"كان الباب في الباب"، هكذا تحدّث عبد العزيز عن محمد يوسف وأسرته للصحافي الأميركي جيمس بينيت، بعد أن تردد قليلا في الحديث عن غريمه السياسي وحاول التظاهر بعدم معرفة الكثير عنه. وكان الباب في الباب بالطبع قبل أن تفرِّق السُبل بينهما خارج عالم مخيّم اللاجئين الصغير في خان يونس، وإلى عالم السياسة في قطاع غزة وفلسطين بأسرها، فصار أحدهما قطبا بحركة فتح، والآخر قطبا ومؤسسا لحركة حماس.
لم يُعمِّر عبد العزيز طويلا ليرى الاسم الذي صنعه محمد في عالم السياسة الفلسطينية والإقليمية، فقد اختار طريقا آخر مغايرا لطريق محمد، لكنّ اسمه خُلد هو الآخر كأحد مؤسسي حركة حماس، وبعد استشهاده عام 2004 بضربة إسرائيلية(1).
عرفتْ الأسرتان بعضهما البعض جيدا، فيقول أحد جيرانهما إن والدة عبد العزيز اعتنت بمحمد في صباه، في حين يقول عبد العزيز نفسه -والذي يكبر محمدا بـ 15 عاما- إنه قدّم العلاج للجار الصغير حين كان صبيا كطبيب للأطفال. بيد أن تلك لم تكن الذكرى الوحيدة، فقد استعاد عبد العزيز ذكرياته السيئة أيضا في التسعينيات، حين أمر ياسر عرفات بتشديد القبضة الأمنية على حركة حماس فلقي عبد العزيز الرنتيسي مصيره سجينا، وشهد تعذيب آخرين على يد جهاز الأمن الوقائي بقطاع غزة، والذي لم يكن يرأسه سوى الصبي الصغير يوما ما: محمد يوسف دحلان.
الوكيل الإسرائيلي
في عام 2011 ضمن صفقة "وفاء الأحرار" لمبادلة الجندي جلعاد شاليط بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، خرج إلى النور محمد الشراتحة، أو "مهندس الخلية 101" كما يطلق عليه في الأوساط الفلسطينية، ليروي حكايا 23 عاما قضاها متنقلا بين الزنزانات الفردية وغُرف الاستجواب والتعذيب في سجون الاحتلال، ومن بين هذه الحكايات تشكلت خيوط البداية لقصة الرجل القوي، كما يُوصف دائما محمد دحلان.
الأسير المحرر محمد الشراتحة، الذي يصل مجموع الأحكام الإسرائيلية ضده إلى 352 سنة (مواقع التواصل)
التقى الاثنان في إحدى غرف الاستجواب في مطلع الثمانينيات، حين كان الشراتحة مسجونا بتهمة تهريب السلاح للمقاومة في قطاع غزة، بينما كانت تهمة دحلان هي "التحريض على العنف ضد الاحتلال". وفي سجون الاحتلال يتعلم كل الأسرى القاعدة الأهم "أنت لا تعرف من يستمع وإلى من تتحدث"، فالعملاء والجواسيس لا نهاية لهم، وهم يتربصون بالأسرى في انتظار كلمة واحدة يمكن الاستدلال بها على أي شيء خاص بالمقاومة، لذا كان الانهيار السريع لدحلان أمام الشراتحة، وإخباره بالتهم الموجهة إليه وعلاقته بعناصر الشبيبة الفتحاوية محط قلق الأخير، لكنه رغم قلقه استطاع اقتطاع وعد من دحلان بالثبات أمام المحققين، وعدم إخبارهم بأي مما قاله له كرفيق أسره الآن، لكنّ كليهما أدرك تبخر الوعد في اليوم التالي مباشرة، حينما أصبح قادة الشبيبة الفتحاوية جميعهم في سجون الاحتلال، بينما يتم استجوابهم في الغرفة المجاورة للشراتحة(2).
كان هذا العام مُحملا بقائمة طويلة من اتهامات طالت دحلان من كل من فتح وحماس، وكان عليه الاختيار بين البقاء ومواجهة هذه التهم في معركة قضائية، يتزعمها غريمه محمود عباس أبو مازن على رأس السلطة الفلسطينية، أو الرحيل لما سيوفر له باعا طويلا من النفوذ في المنطقة بأكملها.
نشأ دحلان في مخيم خان يونس للاجئين، وهي نشأة يمكن اختصارها في سؤال دائم حاول دحلان إجابته كثيرا "أين طريق الخروج؟". وكمئات الآلاف من ساكني المخيمات، بدأ تعليمه الجامعي في كلية التربية الرياضية في إحدى الجامعات المصرية، لكنه ما لبث أن تركها عائدا إلى غزة، حيث انتسب إلى الجامعة الإسلامية هناك -جامعة الأزهر حينها-، وشارك في تأسيس فرع الشبيبة الفتحاوية، الذراع التنظيمي والسياسي لحركة فتح حينها في القطاع، قبل أن يتم القبض عليه لانضمامه إليهم، ويُحكم عليه بخمسة أعوام قضاها في سجون الاحتلال ما بين 1981-1986.(3)
تزُعم الاتهامات الموجهة إلى دحلان بـ"العمالة للاحتلال" أن الأمر بدأ من هذه السنوات التي قضاها في السجن، فنجد أنه أتقن العبرية في هذه السنوات، وخرج بعد ذلك ليتم ترحيله مباشرة إلى الأردن، ومنها إلى مصر ثم العراق، وليستقر به المقام نهاية في تونس حيث قيادات حركة التحرير الفلسطينية فتح بزعامة عرفات. وإضافة إلى مشاركته في تنظيم أعمال الانتفاضة الأولى 1987، وهي مشاركة سينال بها ثقة عرفات، فسيُشكل العنصر المشترك في كل المفاوضات التي تمت فيما بعد بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، والبادئة أواخر الثمانينيات.
في عام 1991، أسس مؤتمر مدريد للسلام لمفاوضات بدأت بين حركة فتح كممثل رسمي عن الشعب الفلسطيني وبين سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وانتهت هذه المفاوضات بتوقيع اتفاقية أوسلو 1993، والتي تمثلّ أحد أهم مكتسباتها في عودة السلطة الفلسطينية إلى حُكم قطاع غزة وبعض أجزاء الضفة الغربية، وهو ما تم بالفعل عام 1994، وكان ياسر عرفات على رأس السلطة الفلسطينية الناشئة حديثا في الأراضي المحتلة(4).
رئيس الأمن الفلسطيني سابقا محمد دحلان والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (رويترز)
أسس الاتفاق أيضا لنشأة قوة شرطة فلسطينية، ووُكل إليها مهمة حفظ الأمن في الأراضي الفلسطينية بعد انسحاب جيش الاحتلال منها. قوة لم يكتف عرفات بها، وإنما وضع حجر الأساس لعدة أجهزة أمنية في غزة والضفة كان هدفها الرئيس إحكام القبضة الأمنية على الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت قيادته، بما يضمن تقويض قدرة الجماعات المعارضة لأوسلو -وعلى رأسها حماس- على القيام بعمليات قد تتسبب في إيقاف الانسحاب الإسرائيلي المتفق عليه من قطاع غزة وبقية أراضي الضفة، ويأتي على رأس قائمة الأجهزة الأمنية المنشأة حديثا "جهاز الأمن الوقائي"، جهاز أمر عرفات دحلان نفسه بتأسيسه(5).
كانت المهمة الأساسية لجهاز الأمن الوقائي هي الأمن الداخلي الفلسطيني، بما يشمل أمن جميع الأراضي التي تقع تحت أيدي السلطة الفلسطينية(6)، ورغم أن عناصر الأمن الوقائي الرئيسة في بداياته لم تكن سوى عناصر متفرقة من الجماعات المحلية المتنازعة سابقا في قطاع غزة والضفة بدون أية تدريبات عسكرية أو شُرطية كافية فإن هذا لم يمنع قيام هذه المجموعات -بأوامر من دحلان- بتنفيذ العشرات من حملات الاعتقالات، حملات أسفرت عن أكثر من ثلاثة آلاف معتقل من صفوف المقاومة الفلسطينية خلال الـ18 شهرا الأولى من بداية عمل الجهاز، وسُجلت معها أيضا العشرات من حالات إساءة استخدام السلطة، والسجن دون أحكام أو اتهامات واضحة، والتعذيب حتى الموت(7).
تمثل الجزء الأكبر من الاتهامات الموجهة إلى الأمن الوقائي في بداياته بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، والعمل كـ "وكيل لجيش الاحتلال" في الأراضي الفلسطينية، بل إن البعض قد فضّلوا الاحتلال على الأمن الفلسطيني؛ حيث لم يكن بإمكانهم معرفة التهم الموجهة إليهم أو مدة الاعتقال أو حتى توكيل محام للدفاع عنهم، وقضى العديد منهم شهورا طويلة في سجون الأمن الوقائي بلا معرفة التهم الموجهة إليهم، ولأن غالبية من تم القبض عليهم كانوا من الجماعات المعارضة لـ فتح وعلى رأسها حماس فقد شكّلت تلك المرحلة في منتصف التسعينيات حلقة البداية في تاريخ كراهية سيتمدد فيما بعد بين حماس ودحلان وتابعيه في الأمن الوقائي(8).
اتسعت قائمة الاتهامات الموجهة إلى دحلان مع تشكيل ما عُرف بـ "فرقة الموت"، وهي فرقة يُعتقد تشكيلها من مساجين ذوي محكومات عالية، أو ممن نالوا حكما بالإعدام، ليتولوا القيام بالعديد من العمليات المسلحة(9). عمليات شملت تصفية جسدية لبعض أعضاء الجماعات المعارضة للسلطة أو مساعدة تل أبيب على تنفيذها، كان أبرزها عملية اغتيال القيادي بحركة حماس محمود المبحوح في دبي عام 2010، حيث اُتهم القائد السابق لـ"فرقة الموت" أنور شحيبر بالتعاون مع عملاء الموساد منفذي العملية، وهي التهمة ذاتها الموجهة إلى دحلان(10).
لم يكن التعاون مع الاحتلال أمنيا فقط، وإنما تعداه إلى الجانب الاقتصادي أيضا. وقتها كان الأمن الوقائي مسؤولا عن المعابر الحدودية في قطاع غزة، وأهمها معبر كارني الواصل بين غزة وإسرائيل، وهو معبر خصصت الولايات المتحدة ما يقارب الـ 56 مليون دولار لتطوير البنية التحتية القائمة عليه.
كانت الثروة عنوان المرحلة الأولى من سمعة دحلان منذ توليه الأمن الوقائي عام 1994، وتفاوتت مستويات السمعة والاتهامات الملاحقة لها بين "الفساد والرشوة والتعاون مع المحتل وتلقي مساعدات أجنبية" (رويترز)
شهد مطلع 1997 فتح حساب بنكي جديد يتحكم فيه دحلان شخصيا، وتتكون عائداته من الضرائب المفروضة على العابرين بين إسرائيل وغزة من هذا المعبر فقط، ولأن واشنطن هي داعم تل أبيب الأهم فلم تكن تلك هي المساعدات الوحيدة المقدمة لقوات دحلان المصنفة كـ "موالية للاحتلال"، بل إن وحدات من "الأمن الوقائي" تلقت تدريبات عسكرية في الأردن ومصر، وكانت أميركا هي المانحة لتلك التدريبات(11).
لم تكن بقية المعابر استثناء من شبكة دحلان الأمنية، فقد أسست شبكته لنشأة شبكات تبييض وغسيل الأموال المجمعة من موردي السلع الأساسية فائقة الربح كالبنزين والسجائر، وأيضا أموال الحماية، وكذا عبور الشاحنات والأفراد، خاصة عناصر المقاومة المطلوبين من قِبل تل أبيب، وهو ما ولّد مئات الآلاف من الدولارات في حسابات دحلان وثروته الشخصية، ثروة قُدرت بـ 120 مليون دولار منتصف عام 2005.
كانت الثروة عنوان المرحلة الأولى من سمعة دحلان منذ توليه الأمن الوقائي عام 1994، وتفاوتت مستويات السمعة والاتهامات الملاحقة لها بين "الفساد والرشوة والتعاون مع المحتل وتلقي مساعدات أجنبية". لكن مطلع الألفية الجديدة شهد مستوى جديدا من الاتهامات، وكان أساسها السلطة هذه المرة، بينما تفاصيلها كانت صراعا نشأ داخل بيت فتح ذاتها مع ياسر عرفات.
الصراع
حينما اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، وضعت كلا من عرفات ودحلان في موقف حرج، فبينما جاء شرط "تقييد حماس والسيطرة عليها" على رأس قائمة شروط أوسلو، وهو ما عجز عنه عرفات بطبيعة الحال، وكذا أجهزته الأمنية الممولة من الولايات المتحدة والغرب، عاجزا عن وضع حد للعمليات المسلحة أو الاستشهادية ضد إسرائيل مع بداية الانتفاضة وقبلها، بينما تتراكم ثروات الأمن الوقائي من التمويل والمساعدات، تعلل دحلان بـ "استبداد عرفات بالسلطة"، وعدم قدرته على التصرف بشكل فعال دون موافقة عرفات، وموصلا لصورة عرفات كـ"حجر عثرة أمام إعادة ترتيب قوات الأمن وتجهيزها للقضاء على المقاومة"، لكن بُعدا آخر ارتبط بالمفاوضات التي كانت قائمة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في كامب ديفيد اكتسب معه الخلاف منحى جديدا.
كانت المفاوضات التي قام بنيامين نتنياهو بتجميدها أواخر التسعينيات لـ "عدم قدرة السلطة الفلسطينية على الوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل" قد تم استكمالها بداية الألفينيات عندما تولى إيهود باراك رئاسة الوزراء، لكن تل أبيب وخلفها واشنطن أدركتا أن عرفات لم يعد بإمكانه الإتيان بجديد على الساحة، وكان لا بد من تنحيته جانبا.
محمد دحلان، نبيل شعث، صائب عريقات، أحمد قريع، ياسر عبد ربه، وحسن عصفور في مفاوضات السلام الإسرائيلية الفلسطينية 2001 (رويترز)
تكمن الأزمة دائما في إيجاد البديل الفعال(12)، أو بمعنى أدق: إيجاد "بطل جديد" للفلسطينيين يعمل من أجل مصالح إسرائيل في الداخل، أو ينسق بفعالية كبيرة معها على أقل تقدير، وكان ذلك هو الوقت المناسب لدحلان للترويج لنفسه باعتباره البديل الأنسب.
أعلن دحلان انتقاده لسياسات عرفات خلال الانتفاضة، وهي سياسات رآها دوما "غير محكمة، ومنحت حماس مساحة واسعة للانتشار في الداخل الفلسطيني"، ما أهلها لكسب ثقة الفلسطينيين من خلال عملياتها العسكرية ضد الاحتلال، ثم طالب محمد بإعادة تشكيل حكومة جديدة يُعاد تعيينه فيها كوزير للداخلية، بصلاحيات أمنية تُمكنه من إعادة تشكيل قوات الأمن الفلسطينية وتجهيزها للمواجهات القائمة مع المقاومة. وبينما تمسك عرفات برفض المطالب اُضطر دحلان إلى تقديم استقالته عام 2002 على أمل أن يرضخ عرفات لمطالبه، وهو ما لم يحدث(13).
لم يُفلح العرض بتعيين دحلان كمستشار للأمن القومي لعرفات في كسب وده، فهو قد تخلى عن منصبه ليستمر في انتقاد رأس السلطة بحرية أكبر، وتوافق هذا مع ضغط من الولايات المتحدة -بإدارة جورج بوش حينها- على عرفات لإعادة تشكيل الحكومة، وأيضا مع ضغط إسرائيلي انتهى بحصار عرفات في رام الله، وقصف جميع مقار السلطة الفلسطينية في غزة والضفة.
لم يكن الحصار المفروض على عرفات برام الله إسرائيليا بحتا، ولعب بعض قادة فتح دورا في استمرار الحصار ومحاولة تهميش عرفات، وتقديم أنفسهم كبديل عن السلطة الفلسطينية في التفاوض مع الاحتلال، وأُطلق على هؤلاء القادة "عصابة الخمسة": حسن عصفور وزير المنظمات غير الحكومية، وصائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين، ومحمد رشيد مستشار عرفات الاقتصادي، ونبيل شعث، بينما أتى على رأسهم محمد دحلان(14).
قدم هؤلاء الخمسة برنامجا جديدا للاحتلال، تمثل في "التعاون المشترك لإنهاء الانتفاضة"، وإنهاء دور عرفات معها كرئيس للسلطة الفلسطينية، وكذا إعادة تشكيل أجهزة الأمن في جهاز واحد تحت قيادة دحلان، بدعم من المخابرات المركزية الأميركية "سي آي أي" (CIA) وحلفائها في مصر والأردن والسعودية. بينما قدم دحلان أوراق اعتماده حينها بـ 20 ألف عنصر أمن وقائي يدينون له بالولاء، ما جعله أقوى هؤلاء الخمسة، خاصة بعلاقاته مع الاحتلال ومع الولايات المتحدة، حاملا "علامة السي آي أي"، وهي صفة منحها إياه أهالي غزة، نتيجة لإعلان واشنطن المتكرر بأن دحلان هو "رَجُلها" في الأراضي الفلسطينية.
لم تنته الاحتجاجات سوى بوفاة عرفات نفسه أواخر 2004، وتولي أبو مازن الرئاسة، ليسمح وجوده بانتخاب دحلان عام 2005 وزيرا للدولة للشؤون المدنية في حكومة أحمد قريع (رويترز)
تراجع الضغط على عرفات مع موافقته على تشكيل حكومة جديدة بقيادة محمود عباس أبو مازن عام 2003، وتم لدحلان فيها ما أراده حين عينه أبو مازن وزيرا للشؤون الأمنية، خلافا لرغبة عرفات وباعتراضات لم يُلق لها أبو مازن بالا. لكن الحكومة الجديدة لم تلبث وأن قدمت استقالة جماعية اعتراضا على "التدخل المستمر لعرفات في شؤونها"، كان القرار يصدر من دحلان في لحظة ما ليتبعه عرفات بقرار جديد يلغيه (15)، ما جعل الاستقالة قرارا متوقعا في السلسلة، بينما أوكل عرفات مهمة تشكيل الحكومة الجديدة لناصر يوسف، أحد أكبر مؤيديه، ما ترك دحلان خارج الحكومة الجديدة بطبيعة الحال.
قرر دحلان اتخاذ طريق جديد لمواجهة عرفات، تمثل هذه المرة في الحشد لمعركة انتخابية ضده، وشكّل جزءا من هذا الحشد داخل السلطة الفلسطينية باستمالة أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني إلى جانبه، "بالترغيب أو الترهيب" كما وصفها هو نفسه في إحدى رسائله المُسربة لوزير الدفاع الإسرائيلي وقتها شاؤول موفاز عام 2003(16). واستمال إلى جانبه أيضا قادة من فتح، إضافة إلى أعضاء سابقين من الأمن القومي، واتهم بتزعمه حركة الاحتجاجات التي نشأت في غزة والضفة ضد عرفات مطلع 2004، وهي المرة الأولى التي يخرج فيها الفلسطينيون احتجاجا على عرفات منذ توليه السلطة 1994، مُطالبين بـما سُمي بـ "إصلاحات" السلطة الفلسطينية التي طالب بها دحلان سابقا(17).
لم تنته الاحتجاجات سوى بوفاة عرفات نفسه أواخر 2004، وتولي أبو مازن الرئاسة، ليسمح وجوده بانتخاب دحلان عام 2005 وزيرا للدولة للشؤون المدنية في حكومة أحمد قريع، لكن أزمة جديدة أطلت على دحلان والساحة الفلسطينية بعد انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني لعام 2006، فإضافة إلى دخول دحلان إلى المجلس، اكتسحت حماس مقاعده بـ 76 مقعدا مقابل 43 لحركة فتح، ما يعني بالتبعية أن حماس ستُشكّل الحكومة الجديدة في الأراضي الفلسطينية(18).
الحرب الأهلية
مجموعة تابعة لدحلان تعذب منتمين للقوة التنفيذية التي شكلتها حماس وبعض الأشخاص المقربين منها، ويظهر بالفيديو إجبار الشخص المنتمي للقوة التنفيذية بالهتاف لسميح المدهون الذي كان يترأس بعض حملات التعذيب، والهتاف لدحلان أيضا
يحكي مازن أبو دان للصحفي البريطاني ديفيد روز عن التفاصيل الخفية لتسجيل أذاعته مجلة "فانيتي فير" عن بعض حالات التعذيب فيما قيل إنه أحد سجون غزة. في فندق الديرة بغزة عام 2007، جلس روز يستمع لما رواه أبو دان، ويرسم بنفسه التفاصيل الناقصة من الحكاية فيما بعد.
لم يكن سجنا في الحقيقة، بل كان منزلا لأحد القادة المحسوبين على محمد دحلان، الرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي وأكثر قادة غزة سخطا على حماس، حركة مقاومة يبادله أعضاؤها السخط ذاته. وبينما يُشير القميص الأسود المميز بكلمات "القوة التنفيذية" المنتمية لحماس إلى القوة التي لعبت دورا في حفظ الأمن بقطاع غزة بعد فوز الحركة بالانتخابات التشريعية 2006، وفيما تحول الصراع بينها وبين فتح في غزة إلى حرب أهلية، كان أبو دان أحد أعضاء هذه القوة، ما جعله على الفور تحت راية المطلوبين من عناصر فتح وأجهزتها الأمنية في القطاع.
"كان تجنب حماس لدخول صراع السلطة مع فتح قد جعلها تحت طائلة قوات الأمن الفلسطينية المنتمية إلى فتح، لكن الانتفاضة الثانية قلبت موازينَ شعبيةِ كلا الفصيلين في غزة تحديدا"
في 26 (يناير/كانون الثاني) لعام 2007، اُختطف أبو دان مع والده ومجموعة من أصدقائه ليتم نقلهم إلى المنزل السابق ذكره، ولتبدأ عملية التعذيب: الضرب بالقضبان الحديدية، ثم صب العطور على الإصابات الجديدة، وعلى هامش الصورة يظهر الأب معصوب العينين مجبرا على الاستماع لصراخ ابنه دون حول أو قوة، أما المرحلة اليسيرة السابقة للضرب بعدة رصاصات في الركبتين ثم تركهم في سوق ما في ضواحي غزة كانت كالتالي: الجلوس بأعين معصوبة، ومواجهة الحائط، والترديد خلف معذبيهم "بالروح، بالدم، نفديك يا دحلان".(19)
تُعرف هذه العمليات كجزء من مراحل التعذيب المختلفة التي مارستها عناصر الأمن الوقائي، سواءً في بدايات نشأة الجهاز أو خلال فترة الصراع مع حماس في غزة بعد 2006، وهو صراع مارس فيه دحلان دورا رئيسا انتهى بخروجه من القطاع قبيل سيطرة حماس الكاملة على غزة.
في هذه الفترة وقبل حسم حماس للأمر عسكريًا، قامت السلطات الأمنية الفلسطينية التابعة لفتح بانتهاكات تعذيب واسعة النطاق في القطاع وصولًا إلى توسيع دائرة القتل على الهوية، المستهدف بها نسبة كبيرة من المنتمين لحماس، ومع توسع دائرة الدم، وتورط جهاز الأمن الوقائي وغيره في تصفية عدد كبير في القطاع بلا دلائل أو محاكمات، وعدم خضوع قوات الأمن لتوجيهات حكومة حماس، أدى ذلك لانفلات أمني كبير في القطاع، ما دفع حماس للتدخل لضبط الأمور أمنيًا وإنهاء الانفلات بشكل تام.
كان تجنب حماس لدخول صراع السلطة مع فتح -منذ عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة والضفة- قد جعلها تحت طائلة قوات الأمن الفلسطينية المنتمية إلى فتح، لكن الانتفاضة الثانية قلبت موازينَ شعبيةِ كلا الفصيلين في غزة تحديدا، حيث استطاعت حماس بسط نفوذها الجديد، وهو ما أهّلها للفوز في انتخابات 2006، ومهّد الطريق لتشكيلها الحكومة الجديدة برئاسة إسماعيل هنية(20).
غارة إسرائيلية استشهد فيها رجال الشرطة التابعة لحماس صبيحة يوم 27 (ديسمبر/كانون الثاني) من عام 2008 (رويترز)
رجحت سنوات الفساد الطويلة لعناصر السلطة الفلسطينية في غزة والضفة أيضا كفة حماس على فتح في ذلك العام، لكن الرضا الشعبي الداخلي عن حماس لم يكن يوازيه سوى سخط عالمي على حكومتها الجديدة، وحرب جديدة على أبواب القطاع، كانت عناصرها داخليا هي فتح بأجهزتها الأمنية الممولة من الخارج، وخارجيا ضمت القائمة إسرائيل والولايات المتحدة، بجانب دول أخرى كـمصر مثلا، والتي ساعدت في بداية الحرب بإغلاق الأنفاق من جانبها الحدودي على حماس.
قضى دحلان فترة الصراع مع حركة حماس -منذ تولي حماس لزمام السلطة عام 2006 حتى سيطرتها الكاملة على القطاع عسكريًا- متنقلا بين مصر وألمانيا، متعللا بعلاج ركبتيه، وهو ما لم يمنع وحدات الأمن الوقائي الموالية له من القيام بعمليات متنوعة، ما بين اختطاف وتعذيب وقتل لعناصر من حماس والجماعات الموالية لها، وبالرغم من كل ذلك واجه دحلان اتهامات داخلية من فتح وخارجية من الولايات المتحدة وإسرائيل بالتخلي عن الصراع، والمساهمة في تسليم قطاع غزة لحماس(21) بإجبار عناصره والأمن الفلسطيني عامة التخلي عن القتال، وهو ما تسبب في النهاية بخسارة جديدة لفتح، لتسيطر حماس على القطاع بأكمله.
بعد السيطرة التامة على القطاع؛ قامت إسرائيل بخرق التهدئة التي أبرمها الجانب المصري بين إسرائيل وحماس 2008، لتبدأ "معركة الفرقان"، أو "الرصاص المصبوب" كما أسماها الاحتلال ضد حماس، وخلال 23 يوما امتدت ما بين نهاية 2008 وأول 2009، استطاعت حماس منح نفسها شعبية جديدة على الساحة الفلسطينية بمعركة ضد الاحتلال انتهت بهدنة مصرية حينها(22).
عاد دحلان إلى الأراضي المحتلة بنهاية "معركة الفرقان"، ليبدأ معركته هذه المرة مع خصمه الجديد محمود عباس، لكنّ أبا مازن كان مستعدا لعودة دحلان، فغمر منافسه بقضايا الفساد والرشوة وصولا إلى الاتهامات بقتل عرفات نفسه، ومع حجم النصال الموجهة لم يستطع دحلان البقاء وخرج من الضفة الغربية بعد فصله من فتح عام 2011، خروجا مثّل بداية لأدوار عدة سيلعبها دحلان في الشرق الأوسط بشكل أوسع بكثير، ولصالح أجندة كيان ثالث هذه المرة: الإمارات العربية المتحدة.
أولى أوراق الخريف
محمد بن زايد ودحلان في صربيا (مواقع التواصل)
جعلت العلاقة الوطيدة بين دحلان ومحمد بن زايد ولي عهد أبوظبي قِبلة دحلان الأولى بعد خروجه من الضفة المحتلة، وتسببت أيضا في توتر العلاقات بين أبوظبي والسلطة الفلسطينية، حين وافق عباس على وقف إجراءاته الرسمية ضد دحلان بوساطة من ابن زايد، ثم تراجع عن تنفيذ وعده فيما بعد، واستمر هذا التوتر مع بقاء دحلان في الإمارات رغم كونه مطلوبا لدى القضاء الفلسطيني(23).
يوصف دحلان فيما بعد وصوله إلى أبوظبي على أنه مبعوث الإمارات لأنظمة مكافحة الثورات، فكونه مستشارا أمنيا لابن زايد لعب دورا جديدا في دعم الثورات المضادة في المنطقة العربية، وهو دور استطاع ممارسته بدعم كامل من قوة إقليمية صاعدة ممثلة في الإمارات، في وقت توافق مع اشتعال شرارة الربيع العربي في تونس، وانتقالها إلى عدة دول عربية كانت مصر على قائمتها، ليساهم دحلان في جلب أوراق الخريف سريعا.
"أثارت الاتهامات التركية لدحلان تساؤلات بديهية حول دور ربما لعبه هذا الأخير في التأسيس لحركة "تمرد" المصرية، ونظيرتها في غزة التي ظهرت بالتوازي مع شقيقتها المصرية، ودعمت كلتاهما تنحي "التيار الإسلامي" عن السلطة"
بينما دعمت الدوحة وأنقرة ثورات الربيع العربي ومنها ثورة "25 يناير" في مصر ارتبط اسم الإمارات ومعها محمد دحلان بانقلاب (يوليو/تموز) 2013 العسكري الذي أطاح بمحمد مرسي ليأتِي بالجنرال عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، مدعوما بمليارات من الدولارات صبتها الإمارات في خزينة الدولة المصرية بعد الانقلاب(24). وتدور المزاعم حول العلاقات القوية التي جمعت السيسي بدحلان، والممهدة لتورط الإمارات في الانقلاب المصري، من خلال الدعم المادي الإماراتي الضخم لحركة "تمرد" المعارضة عبر حساب بنكي يتحكم فيه بعض جنرالات الجيش المصري الداعمين للانقلاب وعلى رأسهم السيسي، وهو ما ظهر في التسجيلات المسربة على إحدى القنوات المعارضة للنظام المصري الحالي(25).
كشفت التسريبات ذاتها عن تورط دحلان كمبعوث للإمارات في تعزيز الثورة المضادة في ليبيا، والتي تزعمها أحمد قذاف الدم ابن العقيد معمر القذافي، إضافة إلى دعم الجنرال خليفة حفتر، حيث مهد قادة الانقلاب في مصر سبيلا للقاء بين دحلان وقذاف الدم للتشاور فيما يخص الثورة في ليبيا(26)، بينما اتهم تقرير لجنة العقوبات التابع للأمم المتحدة الإمارات بـ"التلاعب بالاستقرار الليبي"، ودون رد من الإمارات على هذه الاتهامات سجل التقرير قيام أبوظبي بدعم قوات الجنرال خليفة حفتر -ماديا وعسكريا- بطائرات عسكرية ومدرعات مسلحة ومروحيات هجومية وناقلات جند، وغيرها من الأسلحة المستخدمة ضد المدنيين الليبيين، وفي قمع الثورة هناك(27).
لم يتوقف ارتباط دحلان عند الثورات المضادة في مصر وليبيا، فقد ظهر مرة أخرى في انقلاب تركيا الفاشل في (يوليو/تموز) 2015، حيث يُزعم أن دحلان قد دخل تركيا باسم مستعار قبيل الانقلاب، واجتمع بمجموعة من الشباب الأكراد والأتراك المعارضين لأردوغان، وناقش معهم السبل المتاحة لدعم حركة جديدة تحت اسم "تمرد" تُطالب بتنحي أردوغان عن السلطة(28)، إضافة إلى هذا فقد اتهمت تركيا الإمارات بدعمها الحركة الانقلابية من خلال توفير ثلاثة مليارات دولار قدمتهم الإمارات بحسب الزعم التركي من خلال دحلان لفتح الله غولن، رجل الدين المقيم في أميركا، والذي تؤكد الحكومة التركية تزعمه لمحاولة الانقلاب الأخيرة(29).
أثارت الاتهامات التركية لدحلان تساؤلات بديهية حول دور ربما لعبه هذا الأخير في التأسيس لحركة "تمرد" المصرية، ونظيرتها في غزة التي ظهرت بالتوازي مع شقيقتها المصرية، ودعمت كلتاهما تنحي "التيار الإسلامي" عن السلطة في كل من مصر والقطاع(30).
يأتي اسم دحلان على قائمة الداعمين لإخراج حماس من دائرة السلطة في غزة، والممولين أيضا للحركات المضادة لـحماس، ومن بينها حركة "تمرد غزة"، لكنه دور لم يستمر نتيجة لإحكام حماس سيطرتها على القطاع، وتحركها الصارم دوما ضد أية أعمال تهدد سياستها داخليا أو خارجيا.
تل أبيب-أبوظبي
أصبحت أبوظبي في ظل ولي العهد محمد بن زايد بأنها "وسيطا لإسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأيضا في أوروبا الشرقية"، حيث العلاقة الجديدة النائءة بين الإمارات وصربيا
ميدان
تنطلق الطائرة إيرباص (A319) التابعة لشركة برايفت إير من مطار بن غوريون بتل أبيب في رحلتها إلى مطار الملكة علياء بالأردن، ورغم أن الرحلة غير مُسجلة ببيانات رحلات المطار الأردني فإنها لا تلبث وأن تقلع مرة أخرى لتتجه في رحلة جديدة تنتهي في أبوظبي هذه المرة.
لا تُسجَّلُ بيانات هذه الرحلة في أيٍّ من المطارات العربية، وإنما فقط في مطار بن غوريون، ورغم انتقالها بين عدة عواصم مختلفة لدول خليجية عدّة فإنَّ رحلتين تقوم بهما الطائرة أسبوعيًا بين تل أبيب وأبوظبي تضعان علامات استفهام عدّة حول علاقات الدولتين بعضهما ببعض كما تصف ميدل إيست آي، التي تصف أيضا أبوظبي في ظل ولي العهد محمد بن زايد بأنها "أصبحت وسيطًا لإسرائيل والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وأيضا في أوروبا الشرقية"، حيث العلاقات الجديدة الناشئة بين الإمارات وصربيا، والتي تحمل في طياتها اسما واحدا أيضًا كأحد أهم أسباب نشأة واستمرار هذه العلاقات: محمد دحلان لمرَّةٍ ليست أخيرة.
تُحيط السريّة بعلاقات الإمارات مع إسرائيل بطبيعة الحال، وأيضًا مع الصديق الجديد في شرق أوروبا: صربيا، حيث وقَّعت الإمارات اتفاقات بمليارات الدولارات في مجالات مختلفة، أهمها تعلق باستيراد الأسلحة وتطوير الجيش الصربي، لكن استثمارات متنوعة تتعلق ببناء العقارات الفارهة، وشراء الأراضي الصربية، وتقديم قروض بالمليارات لحكومتها، والاستثمار في شركة الطيران القومية الصربية، طُرحت تساؤلات جديدة عن طبيعة العلاقة التي تربط بين صربيا وأبوظبي، وعن الدور الذي يلعبه دحلان فيها.
ارتبط دحلان بعلاقات وثيقة مع رئيس الوزراء الصربي ألكسندر فوسيتش، أهَّلتهُ مِن ناحية للحصول على جنسية الجبل الأسود عام 2013، ومن ناحية أخرى مثلت بداية للعلاقات الوثيقة أيضا التي ربطت فوسيتش بمحمد بن زايد، والتي وضعت حجر أساس بدأ على إثره نمو العلاقات بين البلدين منذ 2013 أيضا، وتوجت باستثمارات تقدر بمليارات الدولارات. استثمارات تُصر الإمارات على حصولها على السرية الكاملة، بما يجعل التكهن حول السبب الحقيقي الذي أنشئت من أجله ينحصر في إجابات محددة كانت إسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة أحد أهم أركانها.
زيارة محمد بن زايد ودحلان لصربيا
تتجه المزاعم حول استثمارات الإمارات في صربيا لكونها وكيلا يعمل من أجل ضمان اتجاهات معتدلة لصربيا بعيدا عن الجانب الروسي من ناحية، ووسيطا لإسرائيل في هذا الجزء من العالم من ناحية أخرى، وفيما يبدو أن السوق الحرة للأسلحة في صربيا قد فتحت شهية ابن زايد لاستغلالها كمصدر للحصول على الأسلحة التي سيتم توريدها فيما بعد لأصدقائه في الشرق الأوسط، بوساطة دحلانية بالطبع، كما ظهر في ليبيا سابقا.
لا تنحصر العلاقات التي تربط أبوظبي بتل أبيب -من خلال دحلان في جزء منها- في لعب دور الوسيط في المناطق التي يعجز أحدهما عن ولوجه، أو حتى فيما يتعلق بتبادل المعلومات الاستخباراتية واستيراد التقنيات المتطورة. وتتجه هذه الأخيرة من تل أبيب إلى الإمارات غالبا، لكن الهدف الأهم الذي تجتمع عليه الأطراف الثلاثة هو السعي من أجل محو أي وجود "للتيارات الإسلامية السياسية" في الحكم بالمنطقة العربية، هدف مُشترك جعل ثنائي قطر-حماس موضع عداء دائم للثلاثي السابق بمباركة الولايات المتحدة، وهو ما مثّل محور التسريبات الأخيرة لبريد يوسف العتيبة، سفير الإمارات في واشنطن.
من غزة وإليها
تضع كافة التحليلات التي تحاول استيعاب الأدوار المتنوعة لدحلان محليا وعالميا سببا واحدا لها على رأس قائمة غير طويلة نسبيا، فالعودة إلى غزة على رأس السلطة الفلسطينية يبدو وكأنه الحلم الذي يمكن لدحلان أن يُقدّم من أجله أي شيء، وكل شيء. لم يكن خروج دحلان من الضفة الغربية عام 2011 سوى الحلقة الأولى التي بدأ معها رسم خارطة قوية من العلاقات الممتدة شرقا وغربا، وكانت العلاقة مع ابن زايد في الإمارات -ولا تزال- العنصر الأهم في هذه القائمة، لكن العلاقة القوية التي نشأت مع السيسي في مصر هي الأخرى صارت محل قوة، في سلسلة ترتيبات قد تضع دحلان مرة أخرى على طريق العودة إلى غزة.
نشأت هذه العلاقة مع كون دحلان حلقة الوصل بين الإمارات وبين الجيش المصري وحركة "تمرُّد" في الترتيب لانقلاب (يوليو/تموز) 2013، لكنها تطورت ليصبح دحلان -بناء على طلب من إثيوبيا وبتفويض من السيسي- على رأس وفد مصري وُكّل إليه مهمة الاتفاق مع السودان وإثيوبيا لحل لمشكلة سد النهضة، وهي الأزمة التي وصلت ذروتها مع الانتهاء من حوالي 54% من أعمال بناء السد، وتبادل مصر وإثيوبيا الاتهامات والتهديدات دون وجود وسيط للتفاهم بين البلدين، تبادل اتهامات انتهى بتدخل دحلان بعام من التفاوض أدى إلى توقيع مصر وإثيوبيا والسودان عام 2015 لوثيقة إعلان للمبادئ الأساسية لسد النهضة، والتي تتضمن موافقة الأطراف المعنية على استكمال بناء السد مع التنسيق المشترك لعمل دراسات تهدف لحماية حصص هذه الدول من مياه النيل.
شمل ملف علاقة دحلان-السيسي أيضا غزة، وتحديدًا معبر رفح الذي أصبح حلقة الوصل الوحيدة أمام القطاع مع تشديد إسرائيل للحصار، إضافةً إلى الحصار الاقتصادي الذي فرضهُ محمود عبّاس لمحاولة إجبار حماس على التفاوض. أصبح دحلان هو المتحكم في فتح وإغلاق المعبر من خلال علاقته مع السيسي، وهو ما وضع قادة حماس أمام خيارين في محاولاتها لفضّ الحصار المفروض على أهالي القطاع: إما التفاوض مع عبّاس وإسرائيل من جهة، أو التفاوض مع مصر وهو ما يعني -ضمنيا- الجلوس إلى مائدة واحدة مع محمد دحلان.
دحلان هو الطرف الذي يتفق عليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة من جانب، وتحالف الدول العربية المساهم في هذه الاتفاقات وعلى رأسهم مصر والإمارات والسعودية (رويترز)
كانت العلاقة بين دحلان وعباس، من جهة أخرى، قد وصلت طريقًا مسدودًا مع الحرب التي شنَّها الأخير عليه إعلاميًا وقضائيًا، وكانت نهايتها تشمل موافقة عبّاس على رفع الحَصانة عن دحلان، وهو ما منح محكمة الفساد في غزّة أواخر 2016 الفرصة للحُكم عليه غيابيا بالسجن ثلاث سنوات، مع "ردّ الأموال التي اختلسها خلال وجوده في السلطة". ومع اختيار حماس للتفاوض مع دحلان أمام القبضة الاقتصادية المشددة مِن عبّاس عليها، اختار عباس اللجوء إلى مصر في محاولة أخيرة لإيقاف المفاوضات التي كانت قائمة بالفعل، لكنَّ العلاقات التي أسَّسها دحلان في مصر وقفت حائلًا أمام هذه الخطوة.
تضع المفاوضات السرية القائمة حاليا بين حماس ودحلان عدة احتمالات لما قد يبدو عليه الوضع مستقبلا للقطاع خصوصا، وللأراضي الواقعة تحت أيدي السلطة الفلسطينية عامة. فمن جهة تبدو حماس في موقف حرج لتفاوضها مع من كان يوما أحد أهم وسائل التشديد عليها، وتعذيب وسجن عدد لا بأس به من أفرادها وقادتها، بل وتسليم بعضهم للاحتلال، بينما الجانب الآخر من المعادلة يشمل التسهيلات التي يمنحها جلوس دحلان بالتحديد على الجانب الآخر منمائدة التفاوض لقطاع غزة، بما يشمل فتح معبر رفح بشكل دائم والتأسيس لإصلاح اقتصادي يمنح القطاع المُحاصر منذ عقد من الزمان متنفسا جديدا للحياة.
من جهة أخرى، يبدو أن المقابل أمام هذه التسهيلات -التي تجعل حماس ودحلان في جانب واحد من المعادلة- هو عودة دحلان إلى الساحة الفلسطينية عبر غزة وبمساعدة حماس، وهو الطرف الذي يتفق عليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة من جانب، وتحالف الدول العربية المساهم في هذه الاتفاقات وعلى رأسهم مصر والإمارات والسعودية، وهو ما يشمل تحقيق حلم دحلان القديم: الجلوس إلى كرسي الرئاسة الفلسطينية.
لا تزال المفاوضات القائمة بين دحلان وحماس بوساطة مصرية ورعاية الإمارات غير معلومة خاتمتها، لكن مؤشراتها الأولية ترمي إلى اتفاق مُقبل بين حماس ودحلان يؤسس لعودة الأخير للأراضي الفلسطينية، وقد يؤدي ذلك إلى وصوله لرأس سلطة جديدة ترعاها الدول العربية الأقوى حاليا، وتُمهد لفتح طريق جديد من العلاقات بين هذا التحالف وبين الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر. وفيما قد تصنع هذه المفاوضات خاتمة لمرحلة طويلة من الصراع الفلسطيني الفلسطيني -والذي مثل دحلان جزءا مهما فيه- فإنه يضع علامات استفهام أمام ما قد تصنعه هذه الاتفاقات من تغيرات في المنطقة، تغيرات يكون عنوانها من جديد الرجل نفسه: محمد دحلان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى