«ناجي العلي».. عصفور احترف الحرية فمات خارج الأوطان
«ناجي العلي».. عصفور احترف الحرية فمات خارج الأوطان العلي
العلي: فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة.. إنها بمسافة الثورة
يقول إن «الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة»، وعندما سُئل عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، يشدد دائمًا «كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي.. أنا أعرف خطًا أحمر واحدًا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل»، ويؤكد «يا وطني كل العصافير لها منازل.. إلا العصافير التي تحترف الحرية.. فهي تموت خارج الأوطان»...
ناجي العلي، نبض لم يزل فينا، كان يشبه «حنظلة» بسخريته عندما كان طفلًا، لكنه تميز كذلك بالنقد اللاذع الذي يعمّق عبر اجتذابه للاتنباه الوعي الرائد، من خلال رسومه الكاريكاتيرية، ويعتبر من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملو على ريادة التغيّر السياسي باستخدام الفن كأحد أساليب التكثيف، له 40 ألف رسم كاريكاتوري، اغتاله شخص مجهول في لندن عام 1987م.
تمر اليوم ذكرى اغتياله، لتعلن أن نحو ثلاثة عقود مرت على استشهاد فنان الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، وما زال الفلسطينيون يحيون ذكراه ويبدون اشتياقهم لرسوماته الحادة والرشيقة.
ناجي العلي.. نبضٌ لم يزل فينا
في كتاب قديم بعنوان «ناجي العلي.. نبضٌ لم يزل فينا»، أعده للنشر الناقد سليم النجار والباحث نضال القاسم والشاعر أحمد أبو سليم، وشارك فيه بمقالات وشهادات 20 شاعرًا وقاصًا ورائيًا وناقدًا وباحثًا وتشكيليًا وإعلاميًا، يقول معده "لا معنى للنظر إلى الوراء إلا لمعرفة أين نحن الآن؟ ونحن إذ نحاول قراءة الماضي الذي لم يمض بعد، نحاول أن نتجاوز سؤال البقاء إلى سؤال الوجود الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة الذات».
وكتب فيه الشاعر أحمد أبو سليم ليطلب من العلي صديق حنظلة، أن ينام قرير العين «لأن الملايين ما زالوا يحلمون مثلما كنت تحلم بتحرير فلسطين من الماء إلى الماء». إنها الرؤية التى ترى في حنظلة «رواية الرفض وتأويلات السخرية» بحسب ما كتب الروائي أحمد الطراونة في مقالته للكتاب.
الطراونة وفيما هو يستعرض مفاصل من تجربة ناجي ومسيرته، يخلص إلى أن لوحة الفنان تفسح لها مكانًا باعتبارها رواية لها خطابها وبنيتها السردية وأبطالها وزمنها ومكانها وشكلها البنيوى التقني ليختم بالقول: «قدم ناجي العلي روايته وشهد على جلاديه قبل أن يموت، وترافع عن أمته قبل أن تخذل دفاعاته».
الكاتب أحمد طملية رأى فى مداخلته أن فيلم «ناجي العلي».. يغتال ناجي العلي، متطرقًا للفيلم السينمائي الذي يتناول حياته من إخراج المصري الراحل عاطف الطيب، وسيناريو الكاتب بشير الديك، طملية يرى أن الذين عملوا فى فيلم ناجي العلي لا يعرفونه «أو بالأحرى لم يلتقطوا النبض الذي خفق في صدره، فجاء الفيلم مفتعلًا».
الشاعر أديب ناصر قدم للكتاب مشاركة حملت عنوان «ناجي العلي.. الغائب الحاضر، بل الأكثر حضورًا» التي عبقت بلغة وجدانية محبة للعلي ومتأثرة به.
القاصة إنصاف قلعجى نادت قائلة: «يا حنظلة العربي: لا تصالح» وهو نداء حفل باقتباسات شعرية وتراثية، وحفل قبل أي شئ بموقف نهائي مع المقاومة والمقاومين والشهداء وحَسُن أولئك سبيلاً. أما الروائى والتشكيلي حسين نشوان، يختار في سياق حصّته من الكتاب، وجهة أخرى، ترصد «تضادات اللون في رسومات ناجي العلي»، وتحاول أن تقدم رؤية نقدية لأعمال العلي ورسوماته وفلسفته الإبداعية الجمالية الأخلاقية. وبحسب نشوان، فقد شكّلت رسومات ناجى مدونة، وتاريخًا للمقاومة والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
ونشر في نفس الكتاب مقالات أخرى للدكتور حكمت النوايسة ورشاد أبو شاور وسامية العطعوط وسليم النجار، وغيرهم، كلهم قاربوا النظرة نحو «الناجي»، وكأننا نراه وهو يصور كيف يحمل الفلسطيني نعش أيامه ومذلتها، أو كيف تنقش الأم التي استشهد أولادها كعك العيد وتحمله بأساول الاحتلال.
محمود درويش يكتب عن ناجي العلي:
لا أعرف متى تعرفت على ناجي العلي.. ولا متى أصبحت رسومه ملازمة لقهوتي الصباحية الأولى.. لكنني أعرف أنه جعلني ابدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة..
كان يسخر من نفسه لأن الغزاة في صيدا ظنوه شيخًا طاعنًا في السن بسبب بياض شعره، سألني إلى أين أرحل؟ قلت سأنتظر إلى أن أعرف، وسألته إن كان سيبقى فقال إنه سينتظر إلى أن يعرف، لم يكن أحد منا خائفًا، لأن المشهد الدرامي في بيروت كان أكبر من أية عاطفة، فرسم بيروت وردة وحيدة، ولم نعلم ولم يعلم أحد أن وراء الوردة وحشًا يتقدم من مخيماتنا...
لم نعلم أن الخناجر والسكاكين كانت تشحذ جيدًا في ذلك الليل لتقطع أثداء أمهاتنا.. فقد كنا غائبين عن وعي التكهن، ونحن ننظر إلى البحر الغارق في البحر، ورأيته للمرة الأخيرة في باريس، لم يتذكر إلا بيروت، قلت له مازحًا: أما زلت تنجو لأن الغرباء يظنون أنك شيخ طاعن في السن؟
كان يشكو من رئيس التحرير السابق، قلت له: اهدأ، فقد آن لك أن تجد التوازن بين يديك الذهبية ومزاجك العاصف، وكان يهدأ رويدًا رويدًا، خطرت له خاطرة، تعال نعمل معًا، أنت تكتب وأنا أرسم، وكنا صديقين دون أن نلتقي كثيرًا، لا أعرف عنوانه ولا يعرف عنواني، تكلمنا مرة واحدة حين امتنعت جريدته عن نشر إحدى مقالاتي التي أدافع فيها عن نفسي أمام هجمات إحدى المجلات.
قال: سأدافع عن حقك في التعبير وسأتخذ موقفًا، قلت له اهدأ، وكنت أكتب، وكان يرسم، جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون إنه أصبح جامحًا، وإن النار المشتعلة فيه تلتهم كل شئ لأن قلبه على ريشته، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأي شئ حسابًا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد أن يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة، مرة واحدة من النهر إلى البحر، وإلا لن يغفر لأحد، وأعلن الخلاف مع الجميع وخدش الجميع بريشة لا ترحم ولا تصغي للأصدقاء الذين قالوا له: "يا ناجي لا تجرح روحك إلى هذا الحد، فالروح جريح".
وكان الأعداء يسترقون السمع إلى هذا الخلاف وكانوا يضعون الرصاصة في المسدس، كانوا يصطادون الفرصة.
وكنت أكتب وكان يرسم، وحين استبدل عبارتي "بيروت خيمتنا الأخيرة" بعبارته اللاذعة "محمود خيبتنا الأخيرة"، كلمته معاتبًا، فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني أحبك ولأني حريص عليك مما أنت مقدم عليه، ماذا جرى، هل تحاور اليهود، اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران، لم يكن سهلاً علي أن اشرح له، لم يكن سهلًا أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: "لا أفهم هذه المناورات، لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية".
كان غاضبًا على كل شئ فقلت له: مهما جرحتني فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة، ولكن بعدما صرت "خيبتك الأخيرة"، لم يعد من الضروري أن نكتب وأن نرسم معًا.
وافترقنا كما التقينا على الهواء، حين استشهد ناجي العلي، سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقًا آخر، صديقًا مبدعًا، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء أن يديروا حوار الخلاف بيننا إلى الحدود التي يريدونها، ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة إلى مشاهدين، فلماذا يغتالون الشهداء مرة ثانية، بأن يضفوا عليهم هوية ليست لهم، إن ناجي العلي لنا، منا، ولنا، ولنا، لذا ليس من حق سفاحي الشعب الفلسطيني أن يسرقوا دمعنا، ولا أن يخطفوا منا الشهيد، فهذا الشهيد الذي كان شاهدًا علينا هو شهيد ثقافتنا، شهيد الطرق المتعددة إلى الوطن، وهو ابننا وأخونا ورفيق مذابحنا وأحلامنا، وخالق حنظلة الخالد، القادر أن يسمي هويتنا بتأتأة تضحكنا وتبكينا، من الطبيعي أن يتكاثر الذباب حول الدم، فهل أخذ الذباب وقتًا كافيًا ليعتاش من دمنا المسفوك في كل ناحية؟ كفى… كفى…
إن تعميم إبداع ناجي العلي على جيل اليوم وجيل الغد هو مهمتنا… وإن تكريم هذا المبدع هو واجبنا… ومن كان منا بلا خطأ أو خطيئة فليطبق بصوابه المطلق على عمرنا كله…
ناجي العلي وغسان كنفاني
غسان كنفاني، أديب المقاومة، الذي كان من أبرز الكتاب الروائيين والقصصيين الفلسطينيين في نهاية خمسينات القرن الماضي وحتى أوائل سبعيناته، كان من أوائل الذين أظهروا موهبة ناجي العلي الفنية، ونشر له في مجلة "الحرية" اللبنانية أربع لوحات في 25/9/1961، كانت هي اللوحات الأولى التي تنشر لناجي، وأشهرها اللوحة التي تبرز فيها شعلة التمرد والثورة ممسوكة بيد قوية مصممة بعدما مزقت سقف خيمة التشريد والنكبة.
لقد كشف ناجي العلي في مقابلات صحافية واقعة زيارة غسان كنفاني لمخيم عين الحلوة ولقاءه به، واختيار الأخير أربع لوحات له نشرها بعد ذلك في مجلة "الحرية" وأرفقها بمقالة له عن ناجي، واللوحات تحت عنوان "ينتظر أن نأتي" جاء فيها: "إن الحدة التي تتسم بها خطوطه، وإن قساوة اللون الراعبة، وإن الانصباب في موضوع معين يدلل على ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف".
«ناجي العلي».. عصفور احترف الحرية فمات خارج الأوطان العلي
العلي: فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة.. إنها بمسافة الثورة
كتب - أحمد نبيل
يقول إن «الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة»، وعندما سُئل عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: «عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته»، يشدد دائمًا «كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي.. أنا أعرف خطًا أحمر واحدًا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل»، ويؤكد «يا وطني كل العصافير لها منازل.. إلا العصافير التي تحترف الحرية.. فهي تموت خارج الأوطان»...
ناجي العلي، نبض لم يزل فينا، كان يشبه «حنظلة» بسخريته عندما كان طفلًا، لكنه تميز كذلك بالنقد اللاذع الذي يعمّق عبر اجتذابه للاتنباه الوعي الرائد، من خلال رسومه الكاريكاتيرية، ويعتبر من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين عملو على ريادة التغيّر السياسي باستخدام الفن كأحد أساليب التكثيف، له 40 ألف رسم كاريكاتوري، اغتاله شخص مجهول في لندن عام 1987م.
تمر اليوم ذكرى اغتياله، لتعلن أن نحو ثلاثة عقود مرت على استشهاد فنان الكاريكاتير الفلسطيني الشهير ناجي العلي، وما زال الفلسطينيون يحيون ذكراه ويبدون اشتياقهم لرسوماته الحادة والرشيقة.
ناجي العلي.. نبضٌ لم يزل فينا
في كتاب قديم بعنوان «ناجي العلي.. نبضٌ لم يزل فينا»، أعده للنشر الناقد سليم النجار والباحث نضال القاسم والشاعر أحمد أبو سليم، وشارك فيه بمقالات وشهادات 20 شاعرًا وقاصًا ورائيًا وناقدًا وباحثًا وتشكيليًا وإعلاميًا، يقول معده "لا معنى للنظر إلى الوراء إلا لمعرفة أين نحن الآن؟ ونحن إذ نحاول قراءة الماضي الذي لم يمض بعد، نحاول أن نتجاوز سؤال البقاء إلى سؤال الوجود الذي تحقق فيه الذات حرية محاكمة الذات».
وكتب فيه الشاعر أحمد أبو سليم ليطلب من العلي صديق حنظلة، أن ينام قرير العين «لأن الملايين ما زالوا يحلمون مثلما كنت تحلم بتحرير فلسطين من الماء إلى الماء». إنها الرؤية التى ترى في حنظلة «رواية الرفض وتأويلات السخرية» بحسب ما كتب الروائي أحمد الطراونة في مقالته للكتاب.
الطراونة وفيما هو يستعرض مفاصل من تجربة ناجي ومسيرته، يخلص إلى أن لوحة الفنان تفسح لها مكانًا باعتبارها رواية لها خطابها وبنيتها السردية وأبطالها وزمنها ومكانها وشكلها البنيوى التقني ليختم بالقول: «قدم ناجي العلي روايته وشهد على جلاديه قبل أن يموت، وترافع عن أمته قبل أن تخذل دفاعاته».
الكاتب أحمد طملية رأى فى مداخلته أن فيلم «ناجي العلي».. يغتال ناجي العلي، متطرقًا للفيلم السينمائي الذي يتناول حياته من إخراج المصري الراحل عاطف الطيب، وسيناريو الكاتب بشير الديك، طملية يرى أن الذين عملوا فى فيلم ناجي العلي لا يعرفونه «أو بالأحرى لم يلتقطوا النبض الذي خفق في صدره، فجاء الفيلم مفتعلًا».
الشاعر أديب ناصر قدم للكتاب مشاركة حملت عنوان «ناجي العلي.. الغائب الحاضر، بل الأكثر حضورًا» التي عبقت بلغة وجدانية محبة للعلي ومتأثرة به.
القاصة إنصاف قلعجى نادت قائلة: «يا حنظلة العربي: لا تصالح» وهو نداء حفل باقتباسات شعرية وتراثية، وحفل قبل أي شئ بموقف نهائي مع المقاومة والمقاومين والشهداء وحَسُن أولئك سبيلاً. أما الروائى والتشكيلي حسين نشوان، يختار في سياق حصّته من الكتاب، وجهة أخرى، ترصد «تضادات اللون في رسومات ناجي العلي»، وتحاول أن تقدم رؤية نقدية لأعمال العلي ورسوماته وفلسفته الإبداعية الجمالية الأخلاقية. وبحسب نشوان، فقد شكّلت رسومات ناجى مدونة، وتاريخًا للمقاومة والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.
ونشر في نفس الكتاب مقالات أخرى للدكتور حكمت النوايسة ورشاد أبو شاور وسامية العطعوط وسليم النجار، وغيرهم، كلهم قاربوا النظرة نحو «الناجي»، وكأننا نراه وهو يصور كيف يحمل الفلسطيني نعش أيامه ومذلتها، أو كيف تنقش الأم التي استشهد أولادها كعك العيد وتحمله بأساول الاحتلال.
محمود درويش يكتب عن ناجي العلي:
لا أعرف متى تعرفت على ناجي العلي.. ولا متى أصبحت رسومه ملازمة لقهوتي الصباحية الأولى.. لكنني أعرف أنه جعلني ابدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة..
كان يسخر من نفسه لأن الغزاة في صيدا ظنوه شيخًا طاعنًا في السن بسبب بياض شعره، سألني إلى أين أرحل؟ قلت سأنتظر إلى أن أعرف، وسألته إن كان سيبقى فقال إنه سينتظر إلى أن يعرف، لم يكن أحد منا خائفًا، لأن المشهد الدرامي في بيروت كان أكبر من أية عاطفة، فرسم بيروت وردة وحيدة، ولم نعلم ولم يعلم أحد أن وراء الوردة وحشًا يتقدم من مخيماتنا...
لم نعلم أن الخناجر والسكاكين كانت تشحذ جيدًا في ذلك الليل لتقطع أثداء أمهاتنا.. فقد كنا غائبين عن وعي التكهن، ونحن ننظر إلى البحر الغارق في البحر، ورأيته للمرة الأخيرة في باريس، لم يتذكر إلا بيروت، قلت له مازحًا: أما زلت تنجو لأن الغرباء يظنون أنك شيخ طاعن في السن؟
كان يشكو من رئيس التحرير السابق، قلت له: اهدأ، فقد آن لك أن تجد التوازن بين يديك الذهبية ومزاجك العاصف، وكان يهدأ رويدًا رويدًا، خطرت له خاطرة، تعال نعمل معًا، أنت تكتب وأنا أرسم، وكنا صديقين دون أن نلتقي كثيرًا، لا أعرف عنوانه ولا يعرف عنواني، تكلمنا مرة واحدة حين امتنعت جريدته عن نشر إحدى مقالاتي التي أدافع فيها عن نفسي أمام هجمات إحدى المجلات.
قال: سأدافع عن حقك في التعبير وسأتخذ موقفًا، قلت له اهدأ، وكنت أكتب، وكان يرسم، جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون إنه أصبح جامحًا، وإن النار المشتعلة فيه تلتهم كل شئ لأن قلبه على ريشته، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأي شئ حسابًا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد أن يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود إلا مرة واحدة، مرة واحدة من النهر إلى البحر، وإلا لن يغفر لأحد، وأعلن الخلاف مع الجميع وخدش الجميع بريشة لا ترحم ولا تصغي للأصدقاء الذين قالوا له: "يا ناجي لا تجرح روحك إلى هذا الحد، فالروح جريح".
وكان الأعداء يسترقون السمع إلى هذا الخلاف وكانوا يضعون الرصاصة في المسدس، كانوا يصطادون الفرصة.
وكنت أكتب وكان يرسم، وحين استبدل عبارتي "بيروت خيمتنا الأخيرة" بعبارته اللاذعة "محمود خيبتنا الأخيرة"، كلمته معاتبًا، فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني أحبك ولأني حريص عليك مما أنت مقدم عليه، ماذا جرى، هل تحاور اليهود، اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران، لم يكن سهلاً علي أن اشرح له، لم يكن سهلًا أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: "لا أفهم هذه المناورات، لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية".
كان غاضبًا على كل شئ فقلت له: مهما جرحتني فلن أجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة، ولكن بعدما صرت "خيبتك الأخيرة"، لم يعد من الضروري أن نكتب وأن نرسم معًا.
وافترقنا كما التقينا على الهواء، حين استشهد ناجي العلي، سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقًا آخر، صديقًا مبدعًا، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء أن يديروا حوار الخلاف بيننا إلى الحدود التي يريدونها، ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة إلى مشاهدين، فلماذا يغتالون الشهداء مرة ثانية، بأن يضفوا عليهم هوية ليست لهم، إن ناجي العلي لنا، منا، ولنا، ولنا، لذا ليس من حق سفاحي الشعب الفلسطيني أن يسرقوا دمعنا، ولا أن يخطفوا منا الشهيد، فهذا الشهيد الذي كان شاهدًا علينا هو شهيد ثقافتنا، شهيد الطرق المتعددة إلى الوطن، وهو ابننا وأخونا ورفيق مذابحنا وأحلامنا، وخالق حنظلة الخالد، القادر أن يسمي هويتنا بتأتأة تضحكنا وتبكينا، من الطبيعي أن يتكاثر الذباب حول الدم، فهل أخذ الذباب وقتًا كافيًا ليعتاش من دمنا المسفوك في كل ناحية؟ كفى… كفى…
إن تعميم إبداع ناجي العلي على جيل اليوم وجيل الغد هو مهمتنا… وإن تكريم هذا المبدع هو واجبنا… ومن كان منا بلا خطأ أو خطيئة فليطبق بصوابه المطلق على عمرنا كله…
ناجي العلي وغسان كنفاني
غسان كنفاني، أديب المقاومة، الذي كان من أبرز الكتاب الروائيين والقصصيين الفلسطينيين في نهاية خمسينات القرن الماضي وحتى أوائل سبعيناته، كان من أوائل الذين أظهروا موهبة ناجي العلي الفنية، ونشر له في مجلة "الحرية" اللبنانية أربع لوحات في 25/9/1961، كانت هي اللوحات الأولى التي تنشر لناجي، وأشهرها اللوحة التي تبرز فيها شعلة التمرد والثورة ممسوكة بيد قوية مصممة بعدما مزقت سقف خيمة التشريد والنكبة.
لقد كشف ناجي العلي في مقابلات صحافية واقعة زيارة غسان كنفاني لمخيم عين الحلوة ولقاءه به، واختيار الأخير أربع لوحات له نشرها بعد ذلك في مجلة "الحرية" وأرفقها بمقالة له عن ناجي، واللوحات تحت عنوان "ينتظر أن نأتي" جاء فيها: "إن الحدة التي تتسم بها خطوطه، وإن قساوة اللون الراعبة، وإن الانصباب في موضوع معين يدلل على ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كاف".
رحم الله الفنان المقاتل رمزا لقهر الأمة
ردحذف