26/05/2018
14/07/2016
16/05/2016
28/03/2016
05/10/2014
29/11/2011
مأمون فندى : بالرجل الشمال نبدأ في مصر!
الطبيعي بعد كل الثورات أن يتم انتخاب مجلس تأسيسي للدستور يرسم قواعد اللعبة الديمقراطية ويحدد المفاهيم الحاكمة للدولة الجديدة، شيء أشبه بالعمارة، أي ترسم مخطط المبنى أولا بما يناسب احتياجاتك واحتياجات أهلك، ثم تباشر البناء، أما نحن في مصر فقررنا أن نبدأ البناء، وبعدين نشوف «إيه حيطلع معانا»، ثم نرسم المخطط.
بدأت عملية البناء أمس في صورة انتخابات برلمان الثورة، كما يسمى في مصر، وبدأنا كما تسير طوابير العسكر في معسكرات المستجدين «بالرجل الشمال»، هكذا كان ينادي الشاويش في كتيبة العسكر، «معتادا مارش». حتى الآن هناك إقبال غير مسبوق على الانتخابات في مصر، كما تقول التقارير الأولية، ولكن الاتهامات بشحن البوابين في مدينة نصر واستخراج بطاقات انتخابية لهم للتصويت لصالح الإخوان، أو اتهامات حزب الوسط لحزب الإخوان المعروف بالحرية والعدالة، بسرقة استمارات الانتخابات، كل ذلك يقول إننا نسير في اتجاه الشرعية بانتخابات سيكون مطعونا في شرعيتها. فهل هذه هي البداية التي يريدها المجلس العسكري لمصر أم أنه أحس بالخطر فقرر أن يشرك الناس في اللعبة على طريقته.
تصريحات عضو المجلس العسكري المخول بالقضايا القانونية اللواء شاهين، الذي قال فيها إن البرلمان المقبل لن تكون له صلاحيات إقالة الحكومة أو تغييرها حسب الإعلان الدستوري، ولا يمكن له أن يقترب من الحديث عن القوات المسلحة حتى كتابة الدستور الجديد، أي أنه برلمان بلا صلاحيات، مجرد جزء من العملية، ولا دور له في رسمها، أو هكذا يتصور اللواء شاهين، غير مدرك أن العملية التي انطلقت بالرجل الشمال لن تأتي كلها حسب الخطة التي رسمها الجيش لبرلمان الثورة. نعم لن تكون للبرلمان صلاحيات، ولكن البرلمان والمليونيات قد يلتقيان معا لرسم ملامح عملية جديدة لا أحد يعلم إلى أين تسير، فمصر انتقلت بعد الثورة من السياسة المؤسسية إلى سياسة الشوارع والميادين، أي أن اللعبة برمتها خارج الأطر القانونية من أجل إرساء قوانين جديدة للعبة.
وفي هذا لا يختلف المحتشدون في الميادين عن العسكر في القبول بأن العملية تبدأ أولا، ثم نقرر كم مليونا حضروا مظاهرتنا، ومن أي تيار، ثم نرسم بعدها ملامح اللعبة حسب الثقل النسبي لكل كتلة.
العمل خارج الأطر القانونية هو السمة الأساسية للعبة السياسية في مصر الآن، وقد بدأها جمال مبارك عندما كان يروج لحملة التوريث عن طريق حملات يدعى بأنها تطوعية وشعبية، ولكنها كانت حملات مدفوعة الأجر، دفع نظام مبارك ثمنها، فهل سيدفع العسكر ذات الثمن، عندما بدأوا عملية بناء مستقبل مصر بالرجل الشمال كما نرى.
نحن نفترض حتى الآن أن العملية الانتخابية برمتها ستسير بسلام، ولكن قد يكون هذا في بعض أحياء القاهرة والإسكندرية الأكثر تعلما ومدنية، ولكن ما إن تنتقل العملية الانتخابية إلى محافظات الشمال، وإلى سيناء والصعيد، فسينزل عنف الشوارع، الذي رأيناه في مظاهرات ماسبيرو وشارع محمد محمود، إلى المستويات الأدنى، إلى الشوارع والنجوع، حيث يكون للعنف وجه، وسيكون لمن يقومون بالعنف ويمارسونه أسماء وعناوين، وأسماء عائلات وقبائل. ساعتها سينتقل العنف من حالته المدنية التي يروح الناس فيها ضحية الزحام والمظاهرات ورصاصات وزارة الداخلية وربما الجيش، سيذهب الناس ضحايا عنف الثأر في الصعيد وفي الشمال وعند بدو سيناء، عندما تزور الانتخابات على الطريقة القديمة. سيكون للقاتل اسم وعائلة وقبيلة مطلوب الانتقام منها ومطلوبة بحق الدم، ولهذا قواعد صارمة لا يجوز الاستهانة بها.
لو حدث هذا العنف في المستويات الدنيا بالصورة التي نتوقعها، فيكون المجلس العسكري قد بدأ العملية السياسية المصرية فعلا بالرجل الشمال.
رغم الانتخابات وعلى الرغم من المظاهرات، فإن من يتمعن قليلا في شكل مصر وفي أسماء من يتصدرون المشهد يدرك أننا نتحدث عن نفس الوجوه التي كانت ذات حظوة أيام حكم مبارك وبعد أن لبست قناع الثورة، وظهرت مرات كثيرة في الفضائيات وغسلت سمعتها، نجد كل الوجوه ذاتها في مجلس مستشاري المجلس العسكري، وقادة للتنسيق بين المجلس والثورة، نفس النص بأبطال جدد للمسرحية ولكن أقل كفاءة. يبدو أنه في مصر، وكما يقول المثل الفرنسي: كلما تغيرت الأشياء، أصبحت كما كانت بالضبط تقريبا. وبالفعل تغيرت مصر بعد الثورة، ولكن وبعد مرور تسعة أشهر، إذا ما نظرت إلى المشهد، لخلت أنه مشهد حكم مبارك ذاته، تغيرت الأمور فأصبحت كما كانت بالضبط تقريبا. نفس الأقارب ونفس العائلات يتصدرون المشهد، وما الانتخابات إلا تلك العملية التي تضفي غطاء شرعيا على تكتلات غير شرعية.
بالرجل الشمال بدأ العسكر مستقبل مصر وهكذا قد تكون، وربما أولى نتائج هذه العملية أن تبقى مصر خارج الخدمة لمدة عشر سنوات مقبلة. تبدو العبارة قوية وغير مقبولة الآن، ولكن في معظم مقالاتي عن مصر، كان الأصدقاء يستغربون ما أقول في لحظتها والبعض منهم يرميني بالتشاؤم، ثم يعود بعدها بشهور ليقول لي: «فاكر المقال الفلاني اللي أنت كتبته من شهور، والله كنت فيه على حق». أتمنى ألا يكون الحال كذلك في هذا المقال.
نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط
02/10/2011
حكاية ثورتين وجريمتين
الاختبار الحقيقي لأي ثورة هو قدرتها على الكشف ولو عن جريمة واحدة محددة في حق فرد بعينه ارتكبها النظام السابق، أما الغرق في لحظات التحشيش الثوري الذي يتصور أنه قادر على أن ينجز عظيم الأمور من دساتير أو إعادة بناء مجتمعات فقدت قيم العدالة والجمال وانحدرت إلى عالم السوقية والجريمة، فهذه أمنيات .
ولكي لا يكون الكلام غائما، فمثلا بين القذافي ومبارك ونظاميهما تم ارتكاب جريمتين محددتين ضد أفراد عاديين وتغيرت الأنظمة ولم نعرف من الفاعل حتى الآن، فهل نحن شركاء في إخفاء الجريمة؟ وهل ما يمنعنا عن كشف الجريمة هو العار، أم أن من قتل هو قريب لنا، لا نريد كشفه؟
منذ سنوات تم اختطاف الدبلوماسي والمعارض الليبي منصور الكيخيا من قلب القاهرة ولم نعرف ماذا حدث له حتى الآن. هل خدر ونقل إلى ليبيا؟ هل ذبح هناك أم قتل أم وضع في السجن حتى مات؟ لا نعرف أي شيء على الرغم ممَّا يمكن تسميته تقليب تربة النظام؟ فكيف لثورة عظيمة لا تستطيع الكشف عن ملابسة جريمة تدعي أنها تريد تغيير وجه وطن؟
في مصر أيضا وفي عهد مبارك تم اختطاف واختفاء الصحافي المصري رضا هلال من شارع قصر العيني في قلب القاهرة، ويعرف البعض حتى في موقع عمله مَن خطفه ولماذا، ومع ذلك وحتى الآن بعد 9 شهور على حَمل الثورة الذي أصبح اليوم وليدا، لا نعرف من خطف رضا هلال ولماذا، وهل هو حي أم ميت.. إن ثورة لا تستطيع أن تكشف غموض جريمة واحدة، وتدعي أنها تريد تغيير الكون لهي ثورة بائسة.
إن أكثر الوجوه التي تتصدر الشاشات اليوم في مصر وأصدقاء المجلس العسكري هم من قالوا إن «رضا يستاهل القتل؛ لأنه عميل أو خائن»، ولم يكن الرجل خائنا، وليس هناك دليل على ذلك. التسجيلات موجودة للتدليل على بجاحة هؤلاء في حوارات بثتها القنوات المصرية بعد الحادث بعام. ماذا نتوقع من الثورة التي «تكفي على الجريمة ماجور» بالبلدي، أي تخبئ الجرائم؟ حتى الآن وبعد 9 شهور لا نعرف من بالضبط الذي قتل خالد سعيد الذي تفجرت الثورة بسببه.. تركنا خالد سعيد ومسكنا في موضوع أن أخته تلقت جائزة من أميركا، والمدسوس في مثل هذا الكلام أن أسرة خالد سعيد كانت عميلة مثل رضا هلال ويجب قتلهم جميعا، أو أن الشاب يستحق ما جرى له. النقطة الأساسية هنا هي أن ثورة أو ثورتين مجتمعتين لا تستطيعان الكشف عن جريمة واحدة؛ فهي ثورات بائسة. ويجب ألا نتوقع من هذه الثورات أن تكون نصيرا لحقوق الإنسان وحريته.
أدعي أنني شاركت في الثورة المصرية منذ أول يوم، لكنني اليوم أكاد أنعى موت الثورة بعد أن ركبها الانتهازيون والسوقة من سافلي الطباع. أذكر أيام الثورة يوم أن كنت أطالب بأن يتنحى الرئيس ويسلم السلطة للجيش ومعه القضاء، كان هؤلاء الانتهازيون مع مبارك وضد أن يتسلم الجيش السلطة، واليوم هم مع الجيش ومن أشرس المدافعين عنه ويرمون كل من ينتقد المجلس العسكري بالخيانة. كنت من أشد المطالبين بتنحي الرئيس أيام كان بقوته، بينما كان المخوناتية (الذين يرمون أي معارض لرأيهم هم بالخيانة) وأيضا أصدقاء المجلس العسكري، يقولون وعلى الشاشات «إدوله فرصة يكمل الـ6 أشهر».
المخوناتية الآن يسيطرون على المشهد ويمسكون بتلابيب الثورة، بعد أن وضعهم العسكر، ومعهم بعض رجال أعمال العسكر، في مواقعهم الجديدة. المخوناتية ذاتهم هم الذين رموا رضا هلال بالخيانة وهم ذاتهم من رموا منصور الكيخيا بالخيانة؛ لأنهم في النهاية كانوا خداما لنظام مبارك ونظام القذافي وكانوا يقبضون من النظامين، ومع ذلك لا يجرؤ أحد على المواجهة لا في مصر ولا في ليبيا، فقط نقتل بعضنا البعض ولا نستطيع أن نكشف عن جريمة واحدة مثل جريمة اختفاء الكيخيا أو اختفاء رضا هلال.
العربي، على ما يبدو، يستطيع أن يقتل، لكنه لا يستطيع الكلام أو الكشف عن حقيقة. إنه الخجل من الأقارب ومن المعارف والأهل والعشيرة، نقتل في لحظات الغضب، لكننا لا نجرؤ على الكلام، لا نجرؤ على أن نكشف عن جريمة، ولا نجرؤ على أن نقول لشخص إنه أسهم في تشويه الضحية يوم طلب منه نظام القذافي، وبفلوس، أو نظام مبارك أن يشوه رضا هلال ويصفه بالعمالة أو يشوه منصور الكيخيا ويصفه بالعمالة للأجنبي.
ثورتان في بلدين متجاورين لم تستطيعا الكشف عن جريمتين، على الرغم من كل الكلام الكبير الذي نردده عن الثورة والثورتين، وعلى الرغم من أزيز طائرات حلف شمال الأطلسي فوق الصحراء الليبية وعلى الرغم من مليونيات ميدان التحرير. الاختبار الحقيقي لثورتي مصر وليبيا هو الكشف، وبالتفاصيل، عن جريمتين وقعتا بين نظامين رحلا، أو هكذا يظن البعض أنهما رحلا. إن لم تستطع الثورات الكشف عن الجرائم التي ارتكبت ضد أفراد بعينهم، فبئس الثورات هي، حتى عندما نتحدث عن الجرائم ضد شهداء الثورة، نتحدث عن شهداء في العموم، لا وجوه ولا أسماء، ونتهم وزير الداخلية ومبارك، ولا نستطيع أن نتهم من وضع يده على الزناد وأطلق الرصاص، على الرغم من أننا نعرفه، نتهم البعيد بتهم غائمة ونترك القريب دونما تهمة. حتى الجماعات الإسلامية التي ادعت أنها عُذبت في عهد مبارك وعذبها ضباط معرفون، الآن هم لواءات شرطة وأعضاء برلمان سابقون، لم تتهمهم الجماعات بشيء، إننا ثقافة، على ما يبدو، تخاف الكشف عن جريمة فردية؛ لأن في الكشف عارا على الجلاد وعلى الضحية.
الثورات لا تقوم في ثقافة العار، بل تقوم ضد ثقافة العار. آن الأوان أن نقوم بثورة ضد ثقافة العار، لتحكي المرأة أنها اغتصبت واغتصبها فلان الفلاني في المكان الفلاني، أما ثورات «استر على من ستر»، فهي مجرد هوجات اجتماعية مثل أي زحام في مولد قلب الطاولة، لكنه محكوم بالقيم البائسة ذاتها، من قيم ثقافة التستر على الجريمة، إما بدافع العار وإما أن من ارتكب الجريمة قريب لنا.
مرة أخرى قامت ثورتان في بلدين متجاورين ولم تستطيعا، حتى الآن، الكشف عن جريمتين محددتين وواضحتين، وهذا هو عار الثورات العربية حتى الآن.
01/10/2011
مأمون فندى : مصر ماقبل الانفلات الكبير
«جمعة استرداد الثورة» في مصر هي جمعة ما قبل الانفلات الكبير. وما هذا بمبالغة، وأشعر بالخوف وأنا أستخدم عبارة الانفلات الكبير، لما يعنيه هذا لبلد عربي قوامه أكثر من 80 مليون نسمة. لكن الأمور في مصر تأخذ منحى خطرا، ليس على الثورة فحسب بل على الوطن وعلى دول الجوار أيضا. المهم الآن هو معرفة الأسباب التي أوصلتنا إلى حافة الهاوية، وهل يمكن أن نتراجع عنها أو نوقف تلك المواجهة التي بدت حتمية في مصر، أم لا؟
أصل الأزمة في مصر اليوم هو تلك الفجوة التي تتسع يوما بعد يوم، ما بين توقعات الناس بما يمكن أن تنجزه الثورة، وما حصلوا عليه بالفعل بعد أن نقل مبارك صلاحياته الرئاسية وإدارة شؤون البلاد للمجلس العسكري. وسأضرب بعض الأمثلة لاتساع الفجوة بين التوقعات الثورية وما حصل عليه الناس، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الإحباط والغضب، ومعه تآكل الثقة بين المجلس العسكري والشعب، والأخطر أن ثقة الناس بدأت تهتز في الجيش ذاته، وهذا إنذار لشر كبير.
كانت هناك مثلا آمال في حرية الإعلام، فجاء المجلس العسكري بوزير إعلام أقرب إلى وزراء الإعلام في العهد الشمولي، أغلق القنوات الفضائية، ومنع الترخيص لقنوات جديدة، وصادر أعداد الصحف التي تنتقد المجلس، إلى آخر ممارسات الشمولية العتيدة. كان الناس يحلمون بنهاية نظام أمن الدولة وممارساته مثل التعذيب وتلفيق التهم، والتي أدت إلى اشتعال شرارة الثورة، وها هو أمن الدولة يمارس أساليب التعذيب نفسها بالصواعق الكهربائية كتلك التي رأيناها منشورة على الـ«يوتيوب». ليس هذا فقط، بل أشرك أمن الدولة بعض ضباط الجيش في تلك الممارسات وكأنه يدربهم عليها. وإذا ما رأى الناس ضابط جيش مصريا برتبة نقيب أو عقيد يمارس هذه الأساليب، فثقة الناس في الجيش سوف تهتز لا محالة، وقدرة الشعب على الغفران محدودة. بقي جهاز أمن الدولة سيئ السمعة، وبقيت ممارساته بعد الثورة وكأن شيئا لم يكن.. الثورة وئدت في المهد.
قامت الثورة من أجل إنهاء حالة الطوارئ التي تتخذ فيها الدولة إجراءات مبالغا فيها بعيدا عن الأطر القانونية المعروفة، وبالأمس انتهى زمن حالة الطوارئ كما حددها الإعلان الدستوري، ومع ذلك لم يصدر المجلس العسكري أي بيان يعني نهاية «الطوارئ»، بل زاد منها وغلظها بعد حادثة السفارة الإسرائيلية التي قيل إنها مفبركة لتثبيت حالة الطوارئ.
قامت الثورة من أجل إنهاء نظام البلطجة السياسية والثقافية والبلطجة الفعلية، لكن البلطجة في مصر هذه الأيام أصبحت ظاهرة عامة تشمل كل مناحي الحياة، بما فيها بعض عناصر الحكم وأدواته.
قامت الثورة من أجل إسقاط دستور 1971 بكل ما يحمله من مواد متخلفة ومقيدة للحريات، وقال اللواء ممدوح شاهين، مساعد وزير الدفاع «إن هذا الدستور سقط، ولذا لجأنا للاستفتاء على الإعلان الدستوري». وبعدها بشهور غير الإعلان الدستوري، وقال إن ما قام به المجلس مشروع في ظل الدستور، لأن الدستور لم يسقط. ولم يعرف المصريون هل سقط الدستور أم لم يسقط، ففي كل يوم تقريبا يظهر أحد اللواءات ويكلم فضائية من الفضائيات ويقول ما يعن له في اللحظة من دون دراسة، أو هكذا تبدو الأمور. فمن الواضح من مجمل القرارات التي اتخذت منذ الثورة أن «اللي يصحى بدري من الضباط وعنده فكرة ينفذها، ومش مهم إيه يحصل بعدين»، هكذا قال لي أحد المقربين من المشهد.
ثم جاء المجلس بدفتر حسني مبارك من الرئاسة على ما يبدو وقرأه، وتعامل مع مصر كما كان يتعامل معها مبارك. كان المجلس يريد حوارا مع المثقفين، فجاء بنفس الوجوه التي كان يطلبها مبارك عندما يريد حوارا مع المثقفين. أرادوا أن يديروا حوارا وطنيا فجاءوا بنفس «اللستة» الخاصة بمؤتمرات مبارك، نفس الوجوه ونفس الناس بل «نفس العواجيز»، كما يقول شباب الثورة.
الثورة تسير في اتجاه، والعسكر يسيرون في اتجاه. من يذكر منكم حادثة ذهاب الثوار إلى العباسية منذ شهر مضى للتظاهر أمام مقر المجلس العسكري؟.. يومها حدثت مصادمات يبدو أنها بروفة للقادم من مصادمات أعنف، إن لم يقرر المجلس أن يتخذ قرارات تتناسب مع طموحات الشعب من الثورة. حتى الآن هناك انطباع بأن المجلس يقف ضد الثورة، ومثل هذه الانطباعات في ازدياد، لكن المجلس العسكري يستمع إلى نصائح من هم كانوا في دفتر مبارك، وآخر تلك النصائح المكلفة هي تصوير المشير طنطاوي بالبدلة المدنية وسط شوارع القاهرة. من قدم هذه النصيحة للعسكر يبدو أنه لا يعرف أنها ستكون مصدر سخرية، وأن بداية تآكل الشرعية تأتي من السخرية، وهكذا كان. ودخلت بدلة المشير موسوعة سخرية المصريين كما دخلها أبو جلابية من قبل.
إن حالة تآكل شرعية المجلس العسكري ستدفعه لتسليم السلطة «لأي حد»، لأن السلطة بشكلها الحالي أصبحت كجمرة النار التي لا بد للمجلس أن يلقيها بعيدا قبل أن تحرقه، لكن سيلقيها لمن، أو على من؟ تلك ستكون بداية الانفلات الكبير. ما سوف تسفر عنه جمعة استرداد الثورة سيحدد حجم الانفلات الكبير المتوقع، لكن المؤكد أن الجميع سيتبادلون إلقاء الجمر على بعضهم بعضا، فكيف لنا أن نوقف هذا الانفلات؟.. هذا هو موضوع المقال القادم.
28/09/2011
مأمون فندي : في مصر "ضلمت تاني"
مَثَل جذوة نور الثورة في مصر كمثل لمبة كهرباء كبيرة أضاءت الدنيا، وبعدها «الدنيا ضلمت تاني»، ويروا إلى الأبد. بدت انطلاقة الثورة كمن يجرب الإنارة لأول مرة في بيت قديم أسلاكه مهترئة، على مدى ثمانية عشر يوما من الثورة كانت مصر كلها تنور وتطفي. «تستنغ... تستنغ» أو تجريب كم يقول فنيو الكهرباء. مصر كلها كانت تجرب إضاءة لمبة الحرية، وكانت اللمبة تضيء وتنطفئ بدرجات مختلفة ومدد مختلفة كل يوم، حتى أضاءت يوما كاملا من أول الليل حتى الصباح، يوم تنحي مبارك عن الحكم في 11 فبراير (شباط) 2011. وكانت مصر يومها في لحظة أشبه بلحظات المعجزات، شيء أقرب إلى انشقاق البحر لموسى، ومع ذلك لم يغرق الفرعون هذه المرة. انشق البحر وعبر الفرعون إلى شرم الشيخ، ثم عاد على سريره في المحكمة كما كنا نرى، ولم نعد نراه ولا يرانا الآن، لأن «الدنيا ضلمت تاتي».
في يوم 25 يناير (كانون الثاني) جربنا إضاءة اللمبة من أجل نور الله ونور الوطن، وأطفأها البوليس، في يوم 26 أوقدت اللمبة بقليل من دم الشهداء في السويس أولا، ومع ذلك استطاع البوليس أن يطفئها في نهاية اليوم. وكانت محاولات إضاءة لمبة الثورة مجرد محاولات للتجريب، نوقدها فيطفئها البوليس، حتى جمعة الغضب.. يوم هرب البوليس من الميدان وبدأت لمبة الثورة تنور وتطفي، حسب قدرات الوطن وطاقاته، وجاء الجيش الذي قال إنه حارس اللمبة. الجيش الذي حمى اللمبة وحامي الثورة، تلك الثورة التي لم يقتل شهداءها أحد، حسب شهادات الشهود الأخيرة. إذ يبدو، والله وحده أعلم، أن شهداء الثورة إما ماتوا بضربة كهرباء من إنارة لمبة الثورة، أو أنهم ماتوا نتيجة ضربة شمس من وقوفهم في الميدان، ماتوا لا بضربة سيف أو حتى بطعنة رمح، ماتوا بضربة شمس. هكذا تقول شهادات الشهود في محاكمة القرن، محاكمة مبارك في كلية الشرطة، وحتى الآن لم يعلق أحد على ذهاب هيئة المحكمة إلى مبنى كلية الشرطة، على الرغم من أن الطبيعي أو المفروض أن تقدم الشرطة للعدالة. العدالة تذهب إلى الشرطة ولا تذهب الشرطة إلى العدالة، إنها سخرية الأقدار. في رمزية انتقال العدالة إلى دار الشرطة بدلا من أن تقدم الشرطة للعدالة على جرائمها في حق الشعب المصري تلخيص لحالة الثورة في مصر. الثورة بدأت ترجع «بضهرها» للخلف، وأظلمت الدنيا مرة أخرى، أو أن سحابة سوداء تخيم على مصر، بما يوحي بظلام قادم، ولكنه ظلام ما قبل فجر جديد، أو هكذا يخيل لمن ما زال يحدوهم أمل في انتصار الثورة.. في مصر العدالة ذهبت إلى الشرطة وليس العكس.
من أسهم في إطفاء الأنوار؟ الذين أسهموا في إطفاء الأنوار في مصر وإسدال الستار على الثورة هي قوى مختلفة، البعض منها خارجي ممن لهم مصالح في أن يبقى على رأس الدولة في مصر رجل واحد يتخذ القرارات وتعقد معه الصفقات، كما كان الحال مع مبارك، وقوى داخلية لديها خوف شديد من موضوع التحول إلى الديمقراطية.
فيما يخص القوى الخارجية، أقول إن اللعب في كهرباء الثورة، وكما حذرت من قبل في مقال سابق على صفحات هذه الجريدة، بدأه بنيامين نتنياهو وحكومة إسرائيل، فقد حركت إسرائيل قواتها ودخلت طائراتها الحدود المصرية وقتلت من قتلت، وجاء الرد المصري متوقعا كما رسمت الحسابات الإسرائيلية، حالة غضب مصرية تبعتها عمليات تظاهر أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وبعدها أعلنت الحكومة في مصر حالة الطوارئ، أي شدت الفيشة من الحائط وأظلمت الدنيا، ويبدو أن ذلك لم يكن عفويا ولكنه جاء بترتيب.
أميركا أوباما، وبقراراتها المتعنتة تجاه إعلان الدولة الفلسطينية، تلك القرارات المصحوبة بأكبر ضجة إعلامية من أجل استفزاز المشاعر، أخذت الثورة بعيدا عن مسارها، بعيدا عن بناء الديمقراطية، وحولت الغضب الثوري من غضب ضد الأوضاع في الداخل، حولت الغضب الثوري إلى خارج مصر، كما كان يفعل مبارك بالحرف الواحد، فكلما اشتد الضغط على مبارك، كان صفوت الشريف يفتعل قضية خارجية يتبناها صحافيوه، ويتحول مسار الغضب مرة أخرى بعيدا عن القضايا الداخلية ويتوجه إلى الخارج. فبدلا من التركيز على الداخل المصري، أو حتى العربي برمته، أدخلتنا أميركا في نفق فلسطين مرة أخرى. ولا يجب أن نسيء الفهم هنا، ففلسطين مهمة جدا بالنسبة لنا، ولكن استخدامها بشكل تكتيكي لتفريغ الثورات من مضمونها هو أمر مقزز ومستفز. تغيير مسار الغضب الثوري لم يأت عفويا من قبل أميركا أو من قبل إدارة أوباما، بل كان بترتيب.
أما العوامل الداخلية فهي كثيرة، ولكنني أخص بالذكر منها تلك الزفة الإعلامية التي صاحبت محاكمة مبارك في كلية الشرطة، ووجود المناصرين لمبارك خارج الكلية بشكل مستفز، والصخب الإعلامي المصاحب للمشهد، كل هذا حول المحاكمة إلى شيء أشبه بمولد سيدنا الحسين. وكما في الموالد يذهب البسطاء للاحتفال وهناك وفي وسط الزحام تنشل أو تسرق من كل منهم حافظة نقوده التي بها تحويشة العمر. ذهب أبناء الثورة إلى مولد سيدي مبارك وهنا لم تسرق منهم حافظة النقود فقط، بل سرقت منهم الثورة.
*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية.