تطورات الأسبوع الماضى سلطت الضوء على أحد أكثر المشكلات مركزية فى المشهد السياسى، وهى أن القانون كما تفسره المؤسسة القضائية يمثل عقبة فى سبيل استرداد السيادة للشعب ومؤسساته المنتخبة، والقبول بهذه التفسيرات قبول بالردة لنظام مبارك، وبالتخلى عن أصل فكرة الثورة، وإيجاد المخارج من ضيق هذه التفسيرات واجب رئيس للمنادين بالتغيير.
فالثورة هى بالتعريف عمل غير قانونى، تقوم به الجماهير فتزيح النظام السياسى ومؤسسات الدولة المستخدمة فى القمع، فلم يكن خلع مبارك ولا حرق الأقسام ولا تعطيل المصالح والأعمال بل ولا التظاهر قانونيا، بل نصت قوانين كثيرة على تجريم هذه الأعمال ووضعت لبعضها عقوبات مغلظة، ولكن هذا الخروج على الشرعية الدستورية كان مشروعا، لأنه يستند إلى شرعية أعلى مستمدة مباشرة من الجماهير صاحبة السيادة، ومن مطالبات بحقوق أساسية أهدرها نظام مبارك، فشكلت الجماهير بمطالباتها الشرعية الثورية، وعملت الثورة فى كل لحظاتها ضد غابات من القوانين بعضها صيغت لتقنن الفساد وتحمى المفسدين وتبقى العزلة قائمة بين الشعب وإدارة مقدراته، فعدلتها أحيانا وتجاهلتها بالكلية فى أحيان أخرى.
ومشكلة الثورة ليست فى نفس القوانين فحسب، وإنما فى تفسيراتها، فالنصوص والمواد القانونية تحتكر المؤسسة القضائية تفسيرها، وتلك المؤسسة فى مجملها ليست مستقلة، بل هى جزء من القلب الصلب لأجهزة الدولة التى طوعها نظام مبارك لخدمة مصالحه، وتشكل ــ مع الشرطة والمخابرات والإعلام والمالية والدفاع ــ شبكات المصالح التى تقاوم التغيير وتحاول استبقاء السيادة بعيدة عن أصحابها الأصليين، وهو ما يعنى أن المؤسسة القضائية مسيسة، لا بسبب دخول بعض قياداتها ــ كبعض مستشارى المحكمة الدستورية ــ صراحة كأطراف فى الصراع الحزبى والسياسى فحسب، وإنما بسبب القوانين التى تمنع الاستقلال الحقيقى للقضاء، وشبكات المصالح التى جمعت بعض المؤسسة القضائية بغيرها من تلك المؤسسات، والتى أعلت من شأن عدد كبير من القضاة بسبب ولائهم للنظام السابق.
وتناقض الثورة والقضاء ظهر جليا فى الأزمة الأخيرة، فحكم المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون المنظم للانتخابات البرلمانية جاء سريعا، فى جلسة واحدة، وصدر فى اليوم الأخير قبل الانتخابات الرئاسية التى كان المفترض أن ينسحب بها المجلس العسكرى من المشهد السياسى، ثم صدر الحكم الآخر من المحكمة بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية بدعوة البرلمان للانعقاد، وصدر أيضا فى جلسة واحدة، رغم أن قرار الرئيس لم يتعلق بحكم المحكمة (وهى محكمة نصوص، تحكم بالدستورية وعدمها) وإنما بصيغة تنفيذ هذا الحكم (الصادرة عن المجلس العسكرى، والتى قضت بحل البرلمان فى اليوم التالى للحكم ونقل السلطة التشريعية للعسكر)، ورغم أن هذا القرار الجمهورى هو من أعمال السيادة التى كانت المحكمة الدستورية قد قضت فى أحكام سابقة بعدم جواز تدخلها فيها، وهذا الحكم ــ مع حكم المحكمة الإدارية السابق ببطلان تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور ــ يضع مبدأ الفصل بين السلطات على المحك بتدخل القضاء فيما يدخل فى نطاق عمل السلطتين التنفيذية والتشريعية على التوالى.
واستخدام المؤسسات غير المنتخبة القانون للحفاظ على مصالحها غير مقتصر على الأحكام القضائية سالفة الذكر، بل يمتد ليشمل الإعلان الدستورى المكمل، الذى أصدره العسكر قبيل انتخابات الرئاسة، ليستعيدوا سلطة التشريع، ويقننوا استقلال المؤسسة العسكرية عن السيادة الشعبية وعدم خضوعها لتمام الرقابة من المدنيين، ويحكموا قبضتهم على ملفات السيادة بعيدا عن المنتخبين، ويفتحوا الباب أمام تدخلهم فى صياغة الدستور الجديد لحذف أى مواد تغير من الوضع القائم وتهدد مصالحهم، ووصل الأمر لأن صارت المحكمة الدستورية صاحبة الكلمة الفصل فى الصياغات القانونية، وهى المختصة ــ بالتعريف ــ بالنظر فى القوانين من حيث اتساقها مع الدستور لا بالنظر فى نفس الدستور، وقد صدر هذا الإعلان المكمل من غير ذى صفة (فالمجلس العسكرى فقد سلطة التشريع الأدنى فى يناير الماضى، فإذا به يعطى نفسه أعلى سلطات التشريع وهى التشريع الدستورى)، وصدر بغير استفتاء رغم النصوص الدستورية الصريحة بأن الشعب هو صاحب السيادة، وهو وحده مصدر السلطات جميعا، وقد صار هذا الإعلان المعيب أصلا يرجع إليه، وتعتبره المحاكم فى أحكامها، رغم افتقاده الشرعية الديمقراطية والحجية القانونية من الأساس.
والمشكل الرئيس هو قبول طرفى المشهد استخدام القضاء والقانون كأداة فى الصراع السياسى، وهذا الأمر ــ إن كان متوقعا من أجهزة نظام مبارك ــ فإنه مستغرب من قوى التغيير، والتى يعنى قبولها بهذا التحاكم فى الشأن السياسى، ومن غير تطهير للمؤسسة القضائية، وترسيم الفواصل بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية بشكل أكثر وضوحا، الرضا بالعودة لنظام مبارك وأدواته، والسبب الأساسى فى ذلك أن الرئيس المنتخب ينتمى لحزب يتسم بالمحافظة السياسية الشديدة، التى تؤدى لتردده فى الخروج على القواعد الحاكمة للعبة، ولما أقدم على ذلك أخذ خطوة وتردد فى الثانية.
وثمة مخارج يمكن للمؤسسة الرئاسية والقوى الراغبة فى استعادة السيادة من غير المنتخبين اللجوء إليها للخروج من حصار الأحكام المقوضة للديمقراطية، وكلها يقوم على رد الأمر لأهله، فالسيادة ليست لغير الشعب، وهو صاحب الكلمة العليا والشرعية الأكيدة، ورد الأمر إليه يكون باستفتائه على ما تعاند فيه المؤسسات غير المنتخبة، فيمكن إجراء استفتاء على الصيغة التنفيذية لحكم عدم دستورية قانون الانتخابات: أيكون بالحل الفورى للبرلمان وتعطيل سلطة التشريع أو تمكين غير المنتخبين منها، أم بتأجيل الحل لحين وضع قانون جديد متماش مع الدستور تجرى على أساسه الانتخابات، ورد الأمر لأهله ــ من باب أولى باستفتاء حول الإعلان الدستورى المكمل، وإذا كان المجلس العسكرى ــ بصفته القائم بمهام رئيس الجمهورية ــ قد أصدر هذا الإعلان الدستورى، فإن الرئيس المنتخب ــ من باب أولى باعتباره الأصيل لا الوكيل يملك نقضه، خاصة إذا تم ذلك بالاستناد لأصحاب السيادة.
إن سيادة الشعب هى الأساس الذى تقوم عليه التشريعات، فإذا كانت شبكات المصالح المتحكمة فى الدولة تستخدم القانون فى الحفاظ على مصالحها ووجودها فإن سبيل الأطراف الراغبة فى التغيير فى تجاوز ذلك لا ينبغى أن يقتصر على صحة الموقف القانونى، أولا لأن القوانين القائمة وضعها نظام مبارك للدفاع عن نفسه فيكون القبول باللجوء إليها قبولا بقواعد غير عادلة وغير ديمقراطية، وثانيا لأن المؤسسات التى تقوم على تفسير هذه النصوص هى الأخرى غير مستقلة بالقدر الكافى عن هذه الشبكات، وإنما يجب أن يكون السبيل فى استعادة السيادة للشعب العودة إليه وإشراكه فى القرار، وهو وحده صاحب الحق الأصيل فى التقرير، وفى إسقاط الشرعية عما لا يريده من هذه القوانين، لأنه صاحب الأمر.
السياسة بين الثـورة والقانـون - إبراهيم الهضيبى
قسم الأخبار
Fri, 13 Jul 2012 10:25:00 GMT
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى