إزكيل زيدنفرغ
قد مات الشعر. في تلك الصورة
التي حامت حول العالم، حول الجثة
تُلاحَظ رفقة غريبة: ثلاثة
مَدنيِّين (اثنان ينظران إليه في فضول والثالث
يحوّل وجهة نظرته)، دركيان
بوجه الخائف، ومصور فوتوغرافي
يبدو مدبرا وثلاثة أرباع من جسده
خارج إطار الصورة، وضابطان
يلبسان الزي العسكري مزينا بالشرائط:
أحدهما يُحدِّقُ في آلة التصوير التي يسددُها نحوه المصورُ
بينما هو يسند الرأسَ ساكنة،
يتخذ وضع قناصٍ مع أسلابه
والآخرُ الذي يبدو برتبة أعلى
يشير بسبابة يده اليمنى
إلى المكان حيث كان القلب يخفق،
كما لو أنه بلمسته يستطيع أن يرد إليه الحياة،
بالعينين مفتوحتين والنظرة الصافية
كان الجسد يبدو راغباً في أن يستوي مثل ألعازر
الذي كان إلى الحياة قد عاد بجهدٍ جهيدٍ لِهُنَيْهَةٍ
لكي يغرق للتو مجدداً
في الموت.
قد مات الشعر.
وأتصورُ
ما الذي يقوله أولئك الذين يؤمنون به
لكي يجدوا له تبريراً
(مثلما هو الشأنُ دوماً)
في أنَّه ليس الضوء،
بل كان قد أتى كشهادة على الضوء
وأنه أتى مع أهله
لكن أهله لم يستقبلوه.
من المؤكد أن الأمور قد حدثت هكذا:
كان الوقت فجراً حينما ألقينا القبض عليه
جريحاً برصاصة في ساقه
بعد كمين كان قد امتد
من منتصف النهار حتى وقت متأخر جداً
بعد أن تغلغل الليل.
في تلك الأحوال، ورغم كل شيء،
- إذ فضلا عن الساق، كان الربو يضغط
على رئتيه- كان مُصِرّاً على القتال،
حتى صارت بندقيته غير صالحة كلياً للاستعمال
بسبب طلقة كانت قد كسرت ماسورتها،
كما أن المسدس الذي كان يحمله
كان مشط ذخيرته فارغاً.
لما نُقِلَ إلى الثكنة
(التي كانت مدرسة) وعند استنطاقه
قال: إن الجَمال كان جَلَدا وصبراً
وحدثنا عن الزنبق- لكن كيف
تكون زنبقة؟ أنا هُنا لمْ أرَ قَطُّ زنبقة-
وعن كيف يهجم نهارٌ ما
في الأرياف
بعد ليال وليال تحت الأرض
من الساق الأخضر إلى التويج الأبيض،
لكن عبر هذه الامتدادات
كلُّ شيْء ينمو في فوضى وبلا غاية،
وأنا الذي أتيت إلى هذا العالم وتربَّيْتُ
بشكلٍ فظٍّ ضدَّ الكُلِّ ورغماً عن الكُلِّ،
مثل العشب الذي ينبثق من بين شقوق الإسفلت
والذي تدوسه السيارات حين تمر – لكن هنا
لا نملك طرقاً مسفلتة والسيارات لا تكاد توجد-
لم أكن أستطيع فهمه، هو الذي وُلِدَ من أجل كل شيء،
حسابٌ دقيقٌ لأبويه
واستثمار تجاه المستقبل
- الزمن بالنسبة له كان سهماً يتقدم بوعي
نحو ختامه، بينما كان بالنسبة لي حلقة مضبوطة
ليس بسبب استعجال الرغبة ولا بسبب الآثار الخرساء للغريزة،
بل بالأحرى بسبب شيء مقدس وإن كان قديما-
لم أكن أستطيع استيعاب أنه قد هجر
ما كان قد تركه خلفه (أغيابٌ بغية
وجود مريح أو لربما الإفراط
في العزيمة؟) لكي يأتي إلى هذا القفر
حيث كل شيء ينمو لكن لا شيء
يفيض عن الحاجة أكثر من الجوع،
ليدور في حلقات ويرى كيف يتساقط الرفاق
واحداً واحداً، في قتال ضد خصم لا يعدُّ ولا يُحصى
لكنه منقسم على ذاته إلى ما لا نهايةٍ من أجل المجد
المنتصر لفكرةٍ: نحن الذين وُلِدنا
في أقصى بقاع الأرض
حيث الطبيعة بعد
ما تزال مفصولة عن إرادة الإنسان،
في حيواتنا نتعلم مبكرا أن الحرية
ليست شيئا من هذا العالم وأن الحبَّ
فعلٌ وليس قوة.
لكني لم أقل شيئاً.
وبعدها ساد صمتٌ:
بينما كنا نستنطقه، تلقينا
الأمر بقتله. (أما أمر اليدين فكان بعد موته،
لكني لم أره. حكي لي، فضلاً عن ذلك
أنهم قد أمروا بقطع الرأس،
وأن شخصا ما امتنع عن ذلك)،
انصرمت ساعاتٌ.
وقال لنا ذو المرتبة الرفيعة أن ننتظر
لنرى إن لم يكن ثمة إلغاء للأمر
لم يصل بعد (في الإذاعة كانوا قد أعلنوا موته).
كان قد انتصف النهار، وكان يجبُ أن يُقتَلَ.
وأما النهاية التي عرفتها الأحداث،
فليس حقيقة ما يُقالُ: لم نكن نتجرأ،
لقد أسكرونا لكي يمنحونا الشجاعة،
ولا حتى على تلك الحال كنا نستطيع أن نفعل.
نحن ببساطة
نفذنا ما أمرونا به،
دخلنا القسم حيث كان لدينا هناك
وقتلناه كما يُقتَلُ حيوانٌ
لأجل الأكل.
* Ezequiel Zaidenwerg: شاعر ومترجم أرجنتيني من مواليد بوينوس أيريس سنة 1981 مقيم في نيويورك، وهو من الأصوات الشعرية الجديدة في المشهد الشعري بأمريكا اللاتينية، نشر عدداً من المجموعات الشعرية وأنطولوجيا شعرية جمع فيها 33 شاعراً من الأرجنتين.
* ترجمة عن الإسبانية: خالد الريسوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى