا يعرف المصريون قرية «عامر» الصغيرة على أطراف مدينة السويس، لكن فى هذه القرية شقة بسيطة من إسكان المحافظة الشعبى، تسكن فيها أرملة ثكلى و4 بنات، فقدن جميعاً الظهر والسند، منذ أغلق الشهيد «مصطفى رجب» باب بيته وتوجه يوم الثلاثاء 25 يناير إلى ميدان الأربعين فكانت رصاصات الشرطة أقرب إليه، نقلت رصاصة فى القلب روحه إلى جوار ربه، ولحق بوالده المتوفى قبل عام.
غرق «مصطفى» فى دمائه، التى كانت أول وقود لثورة ميادين مصر، وانتقل الغضب الساطع الآتى من ميدان الأربعين إلى ميدان التحرير حاملاً نبأ استشهاده و3 آخرين من مدينة السويس المقاومة، وكان الشهيد، الذى لم يكمل (21 عاماً) من شبابه هو «بوعزيزى مصر»، الذى لا يعرفه الكثيرون.
«بعد عام من استشهاده، لا يزال البيت ساكناً، إلا من صراخ طفل وليد يحمل نفس الاسم (مصطفى)».. هكذا أصرت الشقيقة الكبرى «حنان» على تسميته تخليداً لذكراه، تجلس الحاجة «كوثر» على «الكنبة» نفسها التى كان يتمدد عليها الابن. تقول الأم - وهى تغالب الدموع - «فاكرة آخر كلامه ليلة وفاته، حذرته من النزول للأربعين قال لها نازل مع أصحابى ومش رايح هناك». تفاصيل اليوم محفورة فى الذاكرة، ساعات وبدأ الضرب، صوت الرصاص يخلع قلب الأم، وفى المساء كانت تسأل الجيران عن سر بكائهم حتى وجدت نفسها فى المشرحة وجهاً لوجه مع الشهيد ورصاصة فى قلبه أسكتت ضحكته إلى الأبد، وأغلقت باب البيت على 4 بنات وأم مفجوعة فى وحيدها وسندها عند الشدائد.
أسألها عن شعورها بعد عام من الثورة ورحيل ابنها وقد نال المتهمون بقتل المتظاهرين فى السيدة زينب البراءة، فتسبقها الكلمات: «الحزن قايد فى قلبى.. مش هاطيق سماع خبر عن براءة من قتل ابنى، ومش هاسكت، لو حصل يبقى مافيش عدل، يعنى مبارك يبقى رايح جاى فى الهليكوبتر وأولادنا لم يجدوا سيارة إسعاف تنقلهم للمستشفى»، تصمت برهة ثم تضيف: «المحاكمة هزلية، ومنظر الطائرة مستفز لأهالى الشهداء وأبناء مصر كلهم».
لم تكن «كوثر» مُتابعة جيدة للسياسة، لكن الأحداث التى خطفت ابنها فى الثورة جعلتها تتابع الفضائيات، وتشيد بمواقف شباب الثورة، ويحزنها أحاديث قبول الدية وتقول: «الدم ما يقبلش التصالح»، وربما بدافع من خوفها على فوات حقها فى القصاص، رفضت «كوثر» أى شقق أو مبالغ أو تعويضات من الحكومة «حتى لا يكسروا عينى»، هكذا تقول، وتستدرك «أخدنا معاشاً من جمعية الشيخ حافظ سلامة فقط، لأنه لا يضغط علينا ونثق فيه تماماً»، أسألها «لكن غيرك من أسر الشهداء أخذوا تعويضات هى من حقهم وتمثل أقل ما يمكن تقديمه لهم»، تتمسك السيدة بموقفها وتسرد كيف حاول بعض المخبرين والضباط والأطباء فى مشرحة مستشفى السويس العام الضغط عليها للإقرار بأن سبب الوفاة طبيعية، تتذكر هذا اليوم وتقول: رفضت إخفاء الحقيقة.. حقيقة أن الدم كان يغرق درج الثلاجة التى وضع فيها مصطفى، ونتيجة لمحاولات طمس الحقيقة سقط شهداء آخرون، حتى يرى تقرير إصابة «مصطفى» النور، ودون الأطباء سبب الوفاة «طلق نار فى الصدر»، ترنو «أم مصطفى» إلى صورة كبيرة لابنها معلقة على الجدار، يرتدى فيها ملابسه نفسها التى لقى فيها ربه وتتمتم «مش هاسيب حقك يا مصطفى يا ابنى»، ثم تخلد إلى صمت أليم.
لم تكسر صمتها محاولات التهدئة والتذكير بأن «العوض عند الله»، وقد سردت عليها كل ما أسعفتنى الذاكرة من عبارات المشاطرة، إلا أن رغبتها فى الحديث عادت حين طلبت أن تحكى كيف كان يقضى «مصطفى» وقته مع إخوته، تقول «كان مفرفش ودائم الضحك»، وساعدنى فى تجهيز أخته الكبرى، وبعد وفاة والده، الذى كان موظفاً فى شركة أسمنت السويس، خرج «مصطفى» من التعليم إلى العمل عند مقاول فى نفس الشركة بلا أى تأمينات، كان وهو فى الصف الثانى الإعدادى يشعر بعد غياب والده أنه رجل البيت.
حال أم مصطفى كالرحالة، من محكمة إلى أخرى، لا تتابع جلسات محاكمة المتهمين بقتل ابنها فقط، بل كونت مع باقى أهالى الشهداء فى السويس رابطة وعلاقة من نوع خاص، تقول عنها «الهم المشترك جمعنا».
تعتقد الحاجة «كوثر» بعد عام على رحيل ابنها أن الثورة لم تكتمل، لأن حق شهدائها لم يعد، وتستدرك - بعاميتها البسيطة - «صحيح بدأت الأوضاع تتعدل، لكن مش كفاية إن مصر يحصل فيها انتخابات كويسة، وظلم الشرطة قل، بس زملاء (مصطفى) بلا عمل»، ويعاودها الانفعال حين نأتى على ذكر «إبراهيم فرج»، رجل الأعمال المتهم بقتل 18 من أبناء السويس قبل عام، وحصل على حكم بإخلاء سبيله قبل أيام، «معقولة ما يحدث، طيب مين قتل هؤلاء الشباب، أنا أطالب القضاة بالعدل، ولو نزل إبراهيم فرج السويس هيموت»، تشير الأم المكلومة قائلة «إذا قصرت النيابة أو لم تكف الدلائل فى إدانة المتهمين، سيحصل الأهالى على حقوقهم بأيديهم».
أختم زيارتى بسؤال عما تود قوله للمشير حسين طنطاوى فى ذكرى الثورة، فتجيب: «أريده أن يشهد الحق، ويعلن من أصدر أوامر إطلاق الرصاص»، لملمت أوراقى وخرجت، أغلقت الباب خلفى على أحزان بيتها، مضى عليها عام حزن أشعل فيه «مصطفى» فتيل الثورة ثم رحل، لكن حقه لم يعد حتى ساعة تاريخه، تتساءل الأم: «هل اكتملت إذن الثورة؟!».
المصرى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى