لم تنمّ الساعات الأولى من مساء التاسع من أكتوبر 2011 عما يمكن أن ينتهي إليه اليوم. فلم تخرج أي من وقائع بداية ذلك المساء عن نطاق المألوف في بلد تسيطر عليه حمى الثورة. فما هو المتوقع من مسيرة سلمية ضمن عشرات اعتاد المواطنون على مصادفتها يوميًا؟
لكنها مظاهر بداية المساء كانت خادعة. فقد انقلبت المظاهرة الاحتجاجية على هدم كنيسة الماريناب بأسوان إلى مأساة مروّعة وجريمة مكتملة الأركان بعد أن تم دهس عدد من المحتجين تحت المدرعات وطورد بعضهم من قبل مسلحين مجهولين، ليُقتل ويصاب المئات.
وهكذا أضيفت للأرشيف الوطني «مذبحة» جديدة لم يُحاسب مرتكبوها الحقيقيون حتى اليوم.
عام كامل مر على «مذبحة ماسبيرو»، وكان الحصاد لجان تقييم وتقصي حقائق، وتحقيقات عسكرية بحق قساوسة ونشطاء سياسيين، ومطالب بإقرار قوانين، ومحاكمة مسؤولين وكلام عن تطهير الإعلام، وجملة أحلام بتحقيق مطالب الثورة التي لا تزال تنبض في قلوب الثوريين ولا يتذكرها المسؤولون.
مطالب.. لا تزال مطالب
خرج المتظاهرون في التاسع من أكتوبر العام الماضي في تظاهرة احتجاجية سلمية من دوران شبرا باتجاه مبنى التليفزيون المصري، رافعين بجانب الصلبان الخشبية عدة مطالب، على رأسها وقف الاعتداء على الكنائس، الذي طال بعد الثورة وخلال ذلك العام كنيستي مارمينا ومارجرجس بأطفيح مطلع مارس، وكنيسة مارمينا والعذراء بإمبابة فى مايو، وكنيسة الماريناب بأسوان مطلع أكتوبر، إضافة إلى مطالب أخرى منها إقالة محافظ أسوان، والتنديد بالاعتداء على بعض الأقباط المحتجين أمام «ماسبيرو» بالضرب، وكذلك إصدار قانون دور العبادة الموحد.
انتهت المسيرة إلى مبني التليفزيون، لتندلع بعدها معركة بين المتظاهرين وجنود الشرطة والشرطة العسكرية القائمين على تأمين المبنى، مسفرة، بحسب تقرير اللجنة المنبثقة عن المجلس القومي لحقوق الإنسان المعنية بتقصي الحقائق حول الأحداث، عن «مقتل نحو 28 قبطيًا، تم التوثق من أن 12 منهم قتلوا دهسًا بمدرعات الجيش، و7 بطلقات نارية بالصدر أو الرأس»، هذا بجانب الإصابات التي ناهزت الـ200 شخص.
عام مر على الأحداث وما تلاها من تقارير. أما المطالب التي انطلقت بسببها مظاهرة وكانت الاستجابة لها دهسًا واعتقالًا، فقد أدت لأن يوصي تقرير لجنة «القومي لحقوق الإنسان» بـ«سرعة إصدار القانون الموحد لبناء وترميم دور العبادة، وتقنين أوضاع جميع دور العبادة»، إضافة لتوصيته المتكررة بشأن «إصدار قانون تكافؤ الفرص ومنع التمييز».
عما تحقق من المطالب والتوصيات تقول ماري دانيال، المتحدث باسم حركة «كلنا مينا دانيال»: «على مدى عام كامل، لم يتحقق شئ مما طالبنا به وراح ضحيته شهداء في مذبحة ماسبيرو. فمحافظ أسوان كما هو في موقعه، رغم استمرار الاعتراض عليه، وقانون دور العبادة الموحد دخل إلى الأدراج مرة أخرى، أما الفتنة الطائفية فمازالت حتى اليوم تشعلها أطراف بعينها، كي لا ينعم الشعب بحريته».
وتفسر «دانيال» عدم تحقيق المطالب بقولها: «هذا لا يعني بالنسبة لنا سوى أن النظام مازال مستمرًا ولم يطرأ أي تغيير، بدليل أن الأوضاع كما هي إن لم تكن أسوأ». وتضيف، مخاطبةً من وصفتهم بـ«القائمين على الحكم»، «اعملوا على تحقيق أهداف الثورة ليحسب لكم شيء أمام الشعب الذي خذلتوا حتى من انتخبكم منه».
واختتمت «دانيال» بتأكيد ثقتها في استرداد حق الشهداء وتحقيق مطالب ماتوا من أجلها مهما طال الزمن، موجهة رسالة للثوار ومن يقف ضدهم وكذلك «الإعلام الفاسد» بقولها «الثورة مستمرة وعندما يكتمل نجاحها لن تذر».
الجاني والمجني عليه
ردود الفعل القانونية والسياسية على الحادث لم تتأخر سريعا كمسؤولين عن إدارة البلاد، علّق «جنرالات المجلس العسكري» بتصريحات تنوعت بين الأسف لما حدث، والتأكيد على أن عملية الدهس بالمدرعات «لم تكن ممنهجة»، وأن «الأقباط بدأوا بالتعدي» كما قال اللواء أركان حرب عادل عمارة، هذا، بالإضافة إلى التصريحات التي صدرت عن اللواء أركان حرب محمود حجازي، والتي أشارت إلى أن القوات المسلحة «قد تضطر لاستخدام الحزم» وكذلك أن «المظاهرة لم تكن سلمية، حيث حمل الأقباط أسلحة وأعوادًا خشبية، وكان هناك من يحرضهم لاقتحام المبنى».
على الصعيد القانوني، قرر المستشار محمد عبد العزيز الجندي، وزير العدل حينها، تشكيل «لجنة تقصي حقائق» حول الأحداث، إضافة لتشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان للجنة تقصي حقائق أيضاً، طالبت في تقريرها بأن يكون التحقيق في القضية التي أحيلت للقضاء العسكري تابعاً لـ«هيئة قضائية مستقلة» وذلك لـ«استبعاد أي شبهة بعدم الحياد» تجاه المتهمين من العسكريين.
المفارقة أن القضية وإن كان المتهم الرئيسي فيها، كما يرى البعض، هم الطرف العسكري، إلا أنها ضمت بين متهميها أمام النيابة العسكرية، مواطنين مدنيين من المتظاهرين الذين تمت مهاجمتهم. كان من بين هؤلاء قساوسة ونشطاء سياسيين، الأشهر بينهم الناشط علاء عبد الفتاح الذي اتهم بـ«التحريض ضد المؤسسة العسكرية، والتجمهر وسرقة سلاح» والقس فلوباتير جميل، راعي كنيسة العذراء، الذي وجهت إليه تهمًا منها «التحريض على الإخلال بالسلم والأمن واستغلال الدين فى إحداث فتنة طائفية».
وبعد ما يقترب من عامن وفي الثالث من سبتمبر الماضي، قضت المحكمة العسكرية بسجن المجندين الثلاثة المتهمين في القضية عامين للمتهمين الأول والثاني وثلاثة أعوام للمتهم الثالث بتهمة القتل الخطأ، ومازال التقاضي بشأن اتهام المدنيين ومنهم المتهمين مايكل عادل نجيب ومايكل مسعد شاكر، مستمرًا.
يقول أحمد حسام، المحامي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية وعضو هيئة الدفاع التي انسحبت من القضية منتصف أبريل الماضي اعتراضًا على إجراءات التقاضي العسكري: «الحال في قضية ماسبيرو كغيره في كثير من القضايا المرتبطة بأحداث ما بعد الثورة مثل (محمد محمود) و(مجلس الوزراء). حيث يتم محاكمة المتظاهرين وليس من اعتدى عليهم، الذي يختفي تماما، وإذا وجد تكون الأحكام بحقه مخففة، والدليل الحكم على المجندين، إضافة إلى أن جريمة قتل المتظاهرين بالرصاص في القضية مازالت مقيدة ضد مجهول».
ويكشف «حسام» عن عدد من معضلات التقاضي في «ماسبيرو» قائلًا: «تم تقسيم القضية رغم أنها واحدة لجزأين، الأول قضاء عسكري وملفه احتوى عشرة ورقات فقط ليس بهم أي أدلة، والثاني تابع لقاضي تحقيق في القضاء العادي، وهو ما يعني استحالة الوصول لنتيجة، فكان الأنسب أن تحال برمتها لقاضي تحقيق»، مضيفاً: «كما مُنعنا من تصوير ملف القضية، وسُمح لنا فقط بالاطلاع على تحقيقات النيابة، وحتى الآن لم نحصل على صورة من الحكم الصادر بحق المجندين».
وحول انطلاق دعاوى متزامنة مع حلول الذكرى الأولى للأحداث، تطالب بمحاكمة قادة المجلس العسكري كالتي بدرت عن «اتحاد شباب ماسبيرو» يعلّق حسام: «محاكمة القيادات تحتاج إلى دليل على تورطهم بالأحداث، الأمر الذي يستحيل علينا تقديمه، وهم قانوناً الآن لا علاقة لهم بالأمر طالما لا يوجد اتهام رسمي بتحقيق وأدلة موجهة ضدهم».
التليفزيون متهم بالتحريض
خبر عاجل بشريط أخبار التليفزيون المصري يقول إن «المتظاهرين الأقباط يرشقون الجنود بالحجارة والمولوتوف من أعلى كوبري أكتوبر ويحرقون السيارات». بالتزامن مع الخبر أعلنت قارئة نشرة الأخبار بالتليفزيون المصري، رشا مجدي راسخ، عن وقوع «ثلاثة شهداء من الجيش وإصابة ثلاثين آخرين جراء إطلاق المتظاهرين الأقباط المحتشدين أمام مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون النار عليهم».
علّقت رشا مجدي على الحدث واستنكرت أن تقع اعتداءات بحق الجيش «بأيدي فئة من أبناء الوطن» مذكّرة المواطنين بأن «هذا الجيش الذي يضرب الآن، هو الذي وقف بجوار الثورة، رافضًا إطلاق الرصاص» متساءلة عما إذا كانت المطالب، أيًا كانت، تستدعي «حرق الوطن».
عقب الأحداث، انطلقت ردود الفعل الغاضبة من أداء «ماسبيرو» إلى حد تقدم أحد المحامين ببلاغ ضد وزير الإعلام والمذيعة رشا مجدي يتهمهما بـ«التحريض». ورغم ذلك، أكد وزير الإعلام آنذاك، أسامة هيكل، في أولى تصريحاته بعد الحادث أن «التليفزيون المصرى كان محايدًا فى تغطيته لأحداث ماسبيرو» معترفاً في الوقت نفسه بوجود «أخطاء مهنية» ومرجعاً أداء بعض المذيعين الانفعالي إلى «سخونة الأحداث» ومبررًا ما قالته رشا مجدي بأنه نتيجة لـ«التوتر والارتباك العاطفي».
قرر الوزير تشكيل لجنة لـ«تقييم الأداء الإعلامي» حول تغطية التليفزيون للأحداث. أشار تقرير اللجنة النهائي إلى وجود أخطاء مهنية، منها «عدم حيادية التغطية وخلط الرأي بالخبر»، في حين انهالت التقارير المنتقدة لأداء التليفزيون الحكومي، وعلى رأسها تقرير «لجنة تقصي الحقائق» المنبثقة عن المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي وصف التغطية بـ«المضللة والمحرضة ضد المتظاهرين من المواطنين المسيحيين»معتبرًا أن لجنة التقييم التي شكلها وزير الإعلام غير كافية، وموصيًا بفتح تحقيق جنائي.
كما اعتبر تقرير«شبكة مراقبة الأداء الإعلامي» الأمريكية التغطية كسابقتها في «موقعة الجمل». في حين طالب تقرير مؤسسة «حرية الفكر والتعبير» بسرعة معاقبة المسؤوولين، وإلغاء وزارة الإعلام واستبدالها بمجلس أمناء مستقل.
بعد الانتقادات وتقارير اللجان والتحقيقات، كانت آخر الإجراءات الرسمية المتعلقة بالحادث، تلك التي أسفرت عنها التحقيقات الإدارية بشأن بث أخبار «تحريضية» التي أحيل إليها عدد من العاملين بقطاع الأخبار في التليفزيون المصري وعلى رأسهم إبراهيم الصياد، رئيس قطاع الأخبار بالتليفزيون، وعبد العزيز الحلو، المسؤول بالقطاع، وانتهت منتصف مايو الماضي بتوقيع عقوبة «التنبيه» على كليهما.
ورغم مرور عام على الأحداث، ينفي الكاتب والخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز، أن يكون قد طرأ على أداء «ماسبيرو» جديد، وإن كانت تغطيته لتلك الأحداث كانت «نقطة مفصلية مؤثرة للغاية على أدائه خلال الفترة التي تلتها» ويقول: «لم يطرأ تغيير إيجابي عام يصب في صالح تعزيز مستوى المهنية، إلا أن هذا التليفزيون والعاملون به أصبحوا أكثر وعياً وانتباهاً للتغطيات المنحازة للسلطة التي تهيمن على الجهاز بعد ما كان من ردود فعل على أدائه».
ويشير «عبد العزيز» إلى أن تبعات تغطية الأحداث «أعطت العاملين في المبني القدرة على مقاومة التحكم السلطوي في أدائهم» قائلاً: «طرأت قيوداً واضحة على تحيز الملكية، بمعنى أنه فيما يتعلق بالأخبار التي تمس أصحاب السيطرة الفعلية على المبنى سواء كان المجلس العسكري أو الإخوان المسلمون، أصبح العاملون بماسبيرو أكثر رغبة في تفادي التحيز لوجهات نظر هؤلاء، بعد أن اكتشفوا عدم قدرتهم على مواجهة رد الفعل الناقد لأدائهم وأن الثمن الذي سيدفعونه ليس سهلاً».
واختتم «عبد العزيز» كلامه مستبعداً حدوث تغييرات جذرية في «ماسبيرو» قائلا: «لا يجب أن ننتظر أي تطور في الأداء، إلا بعد تحرير هيئات الإعلام المملوكة للدولة من سيطرة الحزب الحاكم، والذي أصبح حزب الإخوان من بعد الوطني».
المصرى اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى